إن سقطت دمشق تسقط بيروت وبغداد

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بمقدار ما تظهر الصورة قاتمة أمام شعوب المنطقة بالنظر من خلال دائرة الحسابات التي تتعلق بالأوضاع في العراق وسوريا ولبنان ، فإن الصورة بالنظر من خلال دائرة أوسع تبدو مختلفة، فما يحدث في المنطقة من ويلات وحروب هي في الحصيلة عملية تغيّر جيوسياسي مهم وحاسم في المنطقة كلها وفي العالم.

فقد عانى العراق كثيراً من الاستبداد ثم الحروب مع إيران والكويت، ثم الاحتلال والصراع الأهلي والإرهاب، ثم الفساد والطائفية البغيضة، وأخيراً الفقر والفوضى، وتسعى إيران حالياً لإعادته لدوامة الحرب الأهلية لتتجنب نتائج ثورة شعبه عليها.

وقد عانى لبنان أيضاً من الحرب الأهلية بسبب الإقطاع السياسي، ولم يتعافى منها بسبب تحوله لدولة أمنية على يد حزب الله في عهد الجنرال لحود ، والتي لم يستطع الشهيد رفيق الحريري إنقاذه منها ، فتحول لدولة إقطاع فاسد مفلس أودت بمقومات الحياة فيه حتى اندلعت ثورة شعبه عليها، والتي لم تبقِ فوق الطاولة من حلول أمام نظامه المرتبك سوى تسعير آلة القمع الهمجي، واشعال فتيل الحرب الطائفية في ظل أزمة اقتصادية خانقة تهدده بالإفلاس الكامل، بما يعيد ذكريات مجاعة السفر برلك .
وعانت سوريا طويلاً من نظام عسكري مستبد تحول لنظام طائفي فاسد، لم يتورع عن ارتكاب كل أنواع الإجرام بحق شعبه الذي ثار عليه ، فاستعان بكل أنواع العصابات والإحتلالات ليحقق نصراً عسكرياً يلغي وجود شعبه واستقلاله واقتصاده معاً وكلياً ، ويتحول إلى دولة ركام وأشباح وهمجية.

وفي الوقت الذي تبني فيه معظم المجتمعات في العالم دولة الرفاهية، فإنه لا يظهر أمام شعوب هذه المنطقة التي انتفضت من الألم بارقة أمل في نصر قريب، أو امكانية لتغيير جوهري في ظروف حياتها في المنظور من الأيام، بالنظر للوضع الداخلي والإقليمي والدولي الخانق، والنظام الدولي المعطل والمتهالك، والتدخلات الإقليمية والدولية الهائلة. ومع ذلك أيضاً لا تستطيع شعوبها العودة للوراء فهي تسير على محرك الألم الذي لا يتوقف حتى لوكان سيرها من دون أمل قريب أو رجاء منظور … لكن الملفت أنها تسير معاً وبشكل متفاعل ومتزامن، وهذا ما يجعلنا ننظر للقضية من دائرة أخرى.

عبّرت الحقائق الجيوسياسية دوماً عن ترابط دول المشرق العربي، فمن يهمين على شرق المتوسط ، يهيمن على المعبر البري بين ثلاث قارات فهو قلب العالم القديم ، وهذا ليس السبب الوحيد لوحدته أو لاستمرار الصراعات فيه وعليه ، والتي تسببت في تخلف بنيته الاجتماعية وعجزها عن التحول المدني الحضاري ، فهناك مصادر الطاقة التي دخلت عاملاً جديداً يستثير لعاب الكلاب الدولية النهمة ، وهكذا تعرضت العراق الغنية بالنفط للغزو والدمار عندما حاولت الاستقلال بقرارها، ولكن اكتشاف النفط والغاز في سوريا ولبنان والمتوسط نقل ذلك الصراع إليها، فتحولت الثورة السورية على النظام المجرم لحرب أهلية طاحنة وحرب بالوكالة أو مباشرة بين الدول ومحاورها العالمية، ودخل لبنان أيضاً ساحة الحرب بتدخل حزب الله أولا في سوريا، ثم بسبب الحصار الاقتصادي الرامي لمنعه من الإفادة من نفط المتوسط، في النتيجة نشهد اليوم ثلاث دول في حالة حرب وغليان هي العراق وسوريا ولبنان ، ناهيك عن دول أخرى قريبة تعاني كاليمن وليبيا ومصر ، فتضارب أهداف الربيع العربي مع المصالح الدولية ولّد هذه الصراعات التي لا يراد لها أن تندمل ولا أن تحسم.

فلولا النفط لانتصر الربيع العربي بسهولة وأزاح تلك الأنظمة المتعفنة التي لم يعد يوجد لها مثيل في العالم، لكن إعاقة مختلف الدول لهذا الربيع هو من أدخله في متاهات عديدة ، لا أقصد فقط المال النفطي الذي دفعته دول النفط العربي لهذا الطرف أو تلك الدولة ، بل أيضاً التدخلات الإقليمية والدولية التي لعبت دورها في إفشال الربيع وتشويهه بكل الأشكال بما فيها تغذية الإرهاب. لم يتركوا سلاحاً يمكن استخدامه إلا واستخدموه لمنع هذا الربيع من تحقيق أهدافه ، لعبوا على كل الأوتار الدينية والطائفية والقومية والأيديولوجية … لكن كل ذلك لم يكن كافياً لإيقاف الشعوب التي تحملت ما يمكن وصفه بحرب الإبادة ، فنصف الشعب بين قتيل ومهجر ، ومع ذلك يستمر في كفاحه… وينتقل من جبهة لجبهة ، ويستخدم كل أنواع الأدوات والأسلحة المتوفرة من دون كلل ولا فتور.

