يثب

كيف تتجنب الثورة السورية الاستسلام لنظام الأسد

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

هل فقدت الثورة السورية إمكانية النصر وصار عليها الاستسلام كما هو مطروح تحت مسمى الواقعية ؟ أم لديها خيارات أخرى للاستمرار نحو هدفها ؟  هذا هو السؤال الذي سنجيب عليه .

السياسية ليست دينا بل هي تجارة ، وكل موقف سياسي يبنى على حسابات الربح والخسارة ، لذلك فإن تحليل الظروف الموضوعية و عوامل تغيّرها  يقدم  مروحة من الخيارات التفاعلية معها، والتي على الثورة السورية التفكير فيها جميعا لجني أكبر قدر من المكاسب وأقل مقدار من الخسارة .

معظم الشعب السوري يريد السلم وليس الحرب ، يريد أن يعيش في وطن حر سيد مستقل وديموقراطي ، وأن يحكم بالعدل وتطبق سلطة القانون على الجميع ، لكي تتم عملية إعادة الإعمار برقابة شعبية وأهداف وطنية ، وأن يتعاون مع بقية الشعوب للرفاه والتقدم… لكن تحقيق ذلك قد أصبح مرهونا بيد الدول الإقليمية والدول العظمى التي تدخلت في الشأن السوري لدرجة استبعدت الشعب عن تقرير مصيره ، وطالما أن هذا الهدف لا يملك القوة اللازمة لتنفيذه حاليا ، لذلك يجب على الثورة أن تسير بمسار متعرج بين القوى المتدخلة لتحقيق هدفها في المدى البعيد .

وهذا يتطلب أمرين :  الأول هو اعتماد النضال السياسي المدني المدعوم من حرب العصابات الذي تجيده المجموعات الدينية لإفشال أي استقرار يحاول الآخرون فرضه . والثاني هو توفر حنكة سياسية براغماتية قادرة على المناورة بين القوى المتنازعة على سوريا ، تحت خيمة تفاهم القوى السياسية والعسكرية السورية المختلفة على تقاسم الأدوار.

معظم الدول اليوم قد اختارت الحل الأرخص والأسهل، وهو اعتماد روسيا والإبقاء على نظام الأسد ، خاصة بعد أن فرض الاحتلال الروسي وصايته بالقوة العسكرية وطوع المنظمات الجهادية الإسلامية ، لذلك تميل الدول حاليا لهندسة حل يمر عبر التفاهم مع روسيا، التي فتحت خطوطها مع كل الأطراف ، وقدمت وعودا لكل طرف تتناقض مع وعودها للأطراف الأخرى ، مما يجعلها قادرة على تنفيذ ما تريد نظريا ، لذلك لابد من فهم الدوافع الروسية والإمكانات التي تملكها لكي نعرف ماذا سينتج عن هذا الاحتمال :

معلوم أن روسيا تعتمد بشكل أساسي على سلطة الأسد وسيطرة الطائفة العلوية على مفاصل الدولة ، وهي كما صرح لافرورف سابقا لا تريد للسنة أن يحكموا سوريا ، ولا تهتم بوجود الشعب السوري أصلا ، نظرا لموقفها الداعم لسياسة البراميل واستخدام أسلحة الدمار الشامل ، وولعها في قصف المستشفيات والمدارس والأسواق لتهجير أكبر عدد من السوريين ، ونموذج حلب خير مثال ، سوريا بالنسبة لها منطقة نفوذ وحقول نفط ، وليست وطننا لشعب ، وهي تهتم جديا في السيطرة على عملية اعادة الإعمار التي ستحقق لها فرصة نهب خيرات وثروات البلد بالشراكة بين المافيات الروسية والسورية، وتحويل ما تبقى من شعب سوريا لمجرد عبيد في وطنهم ، ومشردين في اصقاع العالم . كما أن روسيا تستخدم سلاح الجو ، وتعتمد بشكل كبير على التواجد العسكري الإيراني على الأرض ، بعد انهيار القدرات العسكرية للنظام وتحول جيشه لمجموعة عصابات مرتزقة وهذه نقطة ضعفها القاتلة ، فلم تستطع تأمين حاضنة اجتماعية بعيدا عن الطائفة العلوية في سوريا .

أي أن ذلك الحل يعني تماما فقدان الاستقلال و استمرار الحكم الطائفي التشبيحي ، ونهب ثروات البلاد ، واستمرار النفوذ الإيراني ، وحرمان الشعب السوري الذي ما يزال في مناطق النظام من أي حقوق أو ضمانات ، ومنع كل الذين غادروا البلاد من العودة … لذلك فهذا الاحتمال هو الأسوأ على الإطلاق : ينقذ النظام المجرم ويدمر الشعب ويهجره ، لتصبح سوريا معسكر اعتقال ، أي دولة بلا شعب …

