سورية والعراق وأخطار التمزّق

لا يحتاج المرء إلى عناء كبير في التحليل ولا إلى بعد نظر ليدرك أن ما يواجهه العراق وسورية في الظرف الحاضر هو أخطر عملية تمزيق داخلي منذ قيام هذين البلدين ضمن حدودهما الحالية. صار السؤال عن الطريقة الأفضل لممارسة الحكم في دمشق وبغداد سؤالاً هامشياً. السؤال الأهم اليوم هو اذا كانت ما تزال هناك قدرة أو إمكان للمحافظة على التعدد الاجتماعي والطائفي الذي تميز به كيان الدولتين السورية والعراقية طوال السنوات السبعين الماضية. هل ما زال ممكناً لهذا «التعايش» او العيش تحت سقف بلد واحد ان يعود الى قيد الحياة بعد ان قضت عليه المذابح المتبادلة ومجازر السنوات الاخيرة التي تم ارتكابها من مختلف الاطراف؟

لا شك في أنه كان هناك فضل للسيدين مارك سايكس وفرنسوا بيكو في رسم الخرائط الحالية لدول المنطقة. ورغم الاعتراضات «العروبية» على عملية الرسم هذه، ورغم دعوات الوحدة التي اتخذت طابعاً شعبوياً وشاعرياً اكثر مما كانت دعوات جدية وواقعية، فان انقضاء السنين والمشاركة في هموم المواطنة وفوائدها تمكّن من ترسيخ حد مقبول من قناعات الانتماء الوطني، في سورية والعراق، كما في سواهما من دول المنطقة.

الوضع القائم اليوم يطرح أسئلة عميقة وحقيقية حول انتهاء صلاحية هذا الانتماء. يمكن الدخول في جدل طويل حول المسؤولية عن الوصول إلى هذا الوضع. هل هو الدور الذي لعبته إيران من خلال نفوذها المستجد بين الشيعة في سورية والعراق، وصولاً إلى لبنان والبحرين وسواهما؟ أم هو سوء الحكم والإدارة في دمشق وبغداد، سابقاً وحالياً، وتغليب مصلحة الطائفة، طائفة الرئيس، على مصالح الطوائف الاخرى وحقوقها ؟ أم أن مواجهة قمع النظام السوري هي السبب، إذ غذّى هذا القمع، إضافة إلى المجازر وأعمال القتل التي رافقته، مشاعر الحقد لدى الأكثرية السنّية، ثم تمددت هذه المشاعر عبر الحدود في مواجهة نظام نوري المالكي، واستثمرها أبو بكر البغدادي في مشروعه المشبوه لإزالة الحدود بين سورية والعراق؟

لكن، وبصرف النظر عن السبب، فإن الشعور السائد اليوم بين كثيرين من المحللين والمراقبين لأوضاع المنطقة هو أن مصير سورية والعراق كبلدين موحدين، ربما يكون قد تجاوز مسألة بقاء نوري المالكي وبشار الأسد في الحكم أو خروجهما منه. وإذا كان مسعود بارزاني قد بادر إلى إشهار الرغبة في الطلاق قبل سواه، فإن الواقع أن كثيرين تساورهم هذه الرغبة عندما تحين أمامهم أول فرصة للانفصال. هناك أزمة عميقة تواجه إمكان إعادة اللحمة بين السنّة والشيعة، وبين العرب والأكراد، وبين المسلمين والمسيحيين، ولا فائدة من إخفاء ذلك بملاحم الوحدة الوطنية وبقصائد التعايش ووحدة المصير.

من هنا، ربما كان الذين يبكون فوق ضريحي سايكس وبيكو، مثلما فعل نبيه بري ووليد جنبلاط، على حق في حسرتهما. كان لا بد للتخريب والتدمير اللذين لحقا بالبنية الوطنية طوال سنوات ما سمي بالاستقلال، أن يوصلا إلى المآسي الحالية. ليس عادياً أن يرتكب مواطن بحق مواطنه الآخر ما يرتكبه بعض أبناء الدول العربية بحق بعضهم الآخر من مذابح وأعمال صلب. وليس عادياً كذلك أن ترافق الحقد الطائفي المتبادل عمليات التهجير التي شملت طوائف ومناطق بكاملها، حتى أن خرائط التقسيم الطائفي أصبحت مرسومة فعلياً على الأرض قبل أن يتم تحديدها رسمياً في الدساتير.

الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.