المصالحات و داعش والنفاق السوريّ

سقط المنطق في سورية، بسهولة وخفّة ومن دون تأثّر، فلا الحق ولا أصحاب القضيّة سينتصرون على الباطل والظلم والطّغاة كما كانت البداهة تفترض. ومناسبة هذا الكلام ودليله هو تلك البدعة الاستبداديّة التي يُجبر النظام الشّعب على القبول بها والمُسَمّاة «المُصالحات». فعندما يَقبل الناس في حمص، ومخيّم اليرموك والمليحة والقابون وغيرها بصفقة تعيدهم إلى حياة الذلّ من جديد، علينا أن نعلم أنّنا فشلنا وأفشلنا ثورتنا.

فإذا ما تركنا جانباً حقيقة وواقع انتصار رغبة الرجل الواحد، والعائلة الواحدة، والمحور الواحد على رغبة الشّعب بالكرامة والحريّة في أبسط معانيها، نجد بأنّنا اختلفنا على معنى وتعريف الثورة. فكان لكلّ منّا ثورته، وكان كلّ منّا يرى في الثّورة الجزء الّذي ينتمي إليه فضلاً عن أنّ كثيرين كان يرون فيها ما هو غير موجود. فتحوّلت مجالاً لانتفاخ الذّوات والانتهازيّة وسوء الفهم والعيش في أحلام اليقظة وبيع الأوهام. هكذا تغاضينا عن إشارات الأسلمة التي ظهرت منذ البدايات وأصرّ بعض المثقّفين والسياسيّين على تجاهلها، إلى أن بدأت الثورة تأكل أبناءها التي قامت عليهم. هكذا بِعنا ثورتنا التي أدهشت العالم بحقّ إلى دول كتركيا وقطر وغيرهما فأساءتا إليها وشوّهتها. وهكذا جعلنا من مشايخ وأفّاقين ناطقين ووجوهاً لثورتنا، وقبلنا أموالاً قذرة، وسمحنا للانتهازيين وعملاء النظام بالتواجد في بيئتها الثقافيّة والإعلاميّة لتُسرّع في قتلها.

والغريب، بعد كلّ هذا، أن نستغرب «داعش» ونتفاجأ بها. والمُخجل والمُعيب أن نلعب لعبة النّظام ونفسّر ظهور داعش وأخواتها بمؤامرة من النّظام، مُتغاضين عن قابليّة الشّارع والمجتمع للانزلاق نحو التطرّف، وعن المدى الذي بلغه التديّن في مجتمعاتنا، على رغم مساهمة النظام الفاعلة والمؤثّرة في تضخيمه. هكذا انساق كثيرون وراء تبرير الإشارات المبكّرة عليه بدل نقدها واتّخاذ موقف حاسم منها، وسارعوا لانتقاد أميركا عندما وضعت جبهة النصرة وغيرها على قائمة الإرهاب، كدلالة على ممارستنا النّفاق على ذواتنا وعدم جاهزيّتنا واستعدادنا لتحمّل مسار طويل ومُعقّد تفرضه ثورة مُستحقّة كثورة السوريين. على أنّ براءة بعضهم لا تُبرّر وقوعهم في هذا النفاق، الذي بلغ مستوى جعلهم يتململون في كثير من المناسبات من تكرار الدعوة إلى صياغة خطاب يطمئن الأقليّات، خصوصاً العلويّين، وهو ما لم يحدث بالشكل والمستوى المطلوبين حتى اليوم.

وواقعٌ كهذا: العيش في النّفاق، ورؤية داعش تبتلع المنطقة والإقبال على عار المصالحات، يفرض محاسبة الذّات. فما الذي قدّمته دمشق مثلاً للثورة؟ دمشق المدينة ونُخبها الاقتصاديّة والدينيّة. ذاك أنّ قسماً كبيراً من الدمشقيّين كانوا سلبيّين في تعاطيهم مع الثّورة، فعدا عن بعضهم الذي بقي حتى اليوم يؤيّد نظام الاستعباد حفاظاً على مصالحه الخاصّة، كانت البقية تتفرّج على الثورة متأمّلةاً بأن يقوم مهمّشو الأطراف والضواحي والأرياف بالعمل الثوري نيابة عنهم. فيما غاب إسلام دمشق المعتدل الذي كشفت الثورة مدى ضعفه وتشرذمه وتحكّم النظام بالقسم الأكبر منه، كنتيجة طبيعيّة للصفقة التاريخيّة التي عقدتها دمشق بتجّارها ومشايخها مع النظام في أوّل عهده لتضمن لنفسها مصالحها على حساب مستقبل البلاد وكرامة الناس وحريّتها، التي تتباعد المسافة بينهما بمرور الأيّام ومع الإقدام على صفقات المصالحات، ليَتمزّق السّوري البسيط، في مهجره أو مخيّمه، في حيرة قاتلة بين أن يبرّر هزيمة سوريّي الثورة البسطاء وتَعَبهم وأن يُعاندَ لعنة هذا المشرق. فالسّوري، أينما كان وكيفما كان أصبح كما بلده مقتولاً مقتولاً.

الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.