هذا الحل لا يمكن للغرب ( أوروبا وأمريكا واسرائيل )  والعرب أيضا القبول به كما هو ، لذلك هم يطلبون من روسيا مقابل الإبقاء على الأسد استبعاد إيران ، والمشاركة في اعادة اعمار سوريا أي تقاسم المنافع ، وهنا تنفتح من جديد عوامل تفجير هذا التوافق الدولي الهش ، فإذا كذب الروسي استمر الإيراني في تمدده وفرض نفوذه ، وبذلك سيحصد معظم المحصول ويصبح الرابح الأكبر . وإذا بذل الروسي جهودا جدية لإخراج الإيراني فهذا سيدفع ايران للتصرف بطريقة أخرى للحفاظ على مكاسبها ، ويجعلها ميالة لتغيير تحالفاتها ، وهنا يستطيع الجناح الإسلامي في الثورة بزعامة الإخوان التوصل لتفاهم مع الإيراني للامساك بسوريا معا ، خاصة وأنهم يملكون معا معظم الأرض عسكريا في جهتي الصراع ، وبدل أن يُخرج الأسد ايران للبقاء في السلطة تُخرج ايران الأسد وتتشارك السلطة مع الإخوان حلفائها التاريخيين ، وهذا سيجعل نموذج حماس حزب الله يتعمم  ويشمل سوريا أيضا ، فينتصر محور المقاومة في سوريا ، ويؤسس لقيام امبراطورية اسلامية كبرى تصبح أحد الدول العظمى ( وما يساعد على ذلك التحالف التركي الإيراني وتحول الكثير من الدول العربية للتفاهم مع ايران) … هذا المشروع مغري جدا لكل الآيديولوجيين الإسلاميين الشيعة والسنة والقوميين أيضا ، صحيح أنه يقوض فرص السلام والاستقرار والإزدهار في المدى القريب ، لكنه يغير جذريا ميزان القوى ويحصن المنطقة من تلاعب الدول وأطماعها … فالتعاون مع ايران ورقة واقعية  لتجنب الحل الأسوأ وهو الإبقاء على نظام الأسد والاحتلال الروسي ،  لكن هذا يرتبط بمقدار تحول ايران عن سياساتها الطائفية الاستفزازية ( تخيلوا لو أن نصر الله أيد الثورة السورية في بدايتها كبقية ثورات الربيع العربي … !!! )  لكنه بسبب تعصبه تنكر لمشروع المقاومة، وفضل المصالح العنصرية الفارسية والطائفية الصفوية ، ومصالح نظام الحكم الاستبدادي في طهران على المشروع الإسلامي المقاوم الذي يتاجر به ، ومع ذلك يمكنه اليوم أن يعود عن خطئه الفادح ذاك ويصحح مساره، خاصة عندما يُحشر في الزاوية ويهدد وجوديا . وبدلا من السعي لتهجير السنة لتشكيل تواصل بري ، وهو ما دفع السنة للتحالف مع أعداء المقاومة ، يصبح من الأفضل له التحالف معهم على أهداف مشتركة لتجنب خسارة مشتركة أيضا .

أما الشعب السوري الذي قدم مليون شهيد في سبيل الحرية والكرامة فهو عندما سيخير بين الاستسلام للنظام، أو الانضمام لمحور المقاومة ، فقد يفضل غالبيته  الخيار الآخر ، هذا الشعب يستطيع وبسهولة تقديم المزيد من الشهداء ، خاصة ذلك الجيل الجديد الذي يترعرع تحت القصف وفي خيم التشرد، والذي لا يملك أي فرصة أو أمل للعيش الكريم ، ومعظمه ممن ألف الحرب والعنف ، ويحمل صور أهله وأقاربه الذين سقطوا …  فالخلاف داخل المجتمع السوري بين تيار السلام وتيار المقاومة ليس خلافا وجوديا، بل هو تباين سياسي أيديولوجي يخضع للظروف ، ويمكنه التعايش ضمن الحياة السياسية ، وهو لا يقارن بالخلاف الوجودي مع النظام والاحتلال …

في كلا الحالين ايران ستنتصر وتسود في المنطقة ، ولتجنب ذلك على ادارة ترامب والدول العربية واسرائيل أن يتراجعوا عن هذه السياسية السلبية الانهزامية ، ويستخدموا المقدار الكافي من الضغوط السياسية والعسكرية لقلب مسار الأحداث ، وهم لن يجدوا في النهاية شريكا فعليا لتحقيق السلام والاستقرار إلا الشعب السوري.

كل الحيل والألاعيب يمكن للسوريين قلبها على أصحابها، فالثورة السورية لم تفقد خياراتها ولا أوراقها، والتناقضات الدولية تهيئ فرصة مناسبة لتجنب استسلامها، وليس المطلوب تقديم أي تنازلات سياسية ولا التنكر لدماء الشهداء ، ولا التخلي عن أهداف ثورة الحرية والكرامة … فإرادة هذا الشعب سوف تحترم عاجلا أم آجلا بهذا الطريقة أو بغيرها …

واجب المجتمع الدولي أن ينفذ قوانينه ويلتزم بمعاييره وأخلاقه ، وأن يقر بأن نظام الأسد نظام مجرم يجب محاكمته، وأن الدول السورية دولة فاشلة  ، وعلى الجيوش المتدخلة أن تحترم اتفاقيات جنيف الأربعة بحالة الحرب ، وعلى الأمم المتحدة أن تمكن الشعب السوري من حقه في تقرير مصيره وتحرير بلاده ، وأن تتعاون مع المجتمع السوري لاعادة بناء نفسه واقتصاده وسلطته الوطنية ، هذا هو الطريق الوحيد نحو السلام والاستقرار ، وأي خيار آخر يعني استمرار العنف والفوضى وخسارة مشتركة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.