الحقيقة الأساسية هي أن هذه الشعوب التي تكافح من أجل الحرية والتقدم والكرامة والاستقلال تملك ما يكفي من العزيمة والإصرار ، وقد تخلصت بثورة العراق ولبنان من أهم عائق أمام نجاحها وهو الطائفية والإقطاع السياسي ، الذي ما يزال يوظف كسلاح فعّال في لجم تلك الشعوب ، وأداة للتدخل والسيطرة .
الحقيقة الثانية أن الدول المتدخلة تحسب حسابات الربح والخسارة فعندما تصبح خسائرها أكبر تنسحب عسكرياً كما فعلت أوروبا وأمريكا اللتان تخلتا عن فكرة الهيمنة والاحتلال والتدخل بنتيجة عقم تجربتهم ، لكن روسيا والصين ما تزالان تشعران بالرغبة في التدخل ، لأن الصين تستخدم روسيا وإيران كأدوات ، في حين أن إيران قد أصبحت تحت عقوبات غربية قاسية نتيجة ذلك وهي تكابر وتعاني ، لتبقى روسيا في بحبوحة لأنها تلعب على المتناقضات بين دول المنطقة ( تركيا إيران السعودية) ، وتستفيد من دعم كل طرف بطريقة مختلفة ، فالتركي الذي يخشى قيام دولة كردية في جنوبه وشرقه يطلب ود الروس ، بينما تحارب دول الخليج بعضها بالوكالة عبر شمال سوريا وغرب ليبيا ، وطبعاً لبنان والعراق ساحة لذلك الصراع المخرج من هذه الحالة المعقدة التي تدعوا لليأس لا يمكن انتظاره من تغير موازين القوى الداخلية ، أو المتدخلة ، فالمنافس الوحيد للروسي والصيني قد أعلن انسحابه من الصراع ، لكن العامل الحاسم والأهم الذي يدخل المعادلة تدريجياً هو الشعوب ، التي تتغير بسرعة ، فكما اندلعت ثورة العراق ولبنان ضد النظم القائمة فيها الداعمة لنظام دمشق ، يمكن لشعوب الدول الأخرى أن تتحرك وتغير سلوك حكوماتها ، أقصد طبعاً الشعب العربي في الخليج ، والشعب الإيراني والتركي ، وأيضاً في روسيا والصين ، حيث الأزمات الاجتماعية والسياسية على أشدها حتى لو كان اقتصادها متماسكاً حتى الآن . فلا يمكن تحقيق ولا ترسيخ تقدم اقتصادي على قاعدة سياسية واجتماعية هشة ومتناقضة.

هذا زمن الشعوب ، فهي العامل الأهم في رسم السياسات ، لم يعد بالامكان لأي حكومة في العالم أن تتلاعب بإرادة مواطنيها ، في الغرب الموضوع محسوم ، فنتائج الاقتراع تدل دوماً على هذه التغيرات غير المنظورة وغير المتوقعة أحياناً ، لكن دول الاستبداد الشرقي تبقى عرضة لثورات كالتي حصلت في الربيع العربي الأول ، والثاني ، فهناك موجات جديدة من هذا الربيع ستطال إيران ودول الخليج وتركيا أيضاً، وهي من ستفرض حقائق سياسية مختلفة ، وتحدث تغييراً جوهرياً في الجيولوجيا السياسية التي حكمت الشرق الأوسط ، وقد انتهى زمنها إلى غير رجعة.

إن ثورات الشعوب العربية من بغداد لبيروت تحتاج لبعض المؤازرة من شعوب شقيقة في الخليج وفي إيران وتركيا ، لكي يولد شرق أوسط مختلف ، وهذا هو الشكل السياسي الوحيد الذي يمكن أن يؤمّن الاستقرار والاستقلال والتقدم . من أراد تقسيم المنطقة والهيمنة عليها سيواجه عوامل وحدتها وقوتها الجيوسياسية التي تتوسع وتزداد في عصر العولمة . أي أن الربيع الممتد من بغداد لبيروت عليه أن يتوسع قريباً ليشمل طهران واستانبول أيضاً ، لكي يعود السلام والاستقرار كحاجة لا غنى عنها عند شعوب المنطقة ، هذا ما يفترضه ذات المنطق الذي جعل هذه الدول تتدخل وتنخرط في قضايا وصراعات خارج حدودها كالصراع في سوريا ، والذي يتبناه محور المقاومة . لكن وفق ذات المنطق تبقى دمشق هي ممر العبور الإلزامي ونقطة تقاطع الشرق الأوسط ، وحسم الصراع فيها وعليها هو مفتاح المستقبل وموجهه ، في عموم الشرق الأوسط .
قديما قالوا إن سقطت البصرة تسقط دمشق ، واليوم نقول إن سقطت دمشق تسقطت بيروت وبغداد .. وحتى طهران ، صبراً شعب سوريا فإن موعدكم النصر بإذن الله ، بقوة الشعوب وليس الدول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.