كرست الزيارة الأولى للرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، بعد مرور نحو عشرة أشهر على الانقلاب الكبير الذي غير كثيراً معالم السياسة في سوريا كما عرفها العالم طويلاً، وقوض تحالفاتها السابقة، واقعاً جديداً في العلاقات الروسية-السورية التي مرت على مدى عقود بكثير من التغيرات، وشهدت مراحل شد وجذب، فوصلت إلى مستويات متقدمة من التحالف حيناً، وتراجعت إلى درجات لافتة من الفتور في أحيان أخرى.
ولا شك في أن مجريات الزيارة ونتائجها التي ستتكشف تدريجياً سوف تعيد رسم ملامح هذه العلاقة، وتحدد مسار تطورها؛ لكن الثابت أن أولويات الطرفين تواجه تبدلات كبرى، مع تموضع سوريا الجديدة، وتغير آليات اتخاذ القرار فيها، برغم كل الإشارات من الجانبين إلى أهمية المحافظة على إرث واسع من علاقات التعاون الوثيق.
كانت عبارة «العلاقات التاريخية» بين البلدين، التي تعود في انطلاقتها الأولى إلى العام 1944، الجملة المفصلية التي ركز عليها الرئيس فلاديمير بوتين وهو يضع مقدمات الحوار مع ضيفه الاستثنائي في الكرملين.
والانطلاق من «تاريخية» العلاقات الروسية-السورية يرتبط ليس بالحرص على المصالح الكبرى التي تجمع الطرفين فحسب، بل وأكثر بالحرص الروسي على تقليص حجم الخسارة التي قد تكون موسكو منيت بها بعد التقلبات التي شهدتها سوريا.
مصالح روسيا قبل 2011
المصالح الروسية في سوريا ذات طبيعة سياسية استراتيجية وعسكرية واقتصادية في جوهرها. ورغم أهمية المصالح الروسية التجارية المباشرة مع سوريا، فإن قيمة هذه المصالح الفعلية لم تشكل في أي وقت من الأوقات أهمية استثنائية لتكبد تكلفة الدفاع عنها كما في المجالين العسكري والأمني.
* قاعدة طرطوس
على مدى عقود ظلت الأولوية الأهم لروسيا هي الاحتفاظ بقاعدتها العسكرية في ميناء طرطوس، فهي آخر موقع بحري لأسطول روسيا بمنطقة البحر الأبيض المتوسط.
وتُعتبر القاعدة مرفقاً روسياً استراتيجياً طويل الأمد. فبموجب اتفاقية بين البلدين عام 1972 يستضيف ميناء طرطوس قاعدة روسية للإمداد والصيانة من الفترة السوفياتية تم تشييدها أثناء فترة الحرب الباردة لدعم الأسطول السوفياتي بالبحر الأبيض المتوسط.
وسعت روسيا على مدى سنوات إلى توسيع وتطوير هذه القاعدة حتى تزيد من حضورها في البحر المتوسط، في الوقت الذي خططت فيه واشنطن لنشر درع صاروخية في بولندا. وقد نجحت في بدء ترتيب وجود أوسع في طرطوس في وقت مبكر للغاية، وقبل اندلاع الحدث السوري الكبير بسنوات. وخلال زيارة للرئيس السوري السابق بشار الأسد عام 2008 إلى موسكو وافق على تحويل ميناء طرطوس، أو جزء منه على الأقل، إلى قاعدة ثابتة للسفن النووية الروسية في الشرق الأوسط.
ومنذ 2009 أطلقت روسيا أعمالاً سارت ببطء لتحديث القاعدة، وتوسيع الميناء حتى يستطيع استقبال سفن عسكرية أكبر حجماً.
* مبيعات السلاح وشطب الديون
في تلك الفترة أيضاً، عمدت موسكو إلى شطب أكثر من عشرة مليارات دولار من ديونها على دمشق التي كانت تبلغ 13.4 مليار دولار في العهد السوفياتي.
ونشطت موسكو منذ تاريخ شطب نحو ثلاثة أرباع دينها على دمشق واردات الأسلحة إلى سوريا لتغدو دمشق أحد أكبر مستوردي السلاح الروسي في المنطقة.
وقد شمل ذلك أسلحة حديثة بينها نظم الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، والتي من شأنها تحسين قدراتها القتالية.
