تتعدد الملفات والتحديات التي تواجه الإدارة السورية الجديدة، ولعل على رأس سلم الأولويات ملف «قوات سوريا الديمقراطية» ومستقبلها في ظل متغيرات مختلفة.
«القدس العربي» تحدثت مع محللين وباحثين مختصين، لفهم الخيارات والسيناريوهات المحتملة، بالنظر إلى أوراق القوة التي تمتلكها «قسد» وفي الوقت نفسه محدودية استخدام هذه الأوراق، سيما في ظل تحولات، أبرزها نوايا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للانسحاب من سوريا.
ملفات شائكة
ويعتبر ملف «قوات سوريا الديمقراطية» بالغ التعقيد، نتيجة تشابك عدة عوامل، تحدث عنها عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور عبد القادر نعناع، وهي «ارتباط الملف بالمصالح والتهديدات الأمنية لمجموعة دول إلى جانب سوريا، ونقصد بها تركيا والولايات المتحدة والعراق وإسرائيل ودول أخرى. وارتباط الملف كذلك، بمكافحة بقايا تنظيم «الدولة» في سوريا، وبطموح انفصالي/استيلائي كردي عابر للحدود في الشرق الأوسط، وبهيمنة ميليشيات «قسد» على المدن العربية وثرواتها الطبيعية في شرق سوريا، وبالتالي منع توحيد التراب السوري واستكمال السيادة السورية.
وبين أن سلاح قسد الموجه «ضد» السوريين، وخصوصا في شمال سوريا، سواء عبر الاعتقالات التعسفية التي تطال السوريين في مناطق سيطرة قسد، أو عبر المفخخات التي تحصد المدنيين بشكل مستمر شمال غرب سوريا، أو عبر مواجهة القوات السورية الساعية لفرض سيادة الدولة.
رفض القبائل
ووفق هذه المعطيات، توقع المتحدث بأن يكون مسار الحل مستعصيا بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية رغم انفتاح الدولة السورية وعرضها على «قسد» انضمامها لتكون جزءاً من وزارة الدفاع.
واعتبر أن ذلك يتعارض مع الطموحات الانفصالية الاستيلائية لها، مشيرا إلى أن «قسد» تقدم مقترحات غير متوافقة مع الواقع السوري، متمثلة في طلب شكل من أشكال الخصوصية الفدرالية أو ما شابهها، بناء على معطيات الهيمنة العسكرية وفق الأمر الواقع.
وقال نعناع: بغض النظر عن صعوبة تبيئة الفيدرالية في المشهد السوري، فإن سكان شرق سوريا في أغلبيتهم قبائل عربية، وتصل نسبتهم في مدن مثل الرقة ودير الزور إلى 100٪ من السكان، وجميعهم رافضون لهيمنة «قسد» العسكرية عليهم، عدا عن باقي المكونات السورية شرق الفرات التي ترفض غالبيتها أيضاً هذه الهيمنة، وخصوصاً أن قسماً مهماً من «قسد» إنما هم مقاتلون أكراد عابرون للحدود من دول إيران، العراق، تركيا. وهذا ما يجعلنا نشابه بين «قسد» وبين تنظيم «الدولة» فكلتا الجماعتين، جماعات مسلحة متطرفة عابرة للحدود، تستخدم تكتيكات إرهابية، في محاولتها الاستيلاء على جزء من أرض الشرق الأوسط لبناء كيان يهدد استقرار كامل الإقليم.
تغيير المشهد
واستندت «قسد» في وجودها وصراعها العسكري، حسب نعناع، طيلة الأعوام الماضية إلى الدعم والتدريب واللوجستيات الأمريكية. ومع تغير المشهد السوري لم تعد هذه المعادلة قابلة للاستمرار نتيجة متغيرات عديدة، أهمها متغير الحكومة السورية الجديدة الساعية إلى توحيد البلاد وفرض السيادة، وهي حكومة تقدم جملة التزامات للمجتمع الدولي وتبدأ مسارات جديدة، وتعلم القوى الغربية أن الاستقرار السياسي في سوريا مرتبط بالاستقرار الأمني (وعلى رأسه ملف شرق الفرات) ورغم أن بعض القوى الغربية تبقى داعمة لـ«قسد» لكنها ترغب أيضاً بطي ملف المواجهة بينها وبين الدولة السورية.
