النبّاشون.. ضحايا حرب

كنت أجمع البلاستيك التي تستغني عنه أمي، وكابلات الكهرباء التي أجدها في طريق عودتي من المدرسة، واراكمها في زاوية فوق سطح منزلنا حتى تصير كميتها جيدة، فأبيعها لـ “أبو عرّوف”، الذي كان يدفع عربته ثلاثية العجلات وهو ينادي على سكان الحارات التي يمر بها، علهم يخرجون ما يملكونه من مواد قابلة للبيع، فيشتريها، فنداء “يلي عندو بلاستيك، نحاس، المنيوم، للبيع” مع مد الكلمة الأخيرة، كان مسموعا في كل سورية. لاحقاً صرت أجد في الشوارع أطفالا من عمري يحملون أكياساً لينبشوا حاويات القمامة بحثا عما يُباع، وكنت أحسب أنهم مثلي يبحثون عن مبلغ ٢٥ ليرة سورية في نهاية المطاف، لكن الفارق أنهم كانوا يجمعون في يوم واحد ضعف ما أجمعه في أسبوع، والحقيقة أن فكرة تقليدهم بالمهنة لم تكن تغريني، وكانت تجارتي الصغيرة والبطيئة تلك، سببا لتوبيخ دائم من والدي الذي كان يعتبر أن تكديس البلاستيك فوق السطح ينتقص من قيمة الأسرة، ثم إني بدأت اكتشف الأمر أكثر بمجرد قدرتي على مغادرة الحي نحو السوق منفرداً، شبان ونساء يحملن أكياساً ليجمعوا ما يقدروا عليه من المواد القابلة للبيع، وآخرين يجمعون “الكرتون”، الفارغ من الأسواق ما إن تغلق المحال أبوابها، فسعر كيلو الكرتون كان بـ ٤ ليرات، وسعر كيلو البلاستيك كان بـ ١.٥ ليرة، وذلك كان في تسعينات القرن الماضي وحسب.

الحرب.. أثر دائم

على يمين الجسر الكائن بالطرف الشرقي من مدينة الكسوة، وتحديدا على كتف اتستراد درعا الجديد، ثمة مخيم يقطنه ما يقارب ٧٠ عائلة نازحة من محافظة الحسكة تحديداً، هو مخيم خارج من حسابات كل المنظمات الإنسانية بما في ذلك “الهلال الأحمر”، والاقتراب من هذا المخيم يحتاج لحذر شديد، فسكانه يخشون النظرة الدونية التي قد يقابلون بها من الغريب، فهم من ابناء عشائر الحسكة الذين تقطعت بهم سبل النزوح إلى خيام مبنية مما تيسر من أقمشة و “شوادر معونة”، اشتروها من حر مالهم بعد أن حصل عليها من لا يستحق.

المهنة الأساسية التي يعمل بها سكان هذا المخيم هي “نبش القمامة”، بحثا عما يباع من “بلاستيك – ألمنيوم – عبوات زجاجية غير مكسورة – كرتون”، وهي المهنة الوحيدة التي قبلت بهم بعد نزوحهم من قراهم بفعل الحرب، حيث تركوا اراض زراعية كانت تستثمر في انتاج القمح والشعير، لكنها اليوم تخضع لسيطرة القوات التركية.

يقول ”حواس” وهو أحد سكان المخيم لـ ”صالون سوريا“: ”اتمنى العودة، على الأقل هناك لدي منزل مبني من طوب لا من خيمة لا ترد برد الشتاء أو خر الصيف، وهناك سيكون لدي القدرة على زراعة أرضي بدلا من أن تتحول لحقول ألغام، هجرت قريتي المبروكة، منذ أن دخلت خارطة الحرب، لدي أطفال أردت لهم العيش خارج المناطق المشتعلة، وهنا بالقرب من الكسوة سكنت مع عائلات أخرى هذا المكان الذي تمر من أمامه قوافل الإغاثة وسيارات المنظمات نحو درعا دون أن تكترث لوجودنا”.

مرافقة حواس إلى مكبات القمامة ستجعل من اليوم يبدو غريباً، يمتلك أدوات للعمل منها القفازات السميكة التي تحميه من الخدوش أو الجروح، وخلال تقليبه للقمامة ونبش أكياسها، يقول: ”من الصعب أن تجد في المكبات ما هو مهم، غالبا ما يكون نباشين آخرين قد مروا بالحاويات في الأحياء، لكن فرصة كسب تبقى قائمة“.

ويستغرب سمير وهو من سكان هذا المخيم أيضاً من الحديث عن وجود زعامات أو تقسيمات لعملية النبش بين المشتغلين فيها، ويقول لـ ”صالون سوريا“: الرزق على الله ونحن نعمل بهذه القاعدة، لا يعرف كل النباشين بعضهم بشكل وثيق، لا يوجد تقسيمات ولا زعامات لهذه المهنة كما يتحدثون عنا في التلفزيون والاعلام، نحن أناس على باب الله وفقط”.

ويسخر سمير من ذكر احتمال تعرضه للمخالفة لأنه يعمل في مهنة غير مرخصة، ويقول: “إذا بدي ارخص نبش القمامة فيجب أن يكون لدي نقابة، وسيكون اسمها نقابة النباشين، وبالتالي حين نتقاعد سيكون لدينا تعويض من صندوق النباشين التعاوني، وربما نستطيع ترخيص جمعية سكنية تحت اسم جمعية النباشين“.

ثم يضيف “كنا نمر بالإحياء فنرى الشفقة في عيون الناس، الأمر مزعج لكنه بات أكثر ازعاجا ونحن نسمع كلام الناس عن ثرواتنا المهولة التي نراكمها من عملية نبش القمامة التي قد لا تصل في النهاية إلى مبلغ يسد الاحتياجات اليومية، ولو كان لدينا الثروات التي يتخيلها بعض الناس، لسكنا في منازل بدلا من خيامنا التي تنهار من ثقل مياه المطر”.

تنميط.. وتهم معلبة 

يخاف سكان الاحياء المجاورة من المخيم، يعتقدون أن سكانه من اللصوص وعصابات الخطف، ويعاني أطفال المخيم من التنميط والتمر، فمن يذهب منهم للمدرسة يعامل على إنه كيس أمراض متنقلة لأن ذويه يعلمون في نبش القمامة، حتى إن سكان الأحياء يمنعون أطفالهم من اللعب مع أطفال المخيم. وتعاني النسوة منهن بشكل دائم من التحرش من قبل اصحاب المحال التجارية القريبة من المخيم باعتبار أنهن “سهلات المنال”، أو يعملن بـ ”الدعارة“.

عن هذا تقول أم مصطفى: ”كلما دخلت لأحد المحال التجارية يبدأ مسلسل التلطيش وتسميع الحكي، الكل يعتقد أن الفقر سيدفعنا للقبول بما يعرض علينا، أو إن مجرد سكننا في الخيام يعني أن النساء منا سيكن جاهزات للعمل في الدعارة، أنهي فعل التحرش بلساني السليط، وإن تمادى المتحرش، صوتي العالي هو سلاحي الوحيد“.

وتخشى النساء من التبليغ عن حالات التحرش أو التعنيف، فمخيمهم الذي يعيشون به غير قانوني وغير مرخص، وكونهم ”الحلقة الأضعف“ بحسب أم مصطفى، سيكون من السهل اتهامهم بالسرقة أو أية جريمة أخرى لإسكاتهن. 

”لهذا نستمر بممارسة حياتنا وعملنا بصمت“ تقول أم مصطفى.

صالون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.