اليوم تبدأ محاكمة غيابية في باريس لثلاثة مسؤولين في أعلى هرم السلطة السورية

تحتضن العاصمة الفرنسية باريس، اليوم الثلاثاء، محاكمة غيابية أمام محكمة الجنايات لثلاثة مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى في النظام السوري، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب على خلفية مقتل فرنسيَين سوريَين اعتُقلا في 2013.
وكان قاضي التحقيق قد أصدر عام 2018 مذكرة اعتقال بحق ثلاثة متهمين من مسؤولي النظام السوري، وهم: علي مملوك المدير السابق لمكتب الأمن الوطني، وجميل حسن المدير السابق للمخابرات الجوية، وعبد السلام محمود المدير السابق لفرع التحقيق في المخابرات الجوية. ثم أصدر قرار اتهام بحقهم وأحالهم إلى محكمة الجنايات في قضية الضحيتين باتريك الدباغ ووالده مازن.
وكان باتريك (وُلد في العام 1993) طالباً في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في دمشق، بينما كان والده (وُلد في العام 1956) مستشاراً تربوياً رئيسياً في المدرسة الفرنسية بالعاصمة السورية، وقد اعتُقلا في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 على يد عناصر قالوا إنهم من جهاز المخابرات الجوية السورية.
ويساهم مدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، المحامي أنور البني، في هذه المحاكمة حيث أكد لـ “القدس العربي” أنه أدلى بشهادته أمام المدعي العام في هذه القضية بمشاركة شهود وأدلة، وقال البني: “المحكمة ستكون في فرنسا بمحاكمة غياية باعتبار أن القانون الفرنسي يسمح بالمحاكمة الغيابية، وذلك بعدما أصدر قاضي التحقيق قرار اتهام بحق علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود”.
وقال: “شارك المركز بالأدلة والشهود في هذه المحاكمة، وكنت أحد الشهود الذين استمع لي المدعي العام 2018، وقد تم تقديم الملفات بالشراكة بين المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ومجموعة ملفات قيصر، ودعمت هذه القضايا بالعديد من الشهادات والوثائق التي تم جمعها من قبل المركز الدولي للعدالة والمساءلة، والآلية الدولية لجمع الأدلة عن الجرائم المرتكبة في سوريا وتقارير منظمات دولية كمنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان”.
وتستمر المحاكمة على مدار 4 أيام ابتداء من اليوم الثلاثاء حتى يوم الجمعة، حيث سيصدر الحكم، بحسب المصدر الذي أكد أنه “سيكون مدى الحياة حيث ستستمع المحكمة لكثير من الشهود خلال هذه الأيام”.
وبين أن “مثل هذا الحكم وبعض مذكرات التوقيف التي صدرت عن القضاء الألماني وغيره بما فيها من محاولات إدانات النظام، ومن ضمنها حكم أنور رسلان الذي كان الأول بالإدانة بجرائم ضد الإنسانية كلها ستكون مانعاً قانونياً صلباً بوجه أي محاولة للتطبيع”. وحول أهمية هذه الخطوة، قال البني: “أهميتها كبيرة جداً، إذ سيصدر عن المحكمة مذكرة اعتقال صادرة عن محكمة وليس عن اتهام، والمهم بهذا الموضوع، أن من يقوم بهذا النوع من الجرائم ليس من الأشخاص العاديين، إنما نظام كامل بما فيه بشار الأسد، وهو المسؤول عن هذه الجرائم”، مبيناً أن هذا الأمر “واضح بقرار الاتهام، إذ إن الأوامر بارتكاب جرائم ضد الإنسانية تصدر من أعلى مستوى بالدولة، وهذا يعني أن بشار الأسد مشارك في الجرائم وهو الذي يصدر الأمر فيها”. ووفقاً لمدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، فإن القرار الذي سيصدر في 24 من الشهر الجاري، سيقطع الطريق أمام أي محاولة لإعادة تأهيل النظام السوري أو التطبيع معه، وسيكون حاجزاً دائماً أمام مسار التطبيع.
ويقول البني إنّ “إغلاق طرق العدالة المألوفة في مثل حالة الوضع السوريّ كمحكمة الجنايات الدوليّة أو إنشاء محكمةٍ خاصّةٍ بالوضع السوريّ بسبب عدم انضمام سوريا إلى اتّفاق إنشاء المحكمة واستخدام روسيا والصين الفيتو أربع مرّاتٍ لمنع هذه الطريق، كما أنّ إغلاق طرق الحلول السياسيّة الاتفاقيّة لإنهاء مأساة الشعب السوريّ وانعدام أيّ فرصةٍ لحلٍّ سياسيٍّ يحقّق الحدّ الأدنى من العدالة للضحايا، ألهم الضحايا وممثليهم لاستخدام الصلاحيّة العالميّة المتوفّرة في عددٍ من البلدان الأوروبيّة، وأقدمها ألمانيا، للبدء بإجراءات العدالة، وهو طريقٌ لم يسلك سابقًا إلّا بشكلٍ بسيطٍ، ولم يكن هناك نتائج تذكر في هذا المضمار”.
