مشكلة الهوية في سوريا



د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

قال السفير الأمريكي السابق فورد، الذي تصفه المعارضة بأنه ذكي، (ابن حرام)، في اجتماع نهاية ٢٠١٢ لمجموعة أصدقاء سورية في لندن: “لقد خدمت في العراق والآن في سورية  ولاحظت وجود مشكلة هوية في كلا البلدين، هل يمكنكم أن تحددوا لي ما هي هوية سورية؟، أجبته يومها بطريقته، كونه يعزف دوماً على وتر الأقليات ويلحن للأفكار التقسيمية، قلت في الاجتماع: “هناك أغلبية واضحة للعرب السنة، ومسألة هوية الدولة هي حق من حقوق الأغلبية في أي بلد (طبعاً قبل أن يتم ذبحهم وتهجيرهم). أما إذا كنت تقصد الشعور الوطني بالانتماء لسورية أولاً، فأنت محق، هناك مشكلة فعلاً، لأن الأقليات والأغلبية معها لا يشعرون به، والسوري هو من يقتل السوري ويستعين بالأجنبي لمساعدته، والحرب في سورية هي بشكل عام ضد الهوية وضد الوطن، تظهر عليها ملامح تحالف الأقليات ضد الأغلبية المعنية بالهوية أصلا ، وهذا أخطر ما يفعله النظام على مستقبل سورية ووحدتها”. الهوية في سوريا

في الماضي سورية لم تكن هوية يشعر بها المواطن، فهي لم تعد عن كونها لون علم واسم جنسية على بسبور، إذاعة تذيع الأغاني القومية التي تنتهي بشخص هو رمز سورية، سلطة رقابة وخوف تخيم عليه أينما وجد، حواجز أمن عند المعابر يتنفس الصعداء عندما يخرج منها، سورية شعورياً لا تعني شيئاً يوحدها ويميزها عن غيرها، ولربما أحب السوري اللبناني، والعراقي والمصري  والخليجي، أو الأوروبي، أو التركي أو الفارسي أكثر من الحلبي والحموي والحوراني والديري والشامي….، هذا دون أن نتطرق للمشاعر الطائفية، ومشكلة الانتماء لدى الأقليات، والتي ما تزال تشعر بالغربة في سورية وكأنها ممثلاً لهويات ودول أخرى، حتى الأغلبية تعتبر سورية سجنها الذي صنعه الاستعمار، ليفصلها عن أخوتها في بقية الدول العربية أو الإسلامية.

أتذكر يوم كنا في السجن، كانت الهوية تتبع لرقم الجناح ورقم الغرفة، بقية الأجنحة ينادوننا برقم جناحنا (يا ستة) وفي داخل الجناح يأتي أحدهم باب الغرفة ويصيح علينا (يا ١١)، وفي داخل الغرفة هناك ابن معزبة وابن صفرة وابن دعوى، أما في المحاكم عندما يريدون إعادتنا بسيارات الحاويات بعد ربطنا بالجنازير فيصنفونا بين (عدرا وصيدنايا وقطنا ودوما)، هذا يحدث بشكل عفوي لكنه يتبع محاولة فرع الأمن إعطاءك رقماً بدلاً عن اسمك وهويتك التي يجب أن تختفي…  نعم سورية كانت شراكة جنزير، ورقم واسم فرضه الاستعمار، لم يذكر في التاريخ كإسم لدولة، ولم يستعمله السكان قبل الاستعمار لوصف المنطقة جغرافياً، سورية اسم دولة مصطنعة على حدود مرسومة لها مسبقاً، لا يجمع تنوعها الثقافي والحضري والديني والقومي هوية سياسية جامعة، عاشت هذه المجموعات تاريخياً كأقليات ومتصرفيات أو إمارات في دولة امبراطورية أكبر منها  بكثير.