كما تحدث نعناع عن متغير وصول دونالد ترامب إلى السلطة في أمريكا، ورغبته منذ ولايته الأولى، في سحب القوات الأمريكية من سوريا، وبالتالي تراجع دعم «قسد».
أما المتغير الأهم فهو المتغير التركي، تبعا للمصدر، «حيث تستعجل تركيا شن عملية عسكرية بالتعاون مع الحكومة السورية الجديدة للقضاء على تهديد قسد ومنع إنشاء كيان مسلح في شرق سوريا يكون منطلقاً لمهاجمة كامل المنطقة، يضاف إلى ذلك، تعهدات الحكومة السورية والتركية بتولي مهمة مراقبة عناصر داعش وسجونها، والتصدي لأي تهديد محتمل، وهي بالأساس الوظيفة التي أوكلت إلى «قسد» وحظيت بمساعدة أمريكية واسعة، وبالتالي ستفقد ميليشيات «قسد» دورها الوظيفي في المنطقة».
وجزم المتحدث بأن يكون المشهد الأمني السوري في شرق الفرات قيد التغيير، حيث أكد أنه «ملف ملّح على طاولة كافة القوى المعنية بالأمر». وعبّر عن اعتقاده أنه في حال إصرار قادة «قسد» على فرض هيمنتهم على الأرض السورية والاحتفاظ بسلاحهم، فهذا يعني إفشال المفاوضات.
المواجهة وخيارات «قسد»
وفي حال فشلت المفاوضات، فإن ذلك سيدفع تركيا في رأيه «للضغط بشكل أكبر على الحكومة السورية للدخول في مواجهة مسلحة، لا تبدو حظوظ «قسد» فيها جيدة، وخصوصاً مع إعلان ترامب نيته للانسحاب من سوريا، وتفاهمات غير معلن عن تفاصيلها بين تركيا والعراق بخصوص «قسد» و«داعش» وضغط الشارع السوري لاستكمال تحرير البلاد، وتسريبات عن موافقة سورية على إنشاء قواعد تركية في البادية السورية، عدا عن أن «قسد» ستواجه معركة مع قوات هزمت نظام الأسد، وعلى أرض يرفض أهلها الهيمنة الأجنبية عليهم».
وعن الخيارات المطروحة أمام «قسد» رأى أنها «تتمثل في إخراج المقاتلين الأجانب، وتسليم المقاتلين السوريين منهم سلاحهم للدولة، والانضمام لوزارة الدفاع السورية، وأن هناك متغيراً ينتظره الجميع خلال الأيام المقبلة، وهو الكلمة المنتظرة لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من سجنه في تركيا. ونعتقد أن قرارات «قسد» المقبلة ستبنى على هذا الإعلان، وعلى التسويات التركية مع الحزب».
وأضاف: « طالما أن قرارات «قسد» لم تكن ذاتية في الفترة الماضية، بل مرتبطة بالتوجهات الأعلى الصادرة من قنديل، فإن خياراتها في المرحلة المقبلة تستند أيضاً إلى القرار الذي ستتخذه قنديل بعد خطاب أوجلان من سجنه خلال أيام».
ومن أبرز التسريبات حول خطاب أوجلان «أنه سيطالب بإلقاء السلاح والتحول نحو العمل السياسي أو حل الحزب كلياً، مقابل السلام مع الحكومة التركية».
بغض النظر عن صحة التسريبات، فإن قنديل ذاتها، وفق نعناع «أمام امتحان صعب بالالتزام بتوجيهات قائدها الأعلى أو ترك المجال للجماعات المسلحة التابعة لها بالتحرك كلٍّ وفق ظرفه. ويبدو حتى الآن أن «قسد» أمام خيارين: المفاوضات أو المواجهة المسلحة وإن كانت مؤجلة».
ولا يبدو أن خيار المفاوضات مناسب لقيادات «قسد» حتى الآن، حيث أنه لا يُقرُّ لها الهيمنة العسكرية على ثلث الأراضي السورية بسكانها ومواردها، ولا يمنحها حكماً ذاتياً أو فدرالياً شبيهاً بنظرائها في العراق، ولا يقر لها بسلاحها، حيث أن الموافقة على هذه الشروط غير العقلانية سيعني الموافقة على الشروط ذاتها لجماعات إثنية أخرى، وهو ما سيقود بالنتيجة إلى تفتيت البلاد إلى عدة كانتونات إثنية لا سلطة لدمشق عليها. ويبقى الخيار الأكثر عقلانية، وهو الطرح الذي تقدمه السلطة السورية حالياً وتوافق عليه كثير من القوى الكردية المستقلة، وهو خيار المواطنة متعددة الثقافات، أي الاعتراف بالحقوق الثقافية للجماعات الإثنية في سوريا، مقابل المساواة في المواطنة دون محاصصة أو تمييز، وهو خيار عقلاني يحفظ للمواطنين السوريين حقوقهم ويحفظ للدولة السورية سيادتها، تبعا للمتحدث.
