مملكة الأسد… وعودة سورية إلى الحاضنة العربية السنية!

صحف عبرية: إذا لم يكن القرار المتسرع بالانسحاب من سوريا أليماً بما يكفي، فقد جاء الرئيس ترامب هذا الأسبوع وصب علينا دلواً بارداً بقوله البائس. ولا يزال، كان يمكن لنا أن نعد من هذه الليمونة الحامضة بعض الليمونادة. فخروج القوات الأمريكية يسمح للأسد بأن يعيد تثبيت حكمه في كل أرجاء سوريا ويعطي شرعية لإخراج القوات الأجنبية، التركية والإيرانية، التي بدأت منذ الآن تبدي بوادر يأس من فرص تثبيت الوجود في سوريا. ولكن بينما يكون الإيرانيون في حالة انسحاب، فإن حزب الله يثبت وجوده في هضبة الجولان إلى جانب الجيش السوري.
لقد أعطى ترامب للأتراك ضوءاً أخضر للانقضاض على الأكراد في شمال وشرق سوريا، ولكن الأسد سارع لأن يضعه أمامهم اإشارة ضوء حمراء. دخول الجيش السوري إلى مدينة منبج في شمال الدولة هو إشارة واضحة إلى أن الأسد يعتزم إعادة السيطرة على هذه المنطقة وعدم تركها للأيادي التركية. أما الأكراد الذين سبق أن احتلوا منبج من داعش، فهم الذين استدعوا جيش الأسد. وليس مثل إخوانهم في العراق، ليس للأكراد السوريين تطلعات استقلال: فهم يرون أنفسهم جزءاً من سوريا، وطلبهم هو حكم ذاتي ثقافي يسمح لهم بأن يتعلموا ويتكلموا اللغة الكردية.
سارع الأتراك إلى موسكو كي يستوضحوا مع رب البيت الروسي نصيباً من الغنمية التي سيخلفها الأمريكيون وسيبقى في أيديهم. وحاولوا أن يبدوا مبتسمين لدى خروجهم من اللقاءات، ولكن مشكوك في أن يكونوا حصلوا على طلبهم. فالأسد وروسيا لا يعتزمان التنازل عن الإقليم الكردي، وهما يعدان أيضاً معركة لاحتلال جيب الثوار الأخير في ادلب. بعده، سيكون الأتراك مطالبين بأن يخلوا الجيب الذي استولوا عليه في عفرين أيضاً. سوريا القديمة آخذة في النشوء من جديد، هذه المرة برعاية روسية، والعالم السني الذي لفظ من داخله الأسد قبل سبع سنوات يمد الآن ذراعيه ويدعوه للعودة. فاتحاد الإمارات أعادت فتح سفارتها في دمشق، وباقي الدول العربية تنتظر قرار الجامعة العربية التي ستنعقد في آذار وتدعوه إلى العودة. وعلى الرغم من النفور من المفهوم، فلإسرائيل مصلحة في أن ترى الأسد يعود إلى حضن العالم السني ويبتعد عن إيران. كما أنها يمكنها أن تساعد في المسيرة.
الإيرانيون في حالة انسحاب ويفهمون بأنه لم يعد بوسعهم أن ينجحوا في تحقيق خطة تثبيت وجود واسع لهم، كان يفترض أن يتضمن انتشاراً للقوات في كل المطارات السورية والدخول في أحد الموانئ البحرية. وبدلاً من ذلك، تقلص التواجد الإيراني في سوريا بعشرات في المئة في السنة الماضية. لقد باتوا يفهموا أنه لن تكون لهم قدرة وصول إلى ميناء بحري، واضطروا أيضاً إلى طي بعض من الفروع التي أقاموها في مطارات الأسد. في سوريا بقيت خمس ميليشيات شيعية (نحو 12 ألف مقاتل)، معظمها يتركز في هذه اللحظة في الشمال، تمهيداً للمعركة على ادلب.
كما أن مساعيهم لتثبيت بنية تحتية مدنية تصطدم لأول مرة بالمقاومة. ففي السنوات الأخيرة دفعوا بآلاف المعلمين والمربين إلى سوريا، وبدأوا يقيمون شبكة مدارس شيعية بهدف «تشييع» سوريا. أما الأسد فيتجرأ الآن للوقوف في وجههم ويبدأ بطرد رجال التعليم الإيرانيين من بلاده. كل هذه، إلى جانب الهجمات المتواصلة المنسوبة لإسرائيل، خلقت منذ الآن خلافات في الرأي في داخل الحرس الثوري على جدوى الاستثمار في سوريا وعلى الاحتمال في إمكانية تنفيذ الخطة لتثبيت الوجود هناك.
الهجوم الأخير الذي نسب لإسرائيل في سوريا جر سلسلة من بيانات الشجب من موسكو والتي فسرها كثيرون بأنها حازمة. ولكن الروس بدوا كمن يرفعون العتب. لا شك أنهم لا يحبون الأعمال الإسرائيلية في سوريا، ولكنهم يفهمون المصلحة الإسرائيلية، وهم أيضاً لن يذرفوا دمعة إذا ما دفعت إسرائيل بالإيرانيين إلى خارج الدولة.

