لست متعاطفاً مع الصين

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لا بد أن مشاعري الإنسانية قد أصيبت بالعطب، لأنه عادة ما يتعاطف البشر مع بعضهم البعض في المحن والمآسي، ويتصورن أنفسهم مكان الآخر الذي يعاني حتى لو كان حيواناً، لكنني فعلاً لا أريد أن أشعر بأي تعاطف مع الصين في محنتها مع فيروس كورونا. ومسرور من موجة الرعب التي تجتاح العالم بسببه، ربما أملاً في أن يراجع العالم نفسه قليلاً بالمعنى الذي حوته الآية القرآنية (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين) فمن مات حتى الآن بسبب هذا الفيروس لا يتجاوز عددهم من يموتون كل يوم بنيران القصف الروسي في سورية، والعالم صامت لا يشعر بأي مشاعر على مدى سنوات، أي أنني لست وحدي من تعطلت مشاعره الإنسانية، بل سبقني إلى ذلك الغالبية الساحقة من البشر، أخص منهم مندوب الصين في الأمم المتحدة.

عدم رغبتي في التعاطف مع الصين ليس لأن الذي أصابها من القدر الذي لا زعل منه والكل تحت ألطافه، أو لأن الإنسان منذ أن خلق محكوم بالمعاناة ومن ثم بالموت. وليس لحقد عنصري دفين ضد عرق معين، لكنني أعتقد أنه بسبب سياسات الصين تجاه معاناة الشعب السوري، فما أريده هو حد أدنى من التبادل العادل في المشاعر، فالصين التي تبعد عنا آلاف الكيلومترات، والتي لا أعرف منها شخص واحد، قد استخدمت حق النقض الفيتو أكثر من عشر مرات وضد كل قرار يحاول وضع حد لمأساة الشعب السوري، وهذا العدد هو أكبر من نصف عدد المرات التي استخدمته منذ دخولها مجلس الأمن الدولي، فهي كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن مسؤولة بشكل غير مباشر عن محنة مئات ألوف السوريين الذي ماتوا في أقبية التعذيب وتحت أنقاض منازلهم المهدمة فوق رؤوسهم وفي مياه البحار، و عن تدمير ثلاثة أرباع سورية وتشريد ثلاثة أرباع شعبها، وهي بالرغم من مسؤولياتها الدولية تسعى إلى اليوم جاهدة لعرقلة تطبيق العدالة الدولية بحق المجرمين الذين فعلوا ذلك وتقدم الدعم لهم، الصين كدولة لم تتعاطف ولا مرة مع محنة السوريين، فهي تفكر بمصالحها الأنانية فقط بكل بلادة وعلى حساب معاناتنا، فكيف يمكنني أن أتعاطف معها ؟

مع أن الفارق كبير بين ما يحدث في سورية وما يحدث في الصين، ما يحدث في سورية هو فعل بشر يمكن تجنبه، وما يحدث في الصين هو فعل القدر، الوقوف مع المجرم شراكة في جريمته، أما تقبل القدر فهو تسليم بالعبودية للخالق، الذي ربما نعتبر قدره نوعاً من العقاب، ودافعاً لمراجعة الذات، على الأقل نحن نراه كذلك، فلله أسماء كثيرة أحدها المنتقم، وعندما نفتقد لأي صوت متعاطف معنا في محنتنا، تصبح الكوارث التي يأتي بها القدر للآخرين هي المحرك الوحيد المتبقي لمشاعرهم الإنسانية الغافية، أو هكذا نفترض أن تكون.

لا أستطيع الفصل بين السياسة والإنسانية، ولا بين حكومة الصين وشعبها، فالسياسة الصينية ضربت عرض الحائط بقيم الإنسانية عندما تعلق الموضوع بالإنسان السوري الذي ترتكب بحقه جرائم ضد الإنسانية بغطاء سياسي من الصين ، والشعب الصيني هو المسؤول عن سلوك حكامه، وإذا كان مقموعاً فهذا ليس بسبب السوريين، بل هم من يقمعون بسبب جبن الصينيين والروس وتخاذلهم عن المطالبة بحريتهم، وبحكومة تحترم إنسانيتهم، فالصين بالنسبة لي هي شخصية اعتبارية واحدة .

الصين كدولة تتنكر للقيم الأخلاقية والإنسانية والدينية بمفعول عقيدتها المادية الشيوعية التي تعتبر أن العنف هو محرك التاريخ، وتعتمد نظام سياسي فاسد مستبد، واقتصادي غريب عجيب ليس اشتراكي (ملكية دولة) وليس رأسمالي (اقتصاد حر) بل مزيج بينهما يحقق للمافيات المستبدة الحاكمة ميزات الحاكم الحزبي المستبد والرأسمالي المستغل معاً، ونحن فعلاً لا ندري من هو المالك الحقيقي للسلطة أو للثروة، فهم أشباح مختفية وراء واجهات وأقنعة، والشعب الصيني مستبعد كلياً عما يدور وعن أي دور سياسي رقابي أو محاسبي، فالصين هي أكبر دولة مافيات في العالم تليها روسيا وتتبعهما سورية في نادي يضم معظم الدول التي سبق لها وطبقت النظام الإشتراكي ( ملكية الدولة ) من دون النظام الديموقراطي. فهم عندما يدافعون عن النظام في سورية يدافعون عن نظمهم هم أيضاً ، التي يريدون تعميمها في العالم ليصبح على شاكلتهم.

