طريقة التعامل الدولي مع أزمات الشرق الأوسط

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما استمزج صدام حسين رد الفعل الأمريكي على نيته غزو الكويت ، تلقى إشارة عدم المبالاة من سفيرها واعتبرها بمثابة ضوء أخضر ، لكن الولايات المتحدة سارعت مباشرة لقلب الدنيا على صدام ، واستخدمت ذلك الغزو لتحقيق الكثير من المآرب ، فتشجيع الصراعات والنزاعات بين قوى ودول المنطقة وداخل تلك الدول هي سياسة رابحة للدول النافذة ، تستغلها أفضل استغلال لزيادة نفوذها وإضعاف استقلال المنطقة وتحقيق أرباح كبيرة من تجارتها معها خاصة العسكرية ، وهذا لا ينطبق فقط على أمريكا بل أولا على روسيا التي شجعت إسرائيل على عدوان 67 لذات الغرض ، فهي تريد من الدول العربية أن ترتمي في حضنها وأن تصرف ثرواتها على شراء الأسلحة ، بينما شجعت أمريكا إسرائيل على ذات العدوان لأنها تريد معاقبة هذه الدول على تحالفها مع السوفييت في ظروف الحرب الباردة ، وهكذا وبسبب حرب ال- 67 أصبح الاتحاد السوفييتي الحليف الأول للدول العربية ، من دون أن يتوقف عن خدمة إسرائيل ، و من دون أن يقدم للعرب أسلحة فعّالة ، وأصبحت إسرائيل الحليف الأهم للدول الغربية دون أن تخسر علاقاتها الوطيدة مع روسيا السوفيتية، فبقاء إسرائيل متفوقة وعدوانية هي مصلحة روسية أمريكية مشتركة في المنطقة … هذه المعادلة حكمت وما تزال الصراع العربي الإسرائيلي ، وصولاً للتنسيق الروسي المشترك للعمليات الجوية الإسرائيلية ضد التواجد الإيراني حليف روسيا على الأرض في سوريا .

قبل ذلك عندما قامت الثورة الإسلامية في إيران سارع الاتحاد السوفييتي لتشجيع صدام على شن حرب ضروس عليها ، وزوده أندروبوف يومها بنظم أسلحة متطورة منها صواريخ سكود ، بالتزامن مع احتلال روسيا لأفغانستان ، حيث استشعر الروس الخطر من الثورة الإسلامية المدعومة غربياً والتي يفترض بها تهديد وزعزعة استقرار جمهوريات الاتحاد السوفييتي الجنوبية المسلمة ، لكن تلك الثورة توجهت نحو العراق يومها بدلاً من جنوب الاتحاد السوفييتي ، لترد على استفزازات صدام بل حربه التي حرضها الروسي ذاته . عندها قام الغرب بتنظيم المقاومة الإسلامية الجهادية لمحاربة الجيش الروسي في أفغانستان وشكلوا القاعدة وطالبان لمقاتلة الروس الشيوعيون.

هكذا تنقلب المواقف في إيران والعراق ، وأيضاً في أفغانستان بعد خروج الروس ( العدو الأول للغرب) يومها ، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي ، حيث أجبرت الدول العربية على تقليص دعمها لصدام لاجباره على وقف الحرب ضد إيران ، وهو ما دفعه لاحتلال الكويت التي كانت الداعم الأهم له طيلة سنوات الحرب ، ( أي أن الأمريكي هيأ العوامل المناسبة لغزو العراق للكويت ثم أشعل بسببها حربا أكبر ) ، حيث دخلت أمريكا الحرب ضد العراق بشكل مباشر ، والتي انتهت بعد عشر سنوات بغزو العراق واسقاط صدام ، ومع سقوط صدام حليف روسيا لصالح الاحتلال الأمريكي ، سارعت روسيا التي تحاول استعادة مجدها لمد يد الصداقه لعدوها السابق إيران وتشجيعها على استغلال احتلال أمريكا للعراق لصالح مد نفوذها فيه بعد اغراق الاحتلال الأمريكي في مستنقع الحرب الأهلية والإرهاب المدعوم من دول نافذة محلية وعالمية بشكل مشابه لما حصل معها في أفغانستان ، فالروسي الذي قاتل التطرف الجهادي في أفغانستان دعمه في العراق ، والذي سيصبح هو بذاته أحد أدوات إيران في المناطقة يفتح لها طريق الهيمنة على الشرق الأوسط بغطاء روسي وبحجة محاربة الإرهاب الذي تغذيه وتوجهه هي بذاتها ( داعش نموذجاً) والتي هي الوريث الشرعي للمقاومة الجهادية التي صنعها الغرب في أفغانستان ثم انقلبت عليه عندما انقلب عليها ( أقصد القاعدة) فالارهاب الإسلامي الذي تحاربه الدول عندنا هي ذاتها من ساهمت في نشوئه لتستغله وهكذا تستمر الصراعات.

