.. الحرب السورية من دمشق إلى جنيف فكييف

الدول ليست جمعـــــيات خيـــــرية. اهتمامها يترّكز على المصالح، لا على المشاعر، حتى عندما تبدي مشاعر انسانية، فإن هذه لا تعدو كونها تمارين في العلاقات العامة لخدمة اغراض ومصالح سياسية واقتصادية.

كثير من المشاعر أبدته الدول المعادية لنظام الرئيس بشار الاسد، كما المتحالفة معه لمعالجة امرين: الاول، وضع المدنيين السوريين داخل البلاد وخارجها بعدما بات مأساة انسانية بإبعاد كارثية. فالنازحون داخل سوريا جاوز عددهم الملايين الستة. اللاجئون الى دول الجوار ناهز عددهم الملايين الاربعة. فوق ذلك، نصف الشعب السوري بات بحاجة الى مساعدات غذائية وصحية. الثاني، مخطط الولايات المتحدة وحلفائها لبدء حملة جديدة على سوريا من جنوبها بغية تمكين فصائل المعارضة المسلحة من تعديل ميزان القوى وتعزيز مركزها التفاوضي في مؤتمر جنيف 2.

كانت واشنطن تؤمل بأن تدخل فصائل المعارضة السورية الجولة الاولى من مفاوضات مؤتمر جنيف 2 بوفد موحد وبوضع ميداني متكافئ مع النظام السوري. لكن المعارضة السورية خيبّت املها، فالفصائل الإسلاموية المقاتلة، ولاسيما ‘الدولة الإسلامية في العراق والشام’ (داعش) و’جبهة النصرة’، بالإضافة الى ‘الجيش الحر’ انخرطت في حرب تصفية في ما بينها ما عزز وضع الجيش السوري ميدانياً ومكّنه من السيطرة على مواقع عدة لها في أرياف حلب وحمص ودمشق، ثم ان فصائل المعارضة عجزت عن التوصل الى صيغة مقبولة لوفد موحد، فكان ان شكّل ‘الإئتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية’ وحده الوفد المفاوض، رغم افتقاره الى مساندة وازنة من اي تنظيم مسلح في مسارح القتال.

بعد اخفاق الطرفين في الجولة الاولى من المفاوضات في تحقيق نجاحٍ ملموس، قررت واشنطن اعادة النظر بسياستها تجاه سوريا بالتزامن مع اعادة النظر بسياستها تجاه اوكرانيا وصولاً الى إعادة النظر بسياستها تجاه روسيا اقليمياً ودولياً. فإدارة اوباما كانت ليّنت موقفها من روسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين لاعتقادها ان التحدي الاساس الذي يواجهها لم يعد في اوروبا والشرق الاوسط، بل اضحى في آسيا بفضل تعاظم قدرات الصين في جميع الميادين.

بسبب تصادم المصالح مجدداً في الشرق الاوسط بين امريكا وروسيا، اصبحت المجابهة تجري على مدى قوس يمتد من دمشق الى جنيف ومن ثم الى كييف. ففي اوكرانيا، انتقلت امريكا واوروبا من ابداء النصح للرئيس فيكتور يانوكوفيتش الى ابداء التأييد العلني للمعارضة المعادية لروسيا ودعمها باسلحة جرى نقلها الى ناشطيها في شوارع كييف.

لم تتأخر اوروبا وامريكا في مضاعفة ضغوطهما والتهديد بفرض عقـــوبات، فكان ان اضطر يانكوفيتش الى الموافقة على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، كما على اقامة حكومة وحدة وطنية خــلال عشرة ايام. غير ان موسكو انتقدت الإجراءات الاطلســية ووصفتها بأنها ابتزاز، ودعت الرئيــــس الاوكراني الى قمع المتمردين واستعادة النظام اذا اراد الحصول على القرض المالي البالغ 15 مليار دولار الذي وعده به الرئيس الروسي في إطار خطة إنقاذ تتضمن ايضاً خفض اسعار الغاز.

مجابهة ادارة اوباما لروسيا تزامنت مع ضغوط دبلوماسية في جنيف، حيث كانت تجري المفاوضات بين ايران ومجموعة 5+1. فقد حاولت رئيسة الوفد الامريكي ويندي شيرمان تضمين جدول اعمال الجولة المقبلة للمفاوضات بنداً حول صواريخ ايران البالستية (البعيدة المدى)، لكن ايران، بالتعاون مع روسيا، رفضت المحاولة الامريكية، فكان ان رضخت معظم الوفود ووافقت على حصر المفاوضات في الموضوع النووي وحده.