النظام السياسي في الصين نظام ينتمي تكوينياً لعصر الهمجية والعبودية، يقمع قيم الدين والحرية والديموقراطية والعدالة، ويدافع عن نظم الفساد والمافيات والقمع الوحشي، ويدمر اقتصادات الدول المتقدمة ليقوض النظام العالمي، ولا يعطي بالاً لما يحدثه من تلوث وتخريب بيئي، فهو يسرق حقوق عماله ليغرق الأسواق ببضائع رخيصة سرعان ما تتحول لنفايات، همه سرقة كل فكرة وكل إبداع ينتجه العالم المتحضر، فهو أيضاً يدمر موازنات التطوير، ويدفع الدول المتقدمة للتخلف وحافة الإفلاس ويخلق أزمة اجتماعية متعاظمة داخلها تتجلى بعودة (العنصرية والكراهية للآخر )، ليتحكم هو في العالم كأخطبوط اقتصادي أولاً ثم احتلال همجي ثانياً، ومع أنه يتبنى النظرية (المضادة للإمبريالية) شكلاً، لكنه يسلك فعلاً سلوكاً امبريالياً أخطبوطياً مجرماً،
لا أتعاطف مع الصين لأنني لم أر جانبها الإنساني، فهي متمرسة في إظهار بلادتها، كما أنني لن أتعاطف مع روسيا التي تظهر لي وجهها المفترس، ولن أتعاطف مع إيران التي أظهرت وجهها اللئيم المخادع.

وبالتأكيد لا أتعاطف مع لبنان في أزمته المالية، لأنني ما أزال أذكر كيف تعامل مع اللاجئين السوريين وأذلهم بعد أن كان مشاركاً في تشريدهم، فمن عدالة القدر أن يجوع المتجبر ويعرى ويتشرد، كما أنني لا أحزن على تدهور قيمة الليرة السورية بالرغم مما يسببه ذلك من معاناة لأهلنا، لأن المعاناة لم تكن يوماً بسبب سعر الليرة كما يريد البعض ايهامنا، بل بسبب من يسرق قيمتها و يدمر أسس الاقتصاد ويبدد الثروة وينهب قوت الشعب، ويجلب جيوش الاحتلال ليحافظ على السلطة، وهذا الفاعل المجرم لن يسقط من دون تفكيك أسس دولته، وذلك لن يكون من دون ألم.

هل فقدت إنسانيتي، بعد أن مورست ضدي كل أنواع الكراهية والسادية من معظم دول العالم التي تحولت فيها للاجئ مهان ومكروه بسبب سياساتهم وأطماعهم ببلدي وحقدهم على هويتي وديني الذي لا يمكنهم إخفاءه؟ أم يجب أن أنضم للذين يطالبون بتخفيف العقوبات رحمة بالشعب السوري، مما سيتيح للنظام البقاء والاستمرار بقتل البشر واستعبادهم، هل أدعوا الله أن ينجي الصين وروسيا من الكوارث لكي تستمر في جبروتها وتستمر الكوارث عندنا ؟ المسألة كما تبدو لي هي مسألة تبادل ، فجواب المرحبا هو أهلاً، وجواب العدوان هو الكراهية، لأنني لست (يسوعاً) بل إنسانا يتأثر بما يحدث ويتفاعل مع الآخر، فالحب والكراهية والتعاطف والتشفي هي أشياء تفاعلية متبادلة .

أنا أدرك أن العطب الذي أصاب مشاعرنا ليس بسبب إرادتنا أو فعلنا، وليس قدراً فرض علينا، بل بسبب ما فعله الآخرون بنا كشعب، وأدرك أن هذه الكراهية يمكن أن تكون أرضية نفسية مهيئة للعدوانية، التي نحاول دوما كبتها، باستخدام الوازع الديني والقيمي وبحدود قدرة الأنا العليا عند البشر، والتي قد لا تستطيع دوماً كبح جماح المشاعر ، أقول ذلك لمن يسألون عن سبب الإرهاب الذي ينتج عن تفجر تلك الكراهية المتراكمة، والتي تدفع البعض لقتل نفسه كي يقتل معه الآخرين ، أليس الظلم والقهر الذي ترتكبونه يهيء الأرضية النفسية لشعب كامل ليصبح عدوانياً يسره على الأقل انتقام القدر منكم؟ أليس عاراً على الإنسانية أن لا نشعر بمصائب غيرنا؟ أليست المشاعر شيء تبادلي وتفاعلي؟ فماذا تبادلني كي أبادلك؟ ترسل لي الطائرات والصواريخ فأعتبر أن القدر أرسل لك فيروس كورونا عقاباً؟

إنها الحرب العالمية بشكلها المستتر الذي تشترك فيها الآلهة أيضاً ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجّيل ) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.