يثب

أسئلة محرجة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يقال أن أشد الألم هو الألم الحاضر ، فالذي يعاني من شيء يرى أن كل مشاكله تنحصر فيه ، وهكذا يتوهم أنه بمجرد الخلاص منه سيكون بخير ، فمن عانى من سلطة الإجرام والفساد في سوريا توهم أنه بالتحرر منها وطردها خارج بلدته سينتهي من معاناته ، ومن كان يعاني من ظلم نظام صدام في العراق ظن أن الاحتلال الأمريكي سيخلصه ، والكرد الذين يعانون من التمييز والاضطهاد القومي يرون أن اعلان استقلالهم هو الخلاص …. لكن في كل الحالات عادة ما تستمر المعاناة بطرق وأشكال مختلفة وبدرجة لا تقل عن سابقتها … حتى تبدو  وكأن الأمور سواسية ، وأن الألم والمعاناة أمر حتمي ، فنحن في كل تجاربنا وتحولاتنا نغير نوع المعاناة فقط ، ونستبدل ألم بألم وظلم بظلم ، وفساد بفساد وفقر بفقر وذل بذل ، ولم يغير من ذلك كثيرا أن نكون في ظل دولة مستعمرة أو محتلة  أو مستقلة قومية أو دينية ، ربما كل ذلك ليس الأساس في قيام الدول .

كثيرة هي الأيديولوجيات التي تطرح كحلول للشعوب المتخلفة المعذبة ، كالدولة القومية أو الاشتراكية  أو الدولة الدينية ، لكن تجارب شعب ايران مع الملالي ، وعرب العراق وسوريا مع البعث العربي  وداعش والقاعدة ، وشرق أوروبا مع الشيوعية أكدت عقم تلك النظم وعجزها عن تخفيف معاناة مواطنيها ، فقد عجزت الدول الاشتراكية عن تحقيق عيش كريم للعمال والفلاحين الذين وضعتهم على الشعار ، وارتبطت أشكال الدول الدينية بالاستبداد والترهيب ، ولم تحقق الدولة القومية الحرة الكرامة والحرية لمواطنيها لا العربية ولا التركية ولا الفارسية ، فهل ستحقق الدولة القومية الكردية ذلك للكرد ، هل هذه الأيديولوجيات هي معيار صحيح تبنى عليه الدول ؟

عندما كان الفلسطينيون يفاوضون بعد الانتفاضة على اقامة سلطة في غزة والقطاع ، غاب عن بالهم أن مجرد كون السلطة فلسطينية لن يجعلهم يعيشون أفضل من عرب 1948 ، كما يرى بعض سكان الجولان أنهم أفضل حالا من بقية سوريا المقاومة بكثير ، ويترحم الكثير من العراقيين على أيام صدام ، أما مصر وتونس واليمن فقد أعادت الاعتبار لرؤسائها المخلوعين بطريقة أو أخرى ، بينما يتمنى الكثير من سكان البلدات المحررة في سوريا  دخول قوات أجنبية ، وبعضهم يسعى لعقد هدن ومصالحات مع النظام للخلاص من سلطة الميليشيات التي تحكمهم باسم الحرية ، كما يخطط الكثير ممن ركبوا جسد المعارضة للعودة لحضن النظام ، والبعض يفضل الاستسلام والخنوع لإيران كريق وحيد للخلاص في ظل استمرار حالة الفشل التي تعاني منه الثورة … والكثير من اللاجئين بالرغم من معاناة الغربة يرون أنهم أفضل حالا بكثير من عيشهم في وطنهم وبين أهلهم الذين يمارسون عليهم سلطة التشبيح والتجسس والقمع والرشوة وينغصون حياتهم كل يوم وكل ساعة ، وأن العيش مع غرباء اللغة والعادات في دول أجنبية ، حتى كشريحة دنيا في المجتمع هو أفضل من العيش في الوطن الحر السيد المستقل القومي الاشتراكي المقاوم.

لماذا يحصل كل ذلك ولماذا تبدو تلك المعايير من خلال التجربة أنها ليست هي المعايير المفيدة التي يجب أن تبنى عليها الدول ،… فمنذ بداية القرن العشرين تمت التغطية على القضية الأساسية للدولة بقضايا ثانوية كالهوية القومية والعقيدة والهدف الجمعي والأيديولوجيا الثورية، وأغفلت الحقوق الأساسية للفرد والمواطن التي هي الترجمة العملية لنجاح أي سلطة في تخفيف معاناة مواطنيها بغض النظر عن الشعارات التحررية والقومية والدينية والاجتماعية والمقاومة وحتى شعار الحرية ذاته … فالقضية المركزية هي الحرية والعدالة والنزاهة ( أي الليبرالية الديمقراطية ) التي لو توفرت لما كان هناك ضرورة للنزاعات القومية والدينية وغيرها وغيرها …

القضية الأساس في قيام الدول هي الإنسان … ولا يعوض عنها أي شعار ، فعيش الإنسان وشعوره بالأمن والعدالة والحرية والكرامة هو الأساس لقيامه بواجباته عن طيب خاطر ، وهو الأساس لقيام اجتماع سياسي سليم تحت عنوان الوطن … وبالقفز فوق تلك القضية لا معنى لكل ما عداها … فحيث تتوفر سلطة القانون ، وحرية التعبير ، وعدالة القضاء ، وفرص العمل ، وأخلاقيات التعامل الاقتصادي ، ومراقبة السلطات ومحاسبتها ، يصبح العيش ممكنا والوطن محبوبا .. بغض النظر عن هويته القومية ودينه وشعاره ولون العلم المرفوع فوقه ، فكل تلك ليست سوى علب ووسائل لتحقيق الغاية النهائية البسيطة التي يشعر بها كل فرد ، وغيرها مجرد شعارات زائفة ومضللة طالما طرحت كبديل عن حقوق الإنسان، مثل شعار الاستقلال والسيادة والتحرير والمقاومة وشعار الحرية وشعار الدين والاشتراكية…. التي رفعت أعلامها فوق دول الظلم والذل والعبودية والجريمة والفساد والتمييز … الذي يكون أشد وطأة لو قام به الأخ و الشقيق .

ينحصر تفكير الشعب اليوم في اسقاط الأسد كضرورة لاستعادة الوطن ، ومع أن هذا صحيح تماما ، لكنه غير كاف ، ولا يمنع أن يعاد انتاج نظام الاستبداد والفساد بأشخاص جدد . فما أن لاح للمعارضة شبح المنصب والكرسي حتى مارست ما مارسه بشار ومخلوف … لهذا السبب تماما بقي الأسد ، لأننا في المناطق المحررة لم ننجح ببناء أي شيء غير الفوضى وأمارات الحرب، وكأنه يكفي أن نقاتل النظام  … نحن نلوم الدول وننسى ما قمنا به فعلا ، فالتضحيات والبطولة لا تكفي من دون وعي سياسي وتنظيمي كاف لتأسيس وطن ودولة … وطالما نحن نتجاهل هذه الضرورة سوف نستمر في حالة التخبط والصراع والمعاناة ، وانتظار الفرج من الغير الذي لن يأتي …

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.