غير ان محور الجهد الامريكي الرئيس تركّز على سوريا، فقد جرى تسريب اخبار من عواصم امريكا واوروبا، كما من ‘اسرائيل’ بأن واشنطن اعادت النظر بسياستها تجاه سوريا، بقصد تمكين المعارضة المسلحة من شن هجوم واسع من جهة الحدود الاردنية ـ السورية باتجاه دمشق، لحمل النظام على التراجع والرضوخ لمطلب امريكا اقامة حكومة انتقالية من دون مشاركة الرئيس الاسد. لهذه الغاية قامت واشنطن، بحسب صحف امريكية وبريطانية واسرائيلية، باتخاذ التدابير الآتية:

– تدريب ما لا يقل من خمسة الاف مقاتل للمعارضة في الاردن لدفعهم الى سوريا من جهة درعا غرباً والبادية شرقاً.

– عقد اجتماع لمسؤولي اجهزة الاستخبارات في فرنسا وتركيا وبريطانيا والسعودية والاردن في واشنطن برعاية مسؤولة الامن القومي الامريكي سوزان رايس، حيث جرت مداولة بشأن الحملة الجديدة ضد نظام الاسد من جنوب سوريا.

– احتضان عملية توحيد 49 فصيلاً للمعارضة في جنوب سوريا وضمها الى ‘جيش’ العميد عبدالاله بشير النعيمي، الذي نصّب نفسه رئيساً لأركان ‘الجيش الحر’ بعد اطاحته قائده السابق اللواء سليم ادريس.

ـ تزويد مجموعات المعارضة المسلحة اسلحةً نوعية كالصواريخ المضادة للدروع وقذائف المدفعيـة الثقيلة، واجازة تسليحها بصواريخ محمولة على الكتف مضادة للطائرات.

ـ النظر في امكانية فرض منطقة حظر جوي في جنوب سوريا، بما في ذلك منطقتا حوران والقنيطرة المحاذيتان للجولان المحتل.

ـ استمرار ‘اسرائيل’ في استقبال جرحى المعارضة السورية ومعالجتهم في مشافيها (نتنياهو قام بزيارة مشفى ميداني وقال إن نحو 700 جريح من المعارضة جرت معالجتهم في مستشفيي صفد ونهاريا(.

– ضمان استمرار ‘اسرائيل’ في تقديم معلومات رادارية واستخبارية لقوات المعارضة حول تحركات القوات السورية وسلاحها الجوي.

– هذه الترتيبات التي سرّبتها مصادر سياسية وعسكرية اوروبية وامريكية واسرائيلية الى صحيفتيّ ‘التايمز′ البريطانية و’وول ستريت جورنال’ الامريكية، قابلتها روسيا وايران بمواقف وتدابير سياسية وعسكرية ذات دلالة :

– وزير الخارحية سيرغي لافروف حذّر من ان موقف واشنطن مما يحدث في سوريا وربْطِها التغلب على الإرهاب برحيل الرئيس السوري يشجع المتطرفين والتنظيمات الإرهابية في هذا البلد.

– اقرّ لافروف خلال زيارته بغداد بحاجة العراق لأسلحة من اجل مكافحة الإرهاب، مؤكداً في بيان مشترك مع نظيره العراقي هوشيار زيبـاري ‘أن امدادات الاسلحـة الى العـراق لا تتأخر، مستجيباً لطلب المسؤولين العراقيين ‘تسريع الإمدادات بأقرب وقت ممكن’.

– قال خبير استراتيجي مقرّب من حزب الله في ندوة بحثية في بيروت، إن روسيا تعتبر ان مآل فرض منطقة حظر جوي في سوريا هو تدخل عسكري جوي امريكي لن تتأخر ايران وسوريا، بالتفاهم مع روسيا، عن الرد عليه بضرب قواعد امريكا العسكرية في المنطقة. ذلك ان ايران وروسيا لن تقبلا البتة خسارة سوريا او إخراجها من دائرة التحالف معهما، نظراً لموقعها الإستراتيجي الحساس. وعليه، لا يستبعد الخبير المذكور ان تسارع روسيا الى تزويد سوريا بصواريخ من طراز 300 S المضادة للطائرات اذا ما تأكدت انها ستتعرض الى تدخل امريكي جوي وشيك.

الى اين؟

من هنا بات واضحاً ان الحرب الباردة اخذت بالاشتداد بين القطبين الامريكي والروسي، وانها قد تتطور تدريجياً الى فصول ساخنة بسبب محاورها الاشد تأزماً، وهي سوريا وما ستنتهي اليه لعبة الامم الدائـرة على ارضها، وايران المصممة على الاحتفاظ بقدراتها النووية، والعراق المعرّضة وحدته السياسية والجغرافية الى تقسيم ماثل، ومصر المتطلعة الى التخلّص من عثراتها واسترداد دورها الوطني والعربي والاقليمي، واخيراً وليس آخراً: ‘اسرائيل’ الساعية، عبر الحرب في سوريا وعليها وعبر مفاوضات ايران مع مجموعة 5+1 الى إضعـاف الدولتين وتكريس سيطرتها، بالاستيطان والقوة، على فلسطين من النهر الى البحر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.