وفي عام 2008 أبرمت سوريا عقوداً لشراء طائرات «ميغ 29» المقاتلة، ونظم «بانتسير» و«إسكندر» الدفاعية، وطائرات «ياك130» متعددة الأغراض، وغواصتين من طراز «آمور1650».
وقالت موسكو في حينها إن مبيعات الأسلحة لسوريا تهدف إلى تعزيز الاستقرار، والحفاظ على الأمن في المناطق القريبة من الحدود الروسية.
وعموماً بلغت قيمة عقود سوريا مع روسيا عام 2011 أربعة مليارات دولار. واحتلت سوريا بذلك المرتبة السابعة في ترتيب الدول التي تشتري أسلحة من روسيا.
* استثمارات في الطاقة والطيران والاتصالات
بلغت استثمارات روسيا في سوريا عام 2009 نحو عشرين مليار دولار. وأهم المجالات الاقتصادية المدنية التي تخدم المصالح الروسية في سوريا مجال التنقيب عن النفط والغاز، وإنتاجهما، وكان الحضور الأبرز لشركتي «تاتنفت» و«سويوزفتغاز» اللتين ما زالتا حتى الآن تملكان مشروعات مجمدة لاستخراج النفط في سوريا.
كذلك حصلت مجموعة «ذا نورث ويسترن غروب» على مناقصة عام 2008 لتشييد مصنع لمعالجة البترول بالقرب من دير الزور. وخططت شركة «جيوريسرس» المتفرعة من شركة «غازبروم» الروسية العملاقة للمنافسة في مناقصات للتنقيب عن النفط.
لكن هذه المشروعات تلقت دفعة قوية للغاية بعد التدخل الروسي المباشر في سوريا في 2015، وحظيت بحصص مهمة في عدد من المناطق السورية.
انخرطت الشركات الروسية في وقت مبكر في تنفيذ مشروعات أخرى في مجال الطاقة، بما في ذلك الفوز بإدارة وتشغيل محطات للطاقة الكهربائية، وأعلنت شركة «روساتوم» الروسية في 2010 التحضير لبناء أول مفاعل لإنتاج الطاقة النووية، والخدمة المستمرة من شركة «تخنوبرومكسبورت» الروسية لمرافق إنتاج الطاقة التي أقامتها في سوريا.
وشاركت شركات روسية أخرى مثل «سوفنترفود» و«رسغيدرو» أيضاً في مشروعات للري بسوريا.
كما لعبت شركات التصنيع الروسية أيضاً دوراً في الاقتصاد السوري، فشركة «أورال ماش» أبرمت عقداً عام 2010 لتزويد شركة سورية بمعدات للتنقيب عن النفط. وفي سبتمبر (أيلول) 2011 وقعت شركة «توبوليف آند أفياستار إس بي» مذكرة تفاهم لتزويد الخطوط الجوية السورية بثلاث طائرات ركاب طراز «تي يو204 إس إم»، ومركز لخدمات هذه الطائرات.
وأعلنت «تراكتورني زافودي» خططاً لاستثمارات مشتركة مع شركة سورية لبناء وحدة معدات زراعية، وقامت مجموعة «سينارا غروب» الروسية ببناء مجمع فنادق باللاذقية، كما وقعت شركة «سيترونيكس» عقداً عام 2008 لتشييد شبكة لا سلكية لسوريا.
كان هذا هو واقع الحضور الروسي في سوريا عشية اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد.
المصالح أهم من التحالف
رغم كل ذلك، لم تتسرع موسكو للانخراط القوي في الأزمة السورية بشكل مباشر في سنواتها الأولى؛ بل ولم تكن موسكو تنظر إلى الأسد الابن بصفته حليفاً مهماً لها. وقد قال بوتين عنه يوماً إنه زار موسكو للمرة الأولى بعد مرور خمس سنوات على توليه الحكم، لأنه كان قبلها يراهن على العلاقات مع الغرب.
ومثلما أيقنت موسكو أن تحول الأسد شرقاً في تلك المرحلة كان بسبب دوافع محلية وإقليمية، وضغوط غربية مورست عليه، فإن تدخلها المباشر في الشأن السوري جاء لبروز نفس الأسباب عندها.
وضع الكرملين هدفين استراتيجيين رئيسين عند تنشيط التدخل الروسي في سوريا: تحدي الهيمنة الأميركية على الساحة العالمية، ومساعدة نظام بشار الأسد في محاربة المتطرفين الذين يُعتبرون أعداء روسيا اللدودين، لا سيما بالنظر إلى التجربة المريرة معهم في الشيشان، وشمال القوقاز.
