اللاجئون السوريون في تركيا

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

قبل اندلاع الثورة السورية أدّى التقارب السوري التركي لنمو العلاقات التجارية والاقتصادية والدبلوماسية بين البلدين، ثم سريعاً أدّى لتقويض الاقتصاد السوري الذي لا يملك إمكانية المنافسة مع اقتصاد مشابه له، خاصة في مجال الألبسة، مما ظهر جلياً على شكل إفلاسات واسعة في حلب وغيرها.

وبعد قرن من العداء وشبه القطيعة بين تركيا وسوريا، كامتداد للصراع العربي التركي في أواخر الحكم العثماني، وسعي العرب للاستقلال حتى لو كان بالتحالف مع الإمبريالية الفرنسية والبريطانية التي عملت على تفكيك الدولة العثمانية المريضة، واستعمار المنطقة برمتها، وبعد فشل التقارب الاقتصادي مع النظام في تحقيق مصالح متبادلة راسخة، جاءت الثورة لتنعش الحلم التاريخي الضائع بضرورة استعادة التحالف التركي العربي على أرضية الإسلام، وهذا ما أدّى تلقائياً لبروز دور جماعة الإخوان المسلمين (كعدو دائم ولدود للقومية العربية) وحامل سياسي لهذه الفكرة، وهو ما شجع الترك على دعم الثورة السورية والسعي الحثيث لأسلمتها، بالتضافر مع دول الخليج المرعوبة من الربيع الديموقراطي العربي.

أدّى خروج أعداد هائلة من المواطنين السوريين الهاربين من العنف والبطش لانتعاش كبير في السوق التركية بسبب نمو الطلب والاستهلاك وضخ رساميل كبيرة فرّت من سوريا، إضافة لتدفق أموال كثيرة لدعم الثورة من الخليج عبر تركيا أو المعارضة الفاسدة المقيمة فيها، وكذلك الأموال المخصصة لمساعدة اللاجئين من الغرب، ناهيك عن سرقة وتعفيش معظم مؤسسات ومعامل الشمال السوري وموارده وخيراته التي وجدت طريقها للسوق التركية النهمة، أيضاً توفر يد عاملة رخيصة ومدربة، وخبرات جديدة لسوق العمل.

كل تلك العوامل أسست لنظرية أردوغان – أوغلو (الأنصار والمهاجرين) التي وصفت العلاقة بين السوريين والترك وغطت شهر العسل الذي امتد سنوات حتى سقوط حلب. أي أن الترحيب بالمهاجرين السوريين كان بمقدار ما حملته قوافلهم من خيرات، وما وعدت به من أحلام، ولكن وبعد سنوات نفدت الخيرات وأفقرت سوريا والسوريين، واصطدمت الأحلام العثمانية بصخرة الواقع الذي كرّسه أطراف سايكس بيكو، عبر دعم القضية الكردية، وإعطائها ورقة جغرافية هامة وحيوية، والسكوت عن التدخل الروسي الذي قوّض فرص هيمنة تركيا على سوريا أو سعيها لضم قسم هام من الشمال الذي لا قيمة له من دون حلب.

لقد كانت معركة حلب التي تخاذل فيها التركي عن حماية مصالحه وطموحاته هي نقطة التحول في العلاقة بين الترك والسوريين، بمقدار تحطم تلك الطموحات المشتركة، وهكذا تحولت تركيا من داعم للثورة إلى لاعب يريد تقليل حجم الخسائر بقدر الإمكان، هكذا تحولت سوريا وثورتها وشعبها إلى عبء وخطر، لا إلى حليف استراتيجي، وهو سبب التحول الرسمي الكبير في السلوك تجاه السوريين وقضيتهم، ترافق مع انكفاء تركيا رسمياً، خاصة بعد محاولة الانقلاب على أردوغان من الجيش والدولة العميقة المدعومة غربياً.

أما على الصعيد الشعبي التركي، فقد تراجعت منافع الهجرة والنزيف السوري تجاه تركيا، بمقدار نضوب الدم السوري الغني بالفيتامينات والبروتينات، وتحول السوريين عموماً للفقر المدقع، ونضوب وجفاف الدعم، ونفاد مصادر التعفيش، لتظهر على السطح أكثر فأكثر الجوانب السلبية للتواجد السوري الكثيف في المجتمع التركي المنغلق والمبني على تعصب قومي مبالغ به يغطي على بنية اجتماعية وقومية مهلهلة بل متناحرة، محكومة بالنظام البطريركي أو العصبوي، فالمجتمع الدمني التركي هو مجتمع مصطنع مركب على نزعة قومية مبالغ بها ذات طابع عنصري واستبدادي، هي ما تظهر الآن على السطح وتعبر عن العلاقة مع الغرباء والمختلفين، بمن فيهم اللاجئون السوريون، الذين شعروا بنهاية فصل الصيف وحلول الشتاء القارس.

لقد تراكمت مشاعر الكراهية ورفض الآخر بمقدار تراجع الدخل وتعثر الاقتصاد التركي بسبب التضخم العمراني الذي امتصّ كل الفائض، وبسبب كورونا، ثم بسبب عودة الفساد للانتشار وعلى نطاق واسع، بعد نمو شبكة مصالح عصبوية أوليغارشية داخل السلطة الميالة للاستمرار ورفض التداول، والتي كرسها بقاء أردوغان وطغمته في السلطة وتعديل الدستور لضمان ذلك.

وبالنظر لتحول الملف السوري من ملف أيديولوجي حالم لملف أزمة يراد تخفيف تبعاتها، وبالنظر لاهتمام العاملين عليه فقط في تحصيل المكاسب الشخصية، أصبح كل سوري مستباح أمام جرذان الفساد والتشبيح الذين أحكموا قبضتهم وفاقموا من قسوتها لزيادة دخلهم عبر إجبار كل سوري على دفع كل ما يملك لهم، حتى لو كان مقابل الحصول على وثيقة إقامة كلاجئ، وقد ترافق ذلك مع نمو ظاهرة كتابة التقارير السورية بالسوريين والتي تستغل للتشبيح عليهم، وهي من قدمت صورة سيئة عن السوريين، استغلتها الأحزاب القومية والمعارضة لتهييج الرأي العام ورفع سوية الكراهية والعداء التي ترجمت تقارباً مع النظام السوري، وهذا ما ترجم لعمليات رفع الفاسدين وعملاء النظام في قيادة المعارضة، وسوقهم للتفاوض مع الأسد والإذعان لنزواته ضمن تفاهمات إقليمية ودولية، وتعبيراً عن توافق المصالح في مصّ دماء السوريين وتحويلهم لنعاج في مرعى ومذبح العصابات الحاكمة في المنطقة والتي سرعان ما تكتشف توافق مصالحها وعدائها للشعوب والقيم والحقوق والديموقراطية والإنسانية.

ما يستطيع السوريون في تركيا فعله الآن هو قليل جداً لا يعدو عن سياسة اتقاء الشر وحني الرؤوس وامتصاص الغضب وتقليص دور العملاء وكتاب التقارير وشركاء الفساد، الممثلين في سلطات المعارضة وهيئاتها، بانتظار فرج من الله لا ينتظر من الدول التي كانت هي سبب مأساة هذا الشعب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.