مناقشة الفيدرالية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لم نطرح موضوع الفيدرالية في المقال السابق عبثا أو من فراغ ، فقد عانت الدول المركزية المصطنعة بعد الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط من الاستبداد ومن تحكم العسكر والأقليات والتعصب العنصري والتطرف الآيديولوجي القومي والسياسي ، ودخل معظمها في حالة الفشل والحروب الأهلية . حتى أصبح من الضروري السير خطوة نحو الوراء لإعادة بناء الوحدة السياسية ليس الوطنية بل الاقليمية على أسس اتحادية جديدة بعد أن فشلت الوطنيات المصطنعة في الحفاظ على التعايش السلمي داخل مجتمعاتها . فتفكك الحالة الوطنية إلى ما هو قبلها من انقسامات أهلية قومية ودينية وطائفية ، لا يعني أن هذا الفتات قابل للحياة ككيانات سياسية اقتصادية ودول مستقلة ، بل يفتح الباب نحو انتاج اتحادات اقليمية أوسع ومختلفة التكوين ، فالمنطقة محكومة تاريخيا بالتعايش المشترك ، ومكوناتها العرقية والدينية متداخلة بشدة ناهيك عن الترابط الاقتصادي والأمني . وهذا كله سيدفع نحو الوحدة لكن على أسس جديدة ، تشبه في تركيبها الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية ، كبديل حديث عن النظام الامبراطوري الذي ساد المنطقة تاريخيا ، وهو البديل الوحيد عن النظم الوطنية البائدة الذي يتناسب مع توجه العالم نحو الاندماج . الفيدرالية بنظرنا مشروع وحدة اقليمية وليس تقسيم وطني ، فهي خطوة نحو الوراء تؤسس لخطوتين نحو الأمام .

الحرب الدامية التي شهدتها سوريا أثبتت قوة نفوذ الدول الجارة ، وكذلك دور ونفوذ الدول العظمى ، وتأثير قوى اقليمية متصارعة صارت حليفا لمكونات محلية ، مما قوض عمليا كل عناصر الاستقلال ، وجعل من التوافق على دولة مركزية أمرا يشبه المستحيل، فكل الأطراف والقوى المحلية المتصارعة مع بعضها بين الخندقين وداخل كل خندق قد أصبحت هزيلة ومهترئة وفاقدة لقرارها ، مسلوبة الإرادة ، ومرتهنة للغير المتضارب المصالح .

لا يخفى على أحد وجود رغبة دولية طاغية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ، وبشكل خاص تقسيم العراق وسوريا وتركيا وإيران ، واستخدام القضية الكردية كمفتاح لإطلاق هذا التقسيم ، فأي حل دولي ، أو داخلي ، أو تطبيق ديموقراطي سينتهي لذلك ، بعد أن تمسك الكرد بحقوقهم القومية وفشلت الدول المختلفة في جعلهم مواطنين يشعرون بالعدل . ولم يعد السؤال هل ستقوم دويلات كردية أم لا ؟  بل صار هل ستقوم دولة كردية قومية واحدة ديموقراطية ، أم دويلات عصبوية استبدادية متنازعة ؟  وهل سيتم رسم حدودها عبر الحروب والتهجير ، أم بالتفاوض ؟  وهل ستتحقق الطموحات القومية الكردية على حساب مصالحهم المشتركة الكثيرة والمتنوعة مع بقية شعوب المنطقة  ؟ أم بالتفاهم الهادف للحفاظ على الشراكة بينهم ؟ … هل ستقام كيانات كردية استبدادية تضطهد الأقليات داخلها وذات حدود عدائية مع جيرانها ، أم ستقوم ضمن صيغة اتحادية مرنة تحترم التنوع وحقوق الانسان وتسمح باستمرار التعايش المشترك التاريخي بين العرب والكرد والتركمان والفرس ، وتحقق المصالح المشتركة لكامل المنطقة حيث لا مكان في عالم اليوم إلا للاتحادات الكبيرة ؟