لكن على الطرف النقيض، اعتبر سكرتير الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا «البارتي» التابع لـ»قوات سوريا الديمقراطية» نصرالدين إبراهيم في لقاء مع «القدس العربي» أنه «بعد انهيار النظام السوري وسيطرة قوات هيئة تحرير الشام على مقاليد السلطة في دمشق، بات لزاماً التفاوض بين الجانبين كقوتين وسلطتين تتمتع كل منهما بنوع من أنواع الشرعية». وبين أن «قوات سوريا الديمقراطية» «تطالب بأن تكون لها خصوصيتها في الجيش السوري بغض النظر عن المسمى سواء فيلق أو ما شابه». وحول مستقبل «قسد» قال: لا يجب أن يكون مجرد مادة للتفاوض بل هي الممثل العسكري لشعوب شمال وشرق سوريا ولا سيما الشعب الكردي، وهي صمام الأمان لمستقبل المنطقة برمتها لما قامت به من دور محوري لحفظ للسلم الأهلي وتعزيز العيش المشترك. وأضاف: مستقبل قوات سوريا الديمقراطية مرتبط بعدة عوامل داخلية وخارجية، كالتوافق بينها وبين سلطة دمشق على شكل نظام الحكم والدولة والهيكلية التي سيتم الاتفاق عليها بالنسبة للجيش السوري، وماهية مستقبل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، أيضاً مصير «قسد» مرتبط بمستقبل القضية الكردية في سوريا ومدى تمتع الشعب الكردي بحقوق الوطنية والقومية المشروعة في سوريا اللامركزية.
عوامل حاسمة
من العوامل المؤثرة على مصير «قوات سوريا الديمقراطية» حسب رأيه، الدور التركي السلبي «من حيث رفض تركيا لأي احتمالية لتمتع الكرد بحقوقهم في سوريا اللامركزية، أيضاً العلاقات القوية بين قوات سوريا الديمقراطية والسلطات المحلية في السويداء وقاعدة التنف العسكرية الأمريكية، وهذه تعتبر عوامل إيجابية في الدفع في اتجاه حلول توافقية ترضي الطرفين». أما العوامل الحاسمة بالنسبة لدور « قسد» فهي «عضويتها في التحالف الدولي لمحاربة «داعش» إلى جانب حجم الدعم لها من قبل أمريكا وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية التي تتوجس من وجود جيش سوريا بخلفية راديكالية متشددة، فوجود «قسد» بالنسبة لها حجر أساس في بناء جيش وطني بعيداً عن النزعات الدينية والطائفية وغيرها».
طبيعة العلاقة مع التنف
«القدس العربي» تواصلت مع قائد «جيش سوريا الحرة» المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، في قاعدة «التنف» العسكرية في ريف حمص، العقيد سالم تركي العنتري للكشف عن طبيعة العلاقة مع «قوات سوريا الديمقراطية».
وقال لـ «القدس العربي»: لا يوجد أي نوع من العلاقة مع قوات «قسد» ونقف على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب السوري. وأكد أن «جيش سوريا الحرة» كجهاز عسكري يتبع لوزارة الدفاع السورية في دمشق.
بينما صرح قائد تجمع «أحرار جبل العرب» أكبر فصائل السويداء المسلحة سليمان عبد الباقي أن الاجتماعات بين ممثلي فصائل السويداء ووزارة الدفاع السورية مستمرة بهدف التوصل إلى صيغة تنظيمية جديدة تضمن دمج الفصائل المسلحة ضمن جيش موحد، مشيرا إلى وجود علاقة قديمة بينه وبين الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، ومواصلة التنسيق بينهما القائم من قبل بدء معركة التحرير، ما يعكس وجود تفاهمات عسكرية وسياسية سبقت العمليات العسكرية الأخيرة في المنطقة.
