استراتيجية أوباما تجاه سوريا.. خريطة جديدة من الحلفاء

في مقال له الأسبوع الماضي، تساءل “فريدريك هوف”، أحد كبار المسؤولين السابقين عن الملف السوري في إدارة أوباما، إن كان للبيت الأبيض استراتيجية معتمدة في سوريا. طرَح هوف -الذي أضحى منذ خروجه من الإدارة ناقدًا لاذعًا لسياستها في سوريا-سؤاله إثر مشاركته في مؤتمر في لبنان، حيث سمع رأي أحد الصحفيين بأن واشنطن تتبع في سوريا سياسة باردة، تعمد إلى الجلوس جانبًا، فيما يتقاتل الجهاديون السنة مع جماعات إيران. رفض “هوف” هذه النظرية، واقترح أن سياسة الإدارة هي “إلى حد كبير سياسة تجنّب” يدفعها تصميم الرئيس أوباما على عدم التورط في حرب أهلية أخرى في الشرق الأوسط، خصوصًا وأن أوباما لا يعتبر سوريا مصلحة أميركية أساسية.

لا شك أن “هوف” محق في رفضه للفكرة، والتي عزاها تقرير طويل في (النيويورك تايمز) السنة الماضية إلى رئيس موظفي البيت الأبيض “دنيس ماكدونو”، أن استراتيجية أوباما هي استنزاف حزب الله والقاعدة في سوريا. هذه الفكرة -كما التقرير كله- لم تكن سوى مثلاً آخرًا عن الرسائل التي عممها البيت الأبيض، والتي تهدف إلى تصوير قرار أوباما بعدم التدخل في سوريا بعد حادثة السلاح الكيماوي السنة الماضية على أنه يعكس سياسة حازمة واقعية. لكن هذا لا يعني أن سياسة أوباما ليست مبنية على رؤية استراتيجية أوسع للمنطقة. في الواقع، الملفت ليس أن الإدارة تفتقد إلى استراتيجية، فهذا ليس صحيحًا، إنما الملفت هو أنها تتبع استراتيجية واعية مؤيدة لإيران.

تتمحور رؤية البيت الأبيض الاستراتيجية على التقارب مع إيران، وعلى إدماج إيران في منظومة إقليمية جديدة. بناءً على ذلك أنتجت هذه الرؤية تفضيلات استراتيجية وخيارات في السياسة، والتي ظهرت في سوريا والعراق ولبنان. تمشيًا مع هذه الرؤية الأوسع، أتت هذه الخيارات مفيدة لمصالح إيران، ومناوئة للثوار السوريين، ولداعميهم الإقليميين.

لفهم الأطر التي طبقت فيها هذه التفضيلات الاستراتيجية في سوريا علينا أولاً أن نحدد الهدف الذي سعت إدارة أوباما لتحقيقه هناك. في لقاء في واشنطن مؤخرًا، شرح السفير “روبرت فورد” أن “منذ البداية رأينا أن الطريق الوحيد للخروج من هذا الصراع هو أن يكون هناك في النهاية مفاوضات بين المعارضة والنظام”. وتابع فورد أن هذا بالفعل ما حاول ترتيبه في دمشق في صيف ٢٠١١. ما زالت فكرة التسوية مع النظام أساس سياسة أوباما اليوم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الإدارة الأمريكية قد أوضحت أن ما تريده في النهاية قائم على استمرارية النظام، أو ما تسميه الإدارة مجازًا “الحفاظ على مؤسسات الدولة”. تمشيًا مع هذا الهدف المبتغى، أعلن مسؤولون في الإدارة أنهم لا يريدون نصرًا صريحًا للثوار. من نافل القول إن هذه التفضيلات تأتي قطعًا لمصلحة النظام.

خلال السنوات الثلاث الماضية، كانت خيارات إدارة أوباما متفقة مع هذه الأهداف المبتغاة، وهذه الخيارات أعاقت داعمي المعارضة، وليس داعمي النظام، بالتالي ناور البيت الأبيض لسد كل السبل السياسية والعسكرية التي سعت إليها الدول الداعمة للمعارضة، مثل فرنسا، السعودية وتركيا. عندما حاولت هذه الدول أن تتجنب الفيتو الروسي في مجلس الأمن، حوّل أوباما الكرملين إلى شريكه الأساسي في سوريا، كما وضع البيت الأبيض “فيتو” على تسليح الثوار بسلاح نوعي قد يقلب الموازين لمصلحتهم. ولم تعرقل واشنطن الجهود الرامية لإضعاف الأسد وحسب، إنما أيضًا، وبعد أن رفضت ضرب النظام إثر استعماله السلاح الكيماوي السنة الماضية، أجبرت المعارضة على التفاوض مع النظام في اللحظة التي استعاد فيها الأسد بعضًا من المبادرة على الأرض.

بالإضافة، ومع أن أوباما قد أعلن أن تفكيك “الشبكات الإرهابية التي تهدد شعبنا” يشكل مصلحة أميركية أساسية، في سوريا طُبِق هذا فقط على المجموعات السنية. فالولايات المتحدة أبعد ما يمكن عن توريط إيران في حرب مع المجموعات الجهادية السنة، فهي قد سعت لإخماد هذه المجموعات، وقد طالب البيت الأبيض الدول الإقليمية بإقفال كل مصادر الدعم التي يمكن أن تنتهي في أيدي تلك المجموعات. وعلى عكس ذلك، لم يطلب أوباما الأمر نفسه من إيران وحلفائها، مثل حكومة نوري المالكي في بغداد، رغم أن الميليشيات العراقية الشيعية المدعومة من طهران، -والتي على أيدي بعضها دماء أميركيين- عنصر أساسي في بقاء الأسد. أضف إلى ذلك أن واشنطن قد دخلت في شراكة موضوعية مع حزب الله في لبنان ضد جماعات سلفية ضربت مناطق الحزب ومصالح إيران في بيروت. وهكذا، فإن البيت الأبيض لم يساعد الحزب في احتواء التهديد لأمنه وحسب، بل وأيضًا على ضبط الحدود مع كانتون الأسد في غرب سوريا. بالتالي، فهو قد ساعد إيران في حماية مصالحها الاستراتيجية بالحفاظ على التواصل المناطقي بين ولايتيها على المتوسط.

قد يقول البعض: إن قرارات أوباما غير المفهومة في سوريا لها تفسير أبسط، ألا وهو عزمه على إبقاء الولايات المتحدة خارج الشرق الأوسط. إنما تصميم أوباما على استخلاص أميركا من المنطقة لا يتعارض مع موقفه من إيران. لا بل إن عزم أوباما على تقليص البصمة الأميركية مرتبط مباشرة باندفاعه لإعادة هيكلة المنظومة والتحالفات الحالية في المنطقة. بالنسبة لأوباما، إقامة توازن جديد مع إيران أساسي لخفض منسوب الوجود الأميركي في الشرق الأوسط.

المراقبون العرب الذين تحدثوا مع “هوف” ربما قد أخطأوا في فهم استراتيجية أوباما، لكنهم لم يخطئوا في خلاصتهم أن الرئيس الأميركي لديه استراتيجية. ما يبدو صعبًا عليهم، وعلى حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة، استيعابه هو أن البيت الأبيض يعتمد استراتيجية مواتية للمصالح الإيرانية، ومناوئة لمصالح حلفاء أميركا القدامى.

المجلة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.