ورغم أن روسيا نأت بنفسها في البداية عن العلاقة مع الأسد، لدرجة أن بوتين تحدث معه هاتفياً للمرة الأولى بعد اندلاع الأزمة في 2013، فإن هدف بقاء الأسد في السلطة خدم عدداً من المصالح الروسية.
من وجهة نظر الكرملين، أثبتت سوريا أنها اختبار حاسم لجهود روسيا لمنع استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية. وكان من شأن التدخل الأميركي العسكري أن يقوض الاتجاه نحو تقليص النشاط العسكري الأميركي في الخارج الذي بدأه الرئيس باراك أوباما -وهو اتجاه عدته موسكو إيجابياً. علاوة على ذلك، سعت روسيا إلى منع تغيير النظام في سوريا بمساعدة أو تشجيع خارجيين، الأمر الذي سيكون محفوفاً بعواقب وخيمة على دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الواقعة على أطراف روسيا، والمناطق ذات الأغلبية المسلمة في الاتحاد الروسي نفسه.
شكلت هذه الأسباب مع العناصر الاستراتيجية المتعلقة بالتطلعات الجيوسياسية لروسيا عبر قاعدة طرطوس العناصر الأهم لتحول السياسة الروسية نحو دعم مطلق للأسد.
ومع تصاعد الانتفاضة ضد الأسد إلى حرب أهلية، أصبح الشاغل الرئيس لروسيا هو منع التدخل الغربي أو العربي المحتمل في سوريا لتمكين حكومة موالية للغرب مكان نظام الأسد.
الدرس الليبي
صُدمت موسكو بالأحداث في ليبيا عام ٢٠١١، عندما أتاح قرارها عدم استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بفرض منطقة حظر جوي فوق البلاد فرصةً للتدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي وتغيير النظام. اعتبرت روسيا الحادث الليبي سابقةً لا ينبغي تكرارها في سوريا، ولذلك رفضت موسكو أي مقترحات في مجلس الأمن لإدانة نظام الأسد.
وبفضل معرفتها الدقيقة بالوضع في سوريا، خلصت القيادة الروسية بسرعة إلى أنه في غياب التدخل العسكري الأجنبي، فإن حكومة الأسد لديها كل فرصة للبقاء، خصوصاً مع تشرذم المعارضة التي فتحت موسكو معها قنوات اتصال لضبط تحركاتها، واستجلاء نقاط قوتها وضعفها. وبنت سياساتها لاحقاً على هذا الأساس.
أما التدخل العسكري المباشر في سبتمبر 2015 فقد كان مدفوعاً أكثر ليس فقط بمخاوف من انهيار محتمل للنظام، بل وبتطورات الوضع داخل روسيا نفسها بعد وصول خصوم الكرملين إلى السلطة في 2014، والمخاوف من خسائر استراتيجية فادحة لروسيا، ما دفعها لإعلان ضم القرم، وفرض سيطرتها العسكرية في شبه الجزيرة، وما تبع ذلك من ضغوط وعقوبات غربية واسعة النطاق.
ورغم المخاوف من انزلاق روسيا في سوريا إلى أفغانستان ثانية، فإن موسكو انطلقت من ضعف الأطراف الأخرى، أو عدم رغبتها في التورط بشكل واسع في سوريا.
وانطلقت موسكو من أن السياسة الأميركية تجاه سوريا تفتقر إلى أهداف استراتيجية، وأهداف واضحة، وتقييمات واقعية. ومن وجهة النظر الروسية، عكست سياسة واشنطن تجاه سوريا استنزاف القوات الأميركية على الساحة العالمية، و«إرهاقها» المتزايد.
مصالح روسيا اليوم وغياب البدائل
لا يزال الحفاظ على الوجود العسكري الروسي في سوريا قضية محورية بالنسبة لموسكو في مسار سياستها الخارجية في الشرق الأوسط. وتمثل قاعدة حميميم الجوية، وميناء طرطوس نقطتين رئيستين لبسط النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، والبحر الأبيض المتوسط.