أما قيام الإمارات والدويلات الطائفية ، فلا أحد يرى أنها قابلة للحياة أو مقبولة بالنظر لطبيعتها الإجرامية والترهيبية التي تخالف جوهر الديانات وروح العصر وتتعارض مع مصالح حتى حاضنتها الاجتماعية … لكن أيضا يجب ملاحظة عدم نضوج المجتمعات المدنية لاستيعاب هذا التباين الذي تحول لتناحري عنيف ، مما يطرح ضرورة الاعتراف به وتمثيله بطريقة ما تخفف من عدائيته وتناحراته، عبر تقسيمات ادارية تفصل إلى حد ما بين هذه العصبيات وتخفف من عوامل الصراع ، من دون أن تكرسه كشكل سياسي نهائي ، أو كمانع للتعاون الاقتصادي والسياسي والأمني الضروري لانتعاش المنطقة … كما أن الدول النافذة التي ما تزال تتفق على عدم تغيير خريطة سايكس بيكو حاليا ، ترى أنه من الضروري تغيير صيغة هذه الدول التي فشلت عمليا ( لبنان ، العراق ، سوريا …  والحبل على الجرار ) ، وتطرح موضوع الصيغة الفيدرالية للدولة كحل ، بهدف الحفاظ على الخريطة السياسية الراهنة ولو شكليا ومؤقتا .

بعد سنوات الصراع الصعبة في سوريا ، لم يعد من الممكن القفز فوق نتائجها نحو السلام وكأن شيئا لم يحصل ، لقد عانت سوريا طويلا قبل ذلك بسبب الدولة المركزية المؤدلجة ثم الطائفية ثم دولة العصابة الفاسدة التي استخدمت السلطة للسيطرة ونهب الثروة واحتكارها ، ثم قام جيشها الوطني بتدميرها وخدمة مشاريع طائفية وجيوش احتلال … فتعمقت ردا على ذلك ليس ثقافة الديموقراطية بل ثقافات مضادة عنيفة من ذات الطبيعة ، ولتفكيك هذا الاشتباك لا بد من تغيير قواعد السلطة القائمة بواسطة صيغة الحكم المحلي الفيدرالي غير المؤدلج ، فهذا قد يفتح الباب لممارسات أكثر ديموقراطية ، ولعودة تدريجية للسلم والاستقرار .

كما أن انسحاب وتخلي الغرب عن دعم المعارضة واصرار الروس والإيرانيين على انتصار النظام ، وتبني المجتمع الدولي لفكرة اعادة انتاج النظام ، تطرح خيارات صعبة أمام غالبية الشعب السوري المهزوم عسكريا ، وللهروب من هذه الخيارات الصعبة لا بد من مناورات سياسية تفضي لتفكيك النظام السابق ومؤسساته ، وتغيير نمط الحياة السياسية جذريا ، عبر طروحات تحقق مصالح الدول النافذة جزئيا من دون المرور عبر استمرار سلطة ونظام القمع والإجرام على الأقل مرحليا ، حيث لا شيء يمنع الشعب السوري من اعادة بناء وحدته وتطويرها لو أراد ذلك في المستقبل …

أخيرا أرى أنه من مصلحة الثورة التي دخلت مرحلة صعبة أن تبحث عن المخارج السياسية المتاحة ، وأهمها في ظل هذه الظروف هو الطرح الفيدرالي الذي يلغي الأسس التي تؤدي لاعادة انتاج النظام ، وتكريس الاحتلال ، واستمرار ونجاح عمليات التغيير الديموغرافي الخطيرة الحادثة . خاصة عندما تتم عملية اعادة الاعمار في ظل هكذا نظام … وهذا كله يجب أن يكون مطروحا للنقاش بين الحريصين على استعادة وطنهم والتخفيف عن أهلهم الذين ضاقت بهم الأرض وانسدت أمامهم السبل.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.