و”من هنا كان تركيزنا في موضوع ملاحقة المجرمين على هذه الجريمة بالتحديد، أولاً لأنها الأوسع نطاقاً والأكثر ضحايا، وثانيا بسبب وصول مئات آلف السوريين/ات إلى أوروبا ممن كانوا ضحايا هذه الجريمة، لذا توفر الضحايا والشهود والمدعين على ارتكابها، والحصول على الوثائق التي تؤكد سلسلة القيادة ومسؤولية الشخصيات الأكبر في النظام السوري عن هذه الجريمة ضد الإنسانية، كما يتوفر لدى أوروبا القضاء المستقل ويتوفر لدى قضائها الصلاحية العالمية التي تمنح القضاء ملاحقة المجرمين ضد الإنسانية ومجرمي الحرب إذا كانوا موجودين في أراضيها حسب اتفاقيات جنيف الأربع، واتفاقيات منع التعذيب وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالعنف الجنسي، كما تتوفر لدى بعض الدول وهم ألمانيا منذ 2002 والسويد والنرويج منذ 2014 صلاحية ملاحقة المجرمين ضد الإنسانية حتى لو كانوا خارج أراضيها، لأن إفلات هؤلاء من العقاب سيهدد السلم العالمي كله”.
ولفت إلى أن “أكثر من 60 مسؤولاً أمنياً سورياً كبيراً ما زالوا في سوريا مشتبهاً بهم وموضوع تحقيق رسمياً مفتوحاً بارتكابهم جرائم ضد الإنسانية. وبناء على ملفات تحقيقية، صدرت مذكرات توقيف دولية بعدد من المسؤولين المتهمين في أعلى هرم السلطة والموجودين في سوريا إلى الآن”، منها مذكرات توقيف بحق علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني، وجميل الحسن رئيس إدارة المخابرات الجوية، وعبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق لدى المخابرات الجوية بدمشق.
وحسب الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، فإن الإجراءات تهدف إلى “محاكمة أعلى المسؤولين في النظام منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011” ضد رأس النظام بشار الأسد.
وستضمّ هيئة محكمة الجنايات ثلاثة قضاة من دون محلّفين، وسيتمّ تصوير جلسات الاستماع المقرّرة على مدى أربعة أيام لحفظها ضمن أرشيف القضاء. ولأول مرة في محكمة الجنايات في باريس، سيتم توفير الترجمة العربية للجمهور.
المحامية بيكتارت، قالت: “نميل لأن ننسى أنّ جرائم النظام لا تزال تُرتكب حتى اليوم. هذه المحاكمة بمثابة تذكير بأنّه يجب ألا نقوم بأيّ حال من الأحوال بتطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد”.
وبحسب صهر مازن، الذي اعتُقل في الوقت ذاته ثمّ أُطلق سراحه بعد يومين، فقد نُقل الرجلان اللذان يحملان الجنسيتين الفرنسية والسورية، إلى مطار المزّة قرب دمشق، الذي يوصف بأنّه أحد أسوأ مراكز التعذيب التابعة للنظام.
إثر ذلك، غابت أي مؤشرات إلى أنهما على قيد الحياة، إلى أن تمّ الإعلان عن وفاتهما في آب/أغسطس 2018.
ووفق شهادات الوفاة المرسلة إلى العائلة، فقد توفي باتريك في 21 كانون الثاني/يناير 2014، ومازن في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.
وفي اللائحة الاتهامية، اعتبر قضاة التحقيق أنّه “من الثابت بما فيه الكفاية” أنّ الرجلين “عانيا، مثل آلاف المعتقلين لدى المخابرات الجوية، من تعذيب قاسٍ لدرجة أنّهما ماتا بسببه”.
وفي السياق ذاته، قدّم عشرات الشهود، من بينهم العديد من الفارّين من جيش النظام السوري ومحتجزين سابقين في المزّة، تفاصيل للمحقّقين الفرنسيين واللجنة الدولية للعدالة والمساءلة، وهي منظمة غير حكومية، بشأن التعذيب في هذا السجن، وتحدثوا عن الضرب بقضبان من الحديد على أخمص القدمين وصدمات كهربائية وعنف جنسي.
من ناحية أخرى، طُردت زوجة مازن الدباغ وابنته من منزلهما في دمشق الذي استولى عليه عبد السلام محمود.
ونصّ الاتهام على أنّ هذه الوقائع “من المرجّح أن تشكّل جرائم حرب وابتزاز وتمويه ابتزاز”، كما أنّ “الحجز على ممتلكات سوريين اختفوا أو وُضعوا في معتقلات أو مهجّرين قسراً أو لاجئين، كان ممارسة منتشرة للنظام السوري”.

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.