(غراسين) السياسة

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما يبتسم لك غرسون في مطعم ويظهر اهتماماً زائداً بخدمتك وكأنه يعرفك منذ زمن طويل، أو أن ذاكرتك قد خانتك ولم تتعرف عليه ونسيت من يكون، قد تظن أنه شخص حباب، كامل المروءة، محب للعطاء، مندفع لإسعاد الآخرين، لكنك قد تكتشف العكس إذا لم تضع فوق الفاتورة بخشيشاً، وهكذا بعض الناس يشبهون تلفون الحصالة يتوقفون عن العمل عندما تتوقف عن وضع النقود، عملاً بالمثل الشامي ( إجرينا ملزقة بغره / مادة لاصقة / ما بتتحرك إلا كِره / بالأجرة / ).

الكثير من النشطاء في حقل السياسة اليوم، ومنهم من صار في مناصب قيادية يحملون مفهوماً عن العمل السياسي كمفهومهم عن الخدمة بالمطاعم، فكل ما عليهم هو تقديم ما يطبخ بالداخل، مع ابتسامة قد لا تتناسب مع قيمة الفاتورة المكشرة عن أنيابها، على كل حال الفاتورة تأتي لاحقاً بعد أن يقوموا بجمع الصحون من دون ابتسامات طبعا، ويغادرون بسرعة قبل أن يحضر غرسون آخر يحمل الفاتورة على صحن ويضعه أمام الزبون الذي يخفي غيظه عادة بينما يتعمد الكرسون المنتظر في البعيد إظهار ابتسامته في تلك اللحظة. فالشعب عليه أن يأكل ما يطبخ له ودور السياسي عندنا هو فقط حمل هذا الطبيخ وتقديمه للشعب لكي يأكله، ثم ليدفع ثمنه وفاتورته وفوقها بخشيش أيضاً.

عدد كبير ممن لم تكن له علاقة بالعمل السياسي أو بالثورة، ظهر فجأة عندما لاحت له فرصة عمل كسياسي بعد اندلاع الثورة على مطبخ النظام، وطعام النظام، فسرعان ما التحق بمطبخ الدول وتعاقد معه بمهنة غرسون، غرسون سياسي عند الدول المانحة والنافذة أو حتى عند شخص مرتبط بها، الثورة التي قامت ضد الاستعباد والتمييز وطالبت بالكرامة والانصاف، طغى في هيئاتها مفهوماً جديداً للسياسة، ليس تمثيل الشعب، وليس الاهتمام بالشأن العام، وليس البحث عن توافقات وبرامج تشاركية بين الناس، وتطوير حياتهم وتحقيق أهدافهم، كل ذلك لم يعد له علاقة بالسياسيين الجدد الثوريين، الذين يهتمون فقط بتوزيع ما تطبخه الدول على طاولات الزبائن، ثم يلمون الفضلات التي يخلفونها بسرور ورضا نفس إذا دفعوا لهم البخشيش، لا يهمهم ماذا يُطبخ ولا من يأكل هذا الطبيخ، هل هو أرض سوريا أما دماء شبابها، أم خوف وجوع أطفالها أم دموع نسائها،  هذا كله لا علاقة له بعملهم السياسي في المعارضة السورية، المهم عندهم هو هذه الدولة أو تلك. ماذا تريد وماذا تدفع.

تكاثرت المنصات السياسية ( معاهد تدريب الغراسين ) بمقدار حاجة المبطابخ الدولية لأمثالهم، وتعددت وتنوعت بتعددها وتنوعها، وغيّر الغراسين ألوان مناشفهم تبعا لأعلامها، فهذا يرتدي الزي العثماني، وذلك يرتدي الزي الأنغلوساكسوني، وذلك يرتدي الشماخ النفطي، وهذا العباءة الإسلامية، وذلك الفرو الروسي، وابتدع كل ناشط لنفسه مسمى ومنصب وتكتل ومكون (طبعاً وهمي)، لدعم طلبه للوظيفة عند أحد الدول بمهمة غرسون، وتزايد عدد السياسيين الذي لا يعرفون ألف باء السياسة بمقدار تزايد فرص العمل الأجير، واندفعت أعداد كبيرة للتقدم بطلبات التوظيف هنا وهناك وتنافست وتناحرت وكتبت التقارير ببعضها كي تستبعد المنافسين … وصارت السياسة مصلحة شخصية كحال المشيخة التي سبقتها: (هذه فيها البخشيش وتلك الصدقة، هذه فيها فتات الموائد وتلك فيها الرز بحليب، هذه تخبص بمصالح الناس وتبيع تضحياتهم والشعب غفور رحيم، وهذه تخبص بالدين لتجعله تين والمسامح كريم).

المشكلة أن المطبخ الدولي يرفض أن يترك الشعب السوري يطبخ لنفسه ويأكل ما يريد، ويصرّ على أن يطبخ هو ما يجب على الآخرين أكله، ولذلك فهو بحاجة ماسة لهؤلاء السياسيين الغراسين لكي يحملوا طبيخه ويضعوه على موائد الشعب، الذي عليه أن يأكل منه تحديداً أو يموت من الجوع وأن يدفع الثمن الذي يريدوه … ثم عليه أن يبادل سياسييه الذين يحملون المناشف الملونة بأعلام الدول، الابتسامات والتحيات والتمنيات (بون أبيتيت وعافية أولسون) مع فارق بسيط أن الغرسون يبتسم للبخشيش وليس للشعب، بينما الشعب يبتسم من شدة الغيظ، يضحك الغراسين عندما يجتمعوا في نهاية اليوم في صالونات الزعامة في المعارضة، ويتقاسمون البخاشيش، بينما يتقيّأ الشعب بسبب فساد الطعام وقرف الخدم والسياسيين، مجرد مقارنة بسيطة بين معارضين يرتدون البدلات وربطات العنق ويقيمون في أفخم الفنادق ويجولون على الدول ويرفلون بالنعمة والحرير ويوزعون الابتسامات، وبين شعب تحت نيران وطيران ذات تلك الدول يموت ويحترق ويتوزع أشلاء، فكيف يمكن لهذا الغرسون أن يمثل هذا الجائع ويصبح قائده السياسي؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.