تتسع رقعة عمالة الأطفال في شوارع العاصمة السورية دمشق ومحيطها، سواء عبر نبش القمامة أو بيع الخبز وتنظيف زجاج السيارات عند الإشارات، في ظل تدهور مستمر في الأوضاع الاقتصادية وتراجع فرص العمل، الأمر الذي دفع شرائح واسعة من السكان، وفي مقدمتهم الأطفال والنساء، إلى الانخراط في هذا النشاط بحثا عن مورد يسد رمقهم ويعينهم على مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة.
يتحدث سكان محليون لـ «القدس العربي» عن تحوّل عدد كبير من الأطفال إلى «نبّاشين» يعملون ضمن مجموعات منظمة يقودها بالغون يتقاسمون المهام بأسلوب منظم. ويتولى هؤلاء فرز محتويات حاويات القمامة، بحثا عن مواد قابلة للبيع مثل الورق والكرتون والعبوات البلاستيكية والمعادن، ليتم نقلها لاحقا إلى أماكن تجميع، غالبا ما تكون منازل مهجورة أو مواقع متطرفة شبه دائمة، قبل أن تُباع بالكيلوغرام لأشخاص يشرفون على إدارة هذا النوع من العمل.
لقمة العيش
أحد الأطفال العاملين في هذا المجال رفض في بادئ الأمر الحديث أو الإفصاح عن هويته، إلا أنه أشار لاحقا لـ «القدس العربي» إلى أن دخوله هذا العمل جاء بعد اضطراره لترك المدرسة، نتيجة غياب المعيل عن أسرته. وتحدث عن الجهد الشاق الذي يبذله يوميا، حيث يُجبر على حمل أكياس القمامة الثقيلة لمسافات طويلة، وفرز محتوياتها بدقة، مقابل مبالغ زهيدة لا تكاد تكفي لسد الاحتياجات الأساسية لعائلته. ولم تعد هذه الظاهرة تقتصر على الأطفال فقط، بل باتت تشمل عددا كبيرا من النساء أيضا، اللواتي يبدأن عملهن مع ساعات الفجر الأولى، بوجوه مغطاة وتكتم على هويتهن. إحداهن رفضت الإدلاء بأي تفاصيل، واكتفت بالقول: «حتى ع الحاويات لاحقينا.. شو بدكن فينا؟ عم نضر حالنا فقط.. بدنا ندبر حق أكل لأولادنا»، في تعبير موجع عن حجم المعاناة وانعدام الخيارات أمام أم لأطفال، وربة منزل. وعبّرت أم علي، وهي من سكان حي جديدة الفضل في ريف دمشق الغربي، عن انزعاجها من الأثر اليومي المتفاقم لهذه الظاهرة على حياتهم داخل الحي. وأوضحت أن بعض النباشين حوّلوا شققا سكنية غير مأهولة إلى مستودعات للقمامة، مما أدى إلى انتشار روائح كريهة تنبعث من أماكن بعيدة.
وأضافت أن الحشرات والذباب غزت المكان وأصبحت جزءا من المشهد اليومي، في ظل عجز البلديات عن تقديم استجابة فعالة، وعجزها عن رش المبيدات بشكل منتظم، الأمر الذي ساهم في تدهور الوضع البيئي وزيادة المخاطر الصحية التي تهدد سكان الأحياء.
تنظيم غير رسمي وتوثّق جولة ميدانية أجرتها «القدس العربي» في عدد من أحياء دمشق وضواحيها مشاهد يومية لأطفال يتنقّلون بين الحاويات، سيما أمام المطاعم والمقاهي، باحثين عن عبوات بلاستيكية ومعدنية لبيعها مقابل مبالغ زهيدة.
ويستخدم الأطفال عربات يدوية لنقل ما يجمعونه إلى نقاط تجمع غير رسمية، حيث تصل لاحقا سيارات يُعتقد أنها تابعة لجهات منظّمة تتولى استلام المواد. ويعاد توزيع الأطفال لاحقا في مناطق أخرى لمواصلة العمل ذاته. مازن زحلوط من سكان مدينة دمشق، يقول لـ «القدس العربي» تتعدد الروايات حول الجهات المستفيدة من هذا النشاط. فبينما يكثر الحديث عن وجود شبكات تقوم باستغلال الأطفال وتشغيلهم بشكل منظم، يقول البعض إن الأهالي من الطبقة الهشة يدفعون أولادهم إلى هذا العمل في نبش القمامة كوسيلة للبقاء.
مشهد يومي
وخلال الجولة الميدانية يبرز انتشار لافت لأطفال يتمركزون بشكل دائم وحتى ساعات متأخرة من الليل، عند إشارات المرور في عدد من الشوارع الرئيسية وتقاطعات العاصمة. ويستغل هؤلاء الأطفال توقف حركة السيارات أثناء الإشارة الحمراء ليندفعوا بسرعة قادمين من جانب رجال شرطة المرور، نحو النوافذ حاملين أدوات بسيطة لتنظيف الزجاج الأمامي دون استئذان من السائقين. وبعد إنهاء العملية خلال ثوان، يطلبون مقابلها مبلغا زهيدا لا يتجاوز ما يعادل سنتا أمريكيا واحدا.
كما رصدت الجولة حالات لأطفال آخرين يبيعون أرغفة الخبز على أطراف الطرقات الرئيسية مستهدفين السيارات العابرة على الطرق السريعة والمحاور الرئيسية داخل العاصمة.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قال في تقرير حديث له، إن تسعة من كل عشرة أشخاص في سوريا يعيشون في فقر، وإن واحدا من كل أربعة عاطل عن العمل، ولكن اقتصاد البلاد يمكن أن يستعيد مستواه قبل الصراع في غضون عقد من الزمان في ظل نمو قوي.
وحسب المصدر، فإن ثلاثة من كل أربعة أشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية ويحتاجون إلى دعم التنمية في المجالات الأساسية للصحة والتعليم وفقر الدخل والبطالة وانعدام الأمن الغذائي والمياه والصرف الصحي والطاقة والإسكان.
خارج الدراسة
كما تضاعف معدل الفقر ثلاث مرات تقريبا من 33 % قبل الصراع إلى 90 % اليوم، وتضاعف الفقر المدقع ستة أضعاف، من 11 % إلى 66 %، مشيرا إلى أنه ما بين 40 و50 % من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عاما لا يذهبون إلى المدرسة.
وقال البرنامج الأممي إن 14 عاما من الصراع في سوريا أفسدت ما يقرب من أربعة عقود من التقدم الاقتصادي والاجتماعي ورأس المال البشري.
وحذر التقرير من أنه وفقا لمعدلات النمو الحالية، لن يستعيد الاقتصاد السوري مستواه قبل الصراع من الناتج المحلي الإجمالي قبل عقود، موضحا أنه لا بد أن يرتفع النمو الاقتصادي السنوي ستة أضعاف لتقصير فترة التعافي إلى عشر سنوات، وسوف تكون هناك حاجة إلى ارتفاع طموح بمقدار عشرة أضعاف على مدى 15 عاما لإعادة الاقتصاد إلى ما كان ينبغي أن يصبح عليه لولا الصراع.
وأفاد التقرير بأن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد انخفض إلى أقل من نصف قيمته منذ بدء الصراع في عام 2011، وتضاعفت البطالة ثلاث مرات. وأصبح واحد من كل أربعة سوريين عاطلا عن العمل الآن، كما أدى تدهور البنية الأساسية العامة إلى مضاعفة تأثير الصراع بشكل كبير.
القدس العربي