جيوش نصر الله

الأنباء السيئة تأتي من جهة حزب الله الذي هو الآخر قلص حجم قواته في سوريا ويعيدها إلى لبنان. فبعد سنين كان غارقاً في معظمه في الحرب الأهلية، يعود حزب الله ويتفرغ للوقوف في وجه إسرائيل في الجبهة اللبنانية. وبالتالي فإن حملة كشف الأنفاق هي الأخرى دارت في ظل خوف حقيقي من التصعيد: ففي صباح الحملة وقف سلاح الجو جاهزاً مع مئة طائرة مسلحة لاستقبال كل تطور.
في الوقت الذي نزل الرجل الآلي للجيش الإسرائيلي إلى النفق الأول في المطلة وبدأ يجس طريقه فيه فوجئ الجيش الإسرائيلي بأحد ما في الطرف الآخر يشعل النور في النفق، وعندما ظهر رجال حزب الله اتصل قائد المنطقة الشمالية برئيس الأركان للتشاور معه. وكانت مع الرجل الآلي عبوة ناسفة فتاكة وقنبلة غاز مسيلة للدموع، وقرر رئيس الأركان غادي آيزنكوت في تلك الثواني استخدام الغاز وليس الوسيلة الفتاكة. وفرضيته كانت أنه إذا ما قتل رجال حزب الله فستكون المنظمة ملزمة بالرد.
وبالتوازي يستكمل حزب الله عملية الانخراط في داخل الجيش السوري الذي يعيد بناء نفسه. ومن غير المستبعد أن يكون ضباط من حزب الله وضعوا في مناصب في جيش الأسد. الحاج هاشم، قائد قوة الجنوب لحزب الله في سوريا، يرافق الظل قائد الفيلق 1 لجيش الأسد. والفكرة هي جعل هضبة الجولان وجيش الأسد جزءاً من كل مواجهة مستقبلية لحزب الله مع إسرائيل.
لقد بدأ الأسد عملية بناء جيشه المحطم. وهو يستثمر الكثير في إعادة بناء الدفاع الجوي وقدراته الصاروخية. لا يوجد بعد مؤشر على أنه يعتزم العودة لأن يستأنف قدرات السلاح الكيماوي. لا حاجة للمبالغة بخطورة هذا التهديد، فهو سيجتاز الكثير من الزمن إلى أن يعود جيش الأسد يشكل تهديداً عسكرياً على إسرائيل. حزب الله، الذي كان له حتى الآن لقب المنظمة ذات قوة النار الأكبر في العالم، يصبح في هذه الخطوة سابقة أخرى: منظمة لها جيشان يخضعان لإمرتها. وإضافة إلى هذين الجيشين فإنها تعد أيضاً الميليشيات الشيعية المتبقية في سوريا كقوة احتياطية لها. وهي تدرب رجال الميليشيات، وفي كل مواجهة مستقبلية سترغب في استخدامها ضد إسرائيل. وسواء من سوريا أم من لبنان، فإن حزب الله يبني خيارات متنوعة من رد الفعل على عملية إسرائيلية. ورئيس الوزراء التالي الذي ستنتخبه إسرائيل فعليه أن يقرر إذا كان سيعمل ضد مصانع الصواريخ الدقيقة في لبنان فيما هو واضح أن مثل هذا العمل سيرد عليه برد شديد من حزب الله، حتى وإن كان محدوداً. إن عدم الاستقرار الذي لف سوريا في السنوات السبع الأخيرة انتهى، وعلامات الاستفهام تستبدل الآن بعلامات تعجب. وفضلاً عن استمرار الأعمال التكتيكية ضد الإيرانيين والتطلع على إعادة الوضع في حدود الجولان إلى سابق عهده، على إسرائيل أن تصوغ لنفسها أهدافاً استراتيجية حيال الجار الجديد ـ القديم من الشمال. الهدف الأول في هذه الاستراتيجية هو اقتلاع الطوبة السورية من المحور الإيراني وإعادة سوريا المتجددة إلى العالم العربي السني.

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.