يثب

اسرائيل (هوية ضد الدولة )

د. كمال اللبواني

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )

المعرفة النظرية شيء مختلف عن المشاهدة حتى في مسألة الإيمان، وما عشته عند زيارتي لإسرائيل يشبه ما يحدث عندما نواجه في الواقع ما كنا قد تخيلناه مسبقا وفكّرنا فيه مليا… فنكتشف مقدار افتراق تصورنا وخيالنا عن الحقيقة الفعلية، و مقدار افتراق المفهوم والصورة (أو الأسطورة ) عن الواقع العادي …

وبالرغم من اعتقادي أنني أعتمد بشكل صارم على المنهج العقلاني في بناء تصوراتي السياسية… فقد شعرت بالفارق الواضح بين التصور والواقع،  ربما بسبب الافتراق الكبير بين طرفي الحدود المحكومة بالعداء الأكثر أصولية وأسطرة وعسكرة في ثقافتنا الراهنة، وربما أيضا لسبب آخر مختلف، هو قيمة وأهمية المعطيات التي تحتويها تلك الأرض المقدسة، وشعوبها الذكية المولعة بالرموز والأساطير… فقد كانت هذه الزيارة الودية غير المخططة، بمثابة عملية هبوط مفاجئ، من عالم العداء المستفحل والخيال المتضخم، إلى عالم الطبيعي العادي والبسيط القابل للتغيير.

وللحقيقة كانت هذه الخطوة هي الأصعب، في كل ما سبق وقمت به من مغامرات، من قبيل انتقالي الإرادي، من الرضوخ والإذعان إلى التمرد والثورة على نظام القمع، محطما حاجز الخوف الأسطوري الذي يحيط نفسه به ( ومقلدا لقصة ذاك الطفل الذي صاح أنت عار أيها الملك )، أو من قبيل الانتقال من الحرية نحو السجن بسابق ادراك وتصميم، مقدما في سلوكي النموذج والمثال لما أنا مقتنع به وأدعوا الية من مواجهة مدنية مع هذا النظام المتغطرس، متجاوزا تابو قوته وخلوده، متغلبا على حاجات النفس وهواجسها ونقاط ضعفها، هاجرا عالم المصالح والحسابات المادية، نحو عالم المعاني والقيم المطلقة المجردة المتعالية … حيث يموت الإنسان ولا يهزم… بطريقة تبدو لغير المؤمنين أنها دخول في اللا عقلانية… التي تتولد منها روح الثورة.

هذه الزيارة كانت حركة معاكسة لما سبق أن قمت به ، اتجاه من المتعالي نزولا نحو البراغماتي ، وهبوط (لا بد منه) من النظري المؤسطر للواقعي الملموس، بعد أن وصل الحال في وطني مرحلة العنف المجنون … ومواجهة من نوع آخر هذه المرة مع المشاعر الذاتية والعامة، ومع ذاكرة الأحداث العدائية، التي يصعب القفز فوقها ونسيانها، والتي طبعت العلاقة بين اليهود والعرب في التاريخ الحديث، حيث قامت دولة اسرائيل…

وبنفس الوقت زيارة مدفوعة بأمرين: أولهما حب المعرفة و ورغبة الحقيقة، في زمن الثورة والربيع واعادة صياغة الذات وتعريفها، وثانيهما الحاجة الملحة لإيجاد مخرج من مسار التدهور والعنف الذي تسير فيه المنطقة برمتها.. والذي يعاني بسببه الشعب السوري أشد المعاناة.

وما أكتبه في هذا النص لا أقصد فيه جمهورا معينا في هذا الجانب أو ذاك، بل أقصد أكبر قدر ممكن من الحقيقة الموضوعية العملية المحايدة، بعيدا عن الأيديولوجيات والشعارات ما استطعت إلى ذلك.  