عندما اندلعت الثورة السورية فهمتها روسيا على أنها محاولة أمريكية لتقويض نفوذها في المنطقة ، فدعمت النظام السوري في حربه ضد شعبه ، ودعمت التدخل العسكري الإيراني وحتى التركي ، وأعيد استخدام تهمة الإرهاب لتقويض تلك الثورة على نطاق واسع وبطرق مختلفة ومن قبل الجميع .

أمريكا لا تريد إخراج لا روسيا ولا إيران من سوريا بل هي تستثمر بالصراعات فقط لتخرج رابحة ، هذه هي سياستها (الاستثمار في الصراعات وليس حلها) ، فهي لم تعترض على تدخل أي دولة أو ميليشيا لأنها ترى سوريا ساحة استنزاف جديدة للخصوم (إن كانوا متشددين إسلامياً أو نظام إيراني أو نفوذ روسي ) … أمريكا التي أصبحت ترى المنطقة رمالاً متحركة بعد تورطها في احتلال العراق ، لا تريد أن تتحول لأرض صلبة تحت أقدام أي من خصومها . هذه الحال استمرت طيلة قرابة عقد من الزمن انتهى بفرض حلف سوتشي بقيادة روسيا سيطرته على المنطقة كمنتصر عسكرياً ، وهو ما ينهي عملياً منطق سياسة الاستنزاف الغربية ، ويجبر أمريكا على تغييرها ، تجنباً لخسارة نفوذها في المنطقة بشكل دائم . لصالح تحالف إسلامي متعصب (سنّي شيعي) مدعوم من روسيا ، ومعاد للغرب ، تمثل في حلف سوتشي الذي تجاوز كثيراً القضية السورية وأخل في ميزان القوى العالمي .

هكذا أجبرت أمريكا على فرض عقوبات على إيران والنظام السوري وروسيا ومعاقبة تركيا أيضاً والتضييق على الصين التي تقف خلفهم ، وحاولت جاهدة الدفع باتجاه صدام عسكري في الخليج بين العرب والفرس ، وما تزال تسعى لذلك مستفيدة من الغطرسة الإيرانية ، لكن دول الخليج العربي بدأت تفهم اللعبة ، وقد أصبحت منهكة لدرجة تمنعها من الرد على العدوان الفارسي الذي يسعى لتقويضها ، وهي تفكر جدياً بطلب الحماية الروسية بدل الأمريكية من سطوة إيران . لكن تلك العقوبات الغربية كانت كفيلة بتحريك الشارع في العراق ولبنان وحتى سوريا وإيران ، وهو ما يغير قواعد المعادلة كاملة ، رغم أنه يقع ايضاً ضمن سياسة تشجيع الصراعات .

وسط هذا المناخ من تراجع النفوذ يضطر الغرب لتقديم بعض الدعم للعرب في الخليج ، ولثورة العراق ولبنان ، وتجنباً لخوض حرب مباشرة في سوريا يضطر لتقديم الدعم للشعب السوري الذي استنزف وأنهك أكثر من أي أحد غيره ، لأن البديل عن ذلك هو تكريس احتلال إيران لسورية من خلال تكريس سلطة الأسد ، كما يضطر الغرب لتفعيل ملفات محاسبة النظام بعد أن نام عليها طويلاً منذ صفقة تسليم الكيماوي برعاية روسية وبشرط توقيع إيران للاتفاق النووي . لكن لا النظام سلم الكيماوي ولا إيران التزمت بالمعاهدة ، مما أجبر الغرب على التحرك بعد أن سكتوا عن استنزاف حليفهم المفترض (الشعب السوري) الذي كان ضحية عدوان روسيا وإيران، و وقوداً لتحقيق المصالح الغربية ) .

هكذا تتقلب السياسات بتقلب الظروف ، وتتغير قواعد اللعبة باستمرار في الشرق الأوسط المستباح كلياً والذي يفتقد للحد الأدنى من الاستقلال والمنعة والاستقرار ، ولكي لا يبقى هذا الحال طويلاً فإنه لا مخرج من هذا التلاعب الدولي واستغلال الصراعات في المنطقة ، إلا بظهور الشعب كلاعب فاعل منظم وقادر ، وحكومات تقوم بإيجاد حلول سلمية للنزاعات الداخلية والخارجية ، وهذا يتطلب أولا نظماً ديموقراطية داخلياً ، وسياسات سلمية خارجية ، تقوم على التعاون والاحترام المتبادل ، وليس سياسات آيديولوجية عسكرية تسعى لمحو الآخر وازالته من الوجود … لأن ذلك مستحيل ، بسبب التنافس الدولي الذي يوفر دوماً حلفاء خارجيين لأي طرف (فأي صراع يمكن أن يدوم ، لكن لا يمكن أن يحسم ) ، وهي صفة عامة تشمل كل صراعات المنطقة بما فيها الصراع العربي – الاسرائيلي والعربي – الفارسي ، والتركي – الكردي …. وأيضاً الصراعات القومية والطائفية والعشائرية داخل كل دولة … كلها صراعات وجدت لتبقى لا لكي تنتهي ، فهل نتعظ ؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.