المحلل السياسي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

أن تقول رأيا لا تلتزم به ، أو تطالب الآخرين بموقف لست مسؤولا عن تنفيذه ، فأنت محلل سياسي ، تظهر مرتاحا على الشاشات، ليس لديك تاريخ ، وليس عندك التزام ، ولا تتحمل أي مسؤولية عن الكلام الذي تقوله ، سقفك فوق الجميع ، والجميع بالمقارنة معك يداري ويجامل ولا يقول الحقيقة كاملة من دون توظيف …لدرجة تجعلك تعتقد أنك صوت الضمير ، مع أن ما تقوم به هو مظهر آخر من مظاهر الانتهازية التي تسلقت على أكتاف الثورة . فبدل أن تقول هذا رأيي وأنا ملتزم بتنفيذه ( تتحدث عن مواقف الآخرين  ، وتعرض الموضوع وكأنك ساكن في المريخ مثلا ، و تذهب لتنام في سريرك بعد أن تؤكد على ضرورة مقالتة النظام وايران والعالم ) فالناشط الثوري الذي يسكن شوارع استنبول والقاهرة ، والضابط الذي يصر على رتبته العسكرية وكأنه قد عاد للتو من جبهات القتال ، والناشط الإعلامي الذي يتابع الأحداث على الفيس وغرف الدردشة ، أو عضو المعارضة الذي يعيش في الفندق وليس لديه عمل سوى التصريح على الطالع والنازل … كل هؤلاء  الذين تعج بهم المحطات الإعلامية هم محللون سياسيون ، أو بمعنى آخر انتهازيون لا علاقة لهم بالسياسة ، ولا الصحافة، ولا بالفكر. حتى اختلط الحابل بالنابل ، وتشوش الوعي ، وتناسينا ساحة الأفعال وانتقلنا لساحة الكلمات والبوستات ، وصارت الثورة قول على قول ، في الوقت الذي يتعفن المعتقلين في الزنزانات ، وتستباح المدن والقرى ويهجر ما تبقى من سكان … ويتبخر الوطن …

الصحفي يذهب لأرض الحدث وينقل الواقع بأمانة من دون تدخله ، ويعرض اذا اضطر لوجهات النظر كلها ويكون أمينا على الحقائق احتراما لحرية وعقل قارئه .

المفكر يكتب رؤية سياسية مبنية على دراسة بحثية في موضوع محدد ، وهذه تتطلب الثقافة والدراسة والتأصيل ، وعادة تكون مداخلاته أو مقالاته طويلة ومملة ونادرا ما تجد من يتابعونها ، في زمن البوست …

العسكري عادة يمنع من الحديث في السياسة  حتى لو تواجد خارج الجبهات ، ويتكلم نيابة عنه ناطق إعلامي بحدود المعلومات المعطاة له ، والتي تكون مدروسة وموظفة بدقة ، وتنحصر في مهام الجيش الذي يخدم فيه فعليا .

أما السياسي فهو إما أن يتوجه للجماهير بخطاب أيديولوجي كما في الحملات الانتخابية  أو بداية اشعال الثورة ، أو أن يكون في موقع المسؤولية ويلتزم بخط مؤسسته ، وهو عادة ممنوع من التصريح والظهور على الإعلام وابداء الرأي الشخصي ، لأن النطق باسم المؤسسة هي مهمة الناطق الإعلامي الرسمي المكلف ، أو يقوم بها مسؤولون كبار  يصدرون تصريحات موجهة مدروسة لها وظائف محددة ، وتعد لهم مسبقا. وفي السياسة هناك فارق بين التصريح الصحفي،  وبين البيان الرسمي ، وبين ما يبلغ ديبلوماسيا. وما يوقع عليه من وثائق ومعاهدات ، فالتصريح هو مجرد كلام موظف لا يعتد به كموقف ، والبيان هو توضيح لموقف ، لكنه لا يعني نية الفعل والتنفيذ ، التي تتطلب قرارا وموازنة وخطة تنفيذية وتوقيت .

ما عدا ذلك هم مواطنون عاديون لهم الحق في ابداء رأيهم لكن بهذه الصفة ( سوري لاجئ في استانبول مثلا ) ، وليس بصفة سياسيين أو ثوار أو منظرين ، لأن ادعاء ذلك قد حول السياسة لعراضة في عرس ، حتى تفشى هذا المرض بشكل خطير وانتقل حتى للصحفيين وللسياسيين والعسكريين أنفسهم وصاروا يقلدوهم ، وتحولوا لمحلليين سياسيين هدفهم الظهور الاعلامي وكسب اللايكات لا أكثر ، يتكلمون بأشياء لا يلتزمون بها وعن أشياء لا علاقة لهم بها …  حتى فقدوا الاحترام ، وفقد الاعلام مصداقيته ومهمته ، وانتشر الجهل وقلة الوعي ، وحدث افتراق كبير بين ما يظهر على الإعلام ، وبين ما يجري التوقيع عليه ، كما يحدث في مسار الأستانة ومسار جنيف ، حيث يطلقون التصريحات والبيانات الثورية ، ويوقعون على وثائق التسليم والمصالحات التي تثبّت سلطة نظام الإجرام ، ثم يلقون السلاح ويعقدوا الهندن …

يطغى على هؤلاء المحللين نوع من الفكر يتمحور حول شتم جميع الدول وجميع الفصائل وجميع السياسيين ، حتى التي هم يمثلونها ( فعضو الائتلاف مثلا ينتقده ويتهمه دون أن يغيره أو يستقيل ، وعضو وفد الأستانة ينتقد هذا المسار ويسرع للذهاب ، وعضو وفد جنيف ينتقد جذريا مرجعياتها لكنه لا يفوت أي جولة ) الجميع يشتمون ايران ثم يقبلون بها كجهة ضامنة وليس محتلة ، ويعتمدون نظرية المؤامرة الصهيوصليبية التي يؤسس عليها فكر القاعدة  والمليشيات التي يتفقون جميعا على التبرؤ منها….!!!

الجميع يخلص بنتيجة تؤكد وجود توافق دولي عالمي موحد ضدنا ، حتى لا نستطيع التفريق بين جيد وسيء ، عدو وصديق ،  يخدمون عملية نشر الفصام والاحباط ، ويزرعون الحقد والكراهية التي تولد الإرهاب ، ويعطلون العقل والمبادرات ، وأكثر من ذلك يخفون عن عمد سلبيتنا وتخلينا عن مسؤولياتنا تجاه الشأن العام و مشاكلنا وفشلنا الذين هم جزء أساسي منه ، وهذا أخطر منتج من منتاجات المحللين السياسيين … الذين لا يوجد أي معهد في العالم مختص بتدريس علومهم ، والذين لا يوجدون إلا في  ساحات (الإعلام العربي) المفلس الذي يتعيش على المال السياسي .

ولو فكر كل محلل بالتبرع بمبلغ مالي زهيد بدل أن يكتفي بالكلام المجاني ، أو تطوع لعمل بوقت محدود لا يتجاوز وقت جلوسه أمام الكميرات وعلى شبكات التواصل ، ولو فكر أي سياسي في توظيف طاقات الشعب … لكنا في وضع مختلف تماما ، ولما شعرنا أن العالم متآمر علينا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.