وفيما يتعلق بواقع الفصائل على الأرض، أكد عبد الباقي أن «بعض الفصائل التي كانت تحمل أجندات غير وطنية لم تكن تمثل القوى الثورية الحقيقية، بل كانت في الأساس تتبع للنظام السوري» لافتا إلى أن هذه المجموعات «كانت تحاول تشويه صورة القوى المحلية وإضعاف التحركات التي تهدف إلى حماية السويداء وتحقيق الاستقرار فيها».
مع وصول إدارة العمليات العسكرية إلى دمشق، تزامنت المفاوضات بين «هيئة تحرير الشام» و«قسد» مع مواقف دولية تدعم السلطات الجديدة في دمشق، وفي الوقت ذاته لا تمنحها الضوء الأخضر لحل المسألة الكردية في سوريا عسكريا، كما لا تمنح في الوقت ذاته الإدارة الذاتية وذراعها العسكرية «قسد» البقاء على شكلها الحالي. تبع ذلك إيقاف الولايات المتحدة الأمريكية دعم المساعدات الخارجية لمدة 90 يوما عن شمال وشمال غرب سوريا، وتلويح أمريكا بعد وصول الرئيس ترامب إلى سدة الرئاسة بانسحاب قواتها من سوريا، وبناء على ذلك يبدو أن المنطقة مقبلة على عدة سيناريوهات. ووفق المحلل السوري سامر الأحمد، فإنه في حال الانسحاب الأمريكي يتوقع حل «قسد» ودمج قيادات منها في الجيش السوري، ودمج مجموعات وكتل من «قسد» في وحدات الجيش السوري وتوزيعهم على الوحدات الأكبر، والإبقاء على «الأسايش» قوات الشرطة التابعة لقسد في بعض المدن للحماية وحفظ الأمن، والإبقاء على الإدارات البلدية في المناطق ذات الغالبية الكردية، ودخول الدولة السورية وأجهزتها إلى المناطق ذات الغالبية العربية والتي تسيطر عليها قسد كـ «دير الزور والرقة ومدينة الحسكة وتل حميس وتل براك والشدادة والهول».
غير ذلك قد تذهب المنطقة إلى فوضى أمنية، بسبب عدم استقرار قسد وتهديدها المستمر من قبل تركيا، كما أن إطالة المفاوضات تولد مخاطر لدى المدنيين تتمثل بإمكانية تنشيط خلايا «داعش» واحتقان الكثير من أبناء العشائر العربية من قسد بسبب الاعتقالات والتجنيد الإلزامي، وعليه قد نشهد ثورات عربية على غرار ما حصل في دير الزور «ثورة العشائر» في أكثر من منطقة، وفق الأحمد.
الأكاديمي والباحث الكردي الدكتور فريد سعدون رأى من جانبه أنه من المبكر الحديث عن مصير «قسد» نظرا لعدم إمكانية الاستغناء عنها، لما تمر به سوريا من ظروف أمنية وعسكرية، ولعدم وجود جيش، أو هو في طور التشكيل وحل الجيش السابق، ولعدم نية «قسد» بالتخلي عن ملف «داعش» لأنه لا ثقة لديها حتى الآن بأي طرف آخر لاستلامه، وتعتبر إطلاق سراح عناصر التنظيم كارثة حقيقية ترتد على سوريا والمنطقة بشكل عام، وتعتمد في ذلك على تقديرها الخاص بأن أمريكا تتفهم مخاوف «قسد» من عودة نشاط خلايا التنظيم في المنطقة، والدعم الدولي الذي صرح به كل من سفيري خارجية فرنسا وألمانيا، المتمثل بضرورة ضمان وصيانة حقوق المكون الكردي في الدستور، ودعوة فرنسا لأن تحضر»قسد» مؤتمر باريس المزمع انعقاده، ولذلك فإن المفاوضات قد تستغرق مدة تصل إلى سنتين، إلى حين تشكيل الحكومة السورية الجديدة، أو اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني، وتشارك فيه «قسد» لوضع حلول مستقبلية لسوريا بشكل عام.
في المحصلة، يقول المختص في الشؤون العسكرية النقيب رشيد حوراني لـ «القدس العربي»: يبدو أن الإدارة السورية الجديدة تعمل على المناورة بين إرضاء الجانب التركي، والجانب الأمريكي، وهي مطالبة بأن تفتح خطوط التواصل بينها وبين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وأن تتعهد بضمان حقوق الشعب الكردي في سوريا وتمهد الطريق لمرحلة انتقالية تصل بموجبها سوريا إلى دولة مدنية ديمقراطية.
القدس العربي