نسي فورد التاريخ، ونسي أن سورية دولة مصطنعة فرضت في المنطقة كغيرها من الدول، من دون منطق يجمعها داخلياً أو يفصلها عن غيرها خارجياً، رسم الاستعمار حدودها وفقاً لقضايا لا علاقة لها بالتكوين الطبيعي التاريخي، لذلك لم تصبح سورية هوية لشعبها، كما لم تصبح وطناً ينتمون إليه، بالنظر لاستمرار حكم الاستبداد والقهر منذ فجر الاستقلال،

لم يشعر السوريون بهويتهم كسوريين إلا مرتين فقط: مرة يوم الثورة على الانتداب الفرنسي ١٩٢٦، وبقي زخم ذلك الشعور حتى ما بعد الاستقلال والذي يرمز له العلم الأخضر، ومرة عام ٢٠١١ يوم الثورة على بشار والتي عادت لرفع ذلك العلم، في الثورة شعر السوريون لأول مرة ببعضهم وبإخوتهم، وبما يميزهم عن المصريين والليبيين عندما ثاروا على سجانهم كأبناء غرفة، وسجن مختلف، لأول مرة تختفي النزعة المناطقية والقبلية والأهلية، ويصدح الشعب بصوت واحد، فيختفي الشك والكره والنفور، ويظهر الإخاء والتعاون والفزعة (يا درعا حِنّا معاكِ للموت) … فترة وطنية ذهبية لم تطل، وليست كافية اليوم لإعادة تصنيع هوية وطنية، أو ترقيعها، بعد كل ما جرى من فظائع وويلات وجرائم بحق الشعب. على يد النظام و ومختلف المكونات في طرفي الصراع عرقياً وطائفياً وسياسياً. الهوية في سوريا

ليس أمام سورية من مخرج سوى الاعتراف بواقعها المرير المتمثل بدمارها المادي، ودمارها المعنوي أيضاً، لا يوجد شعور وطني يستطيع القفز بنا فوق تلك المرحلة وهذه الحقائق، لكن الحاجة لوطن قد توحد جهودنا لإقامة دولة العقد الوطني، وليس دولة الأمة ذات الهوية، على ما تبقى من أرض وسيادة يسمونها سورية وبمن تبقى من شعب يعتبرونه سوري، وذلك بضمانات دولية واقليمية، وإلا فالحرب السورية سوف تطول وتطول، ليس فقط بسبب صراع الأجانب عليها، بل بسبب تفكك هويتها الوطنية وتشظيها لهويات وانتماءات قومية ودينية وطائفية ومناطقية وقبلية وسياسية متناحرة تنفي بعضها وجودياً، وكلها تقع في المرتبة الأولى متقدمة على الهوية الوطنية التي هي مجرد ذكريات سجن يصعب محوها.

لقد ضيع البعث الفرصة لخلق هوية وطنية عندما استخدم التعليم لتأليه الفرد، والجيش لحمايته، ووحدة الشعب في قيادته… وهكذا عندما تبين أن هذا الفرد (…)، كر الوطن وانهارت الهوية ..

كما ضيعت قيادات الثورة فرصة ثمينة أخرى عندما عجزت عن تقديم نموذج جديد للوطنية، وانغمست في التعصب الثلاثي الأبعاد (القومي، الطائفي، السياسي) وما ينتهي إليه من أنانيات وانتهازية. واستمرار الحالة الراهنة لا يعني سوى المزيد من الدمار والخراب.

سابقاً عندما طالب الغرب صدام حسين بإجراء إصلاحات ديموقراطية، ابتسم وقال لهم العراق لا يحكم إلا بالقوة، من دونها يتشظى …

هل قتلت ثورة الحرية في سورية دولة السجن ؟ فعاد كل سجين محرر ليتذكر هويته، من سيقنع الأطراف المختلفة التي أثخنت جراح بعضها بالعيش المشترك مرة أخرى  في دولة واحدة وتحت سيادة واحدة، وكيف سيعيشون فيها، السوريون اليوم يتعلمون كل لغات العالم التركية والروسية والفارسية والألمانية، ويحملون ألواناً مختلفة من البسبورات، مع تلف وانمحاء بسبورهم الوطني إذا توفر… الهوية في سوريا

سؤال مؤجل حالياً لأن الدول النافذة قد اكتشفت هذه الحقيقة، فأصرت على بقاء السجن الذي يسمونه سوريا، تحت رحمه حارسه و جلاده طبعاً، هكذا تظن أن حلف الأقليات الذي يمثلها  قد انتصر، فالروس والإيرانيون بشكل خاص، وأوروبا والغرب (حفيد الاستعمار) إلى حد ما معنيون بهذا الأمر، ويصرون على بقاء سوريا سجناً يمتد على كامل أراضيها اسمه سجن سوريا الأسد. وهذا يعني دفن سورية وإلغاء هويتها واسمها من الوجود (تحت شعار الأسد أو نحرق البلد). 



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.