تلعب القاعدتان دوراً لوجستياً حاسماً في العمليات بشمال أفريقيا ومنطقة الساحل. فمن دون التزود بالوقود في «حميميم» ستواجه طائرات النقل صعوبة في إيصال البضائع والأفراد إلى مراكز وجود موسكو الأفريقية في ليبيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو. في الوقت نفسه، تُطرح مسألة مصير تمركز قوة المهام الدائمة التابعة للبحرية الروسية (سرب البحر الأبيض المتوسط)، التي شُكّلت في مارس (آذار) 2013.
في الوقت الحالي، يصعب مناقشة طرق لوجستية بديلة. نقاط العبور البديلة الأكثر ترجيحاً هي طبرق وبنغازي في شرق ليبيا. لكن هناك صعوبات جدية أمام موسكو يفرضها واقع الحال في ليبيا، فضلاً عن أن الأساس القانوني للوجود الروسي في ليبيا أضعف بكثير.
نظرياً، يمكن لطائرات النقل العسكرية الروسية أن تبدأ باستخدام القواعد الإيرانية. ومع ذلك، كانت تجربة هذا التعاون، ومنها استخدام قاعدة همدان الجوية من قبل القاذفات الاستراتيجية الروسية عام ٢٠١6، قصيرة الأجل، ومثيرة للجدل إلى حد كبير.
تبدو الخيارات الأخرى، ومنها مصر والجزائر والسودان، هشة للغاية. فالجزائر متشككة للغاية من توسع الوجود العسكري الروسي في منطقة الساحل الأفريقي. ولن توافق مصر، التي تضع في اعتبارها شراء القاذفات الروسية، على مثل هذا التصعيد مع الغرب. أما السودان، فهو غير قادر على ضمان أمن البنية التحتية العسكرية الروسية.
لذلك فإن الخيار السوري على صعوبته الحالية يشكل الخيار الأفضل بالنسبة إلى موسكو للمحافظة ليس فقط على حضورها في البحر المتوسط، بل ولترتيب خطوط إمداد حيوية ودائمة تضمن مصالحها المتنامية بقوة في أفريقيا.
إعادة ترتيب الاولويات
في المقابل، تبدو روسيا مضطرة لإعادة ترتيب أولوياتها في التعامل مع الشأن السوري، خصوصاً بعدما أظهرت التطورات بوضوح محدودية نهج روسيا في حل قضايا الأمن الإقليمي بالاعتماد على العلاقات مع تركيا وإيران. وفي حالة تركيا، من الواضح أن أي اتفاقيات لحل النزاعات -سواء في سوريا أو ليبيا أو جنوب القوقاز- لن تصمد أمام اختبار الزمن. وقد أظهر تباين أولويات روسيا وتركيا حيال ملف أذربيجان وأرمينيا بوضوح مدى هذا الخطر.
وهذا ليس مفاجئاً: فبالنسبة لتركيا، تُعد هذه النزاعات ذات طابع وجودي أكثر بكثير مما هي عليه بالنسبة لروسيا، وخاصةً النزاع السوري. وبغض النظر عن مدى كثافة تعاونها الاقتصادي مع أنقرة، بما في ذلك ما يتعلق بالالتفاف على العقوبات الغربية، فإن جمهورية تركيا ليست شريكاً استراتيجياً لروسيا في المنطقة.
وفيما يتعلق بإيران، تُبرز الحالة السورية حدود التعاون مع «محور المقاومة» الذي دخل في صراع مباشر مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ورغم أن هذا الصراع لا يخدم المصالح الروسية بأي شكل من الأشكال، فإنه لعب دوراً مباشراً في انهيار نظام الأسد، ما قوض التوازن الهش الذي عملت موسكو لسنوات على المحافظة عليه. كذلك اختفاء الرابط الرئيس بين موسكو وطهران في المنطقة في إعادة تقييم علاقات روسيا مع الجهات الفاعلة الرئيسة في الشرق الأوسط.
عملياً أظهرت سوريا نقاط ضعف النموذج الروسي في بناء علاقات مع الحلفاء في الشرق الأوسط، لكنها أيضاً كشفت خيارات دولة مثل روسيا في ترتيب مصالحها، وكيفية اختيارها لـ«استثماراتها العسكرية». فإذا كانت موسكو قد تكبدت تكلفة في سوريا منذ تدخلها العسكري في 2015 لتثبيت حكم الأسد، يبقى من المثير معرفة كيف ستحصد ثمار رهانها، وهو ما قد تكشفه الاتفاقات التي ستبرم بين البلدين في القريب المنظور.
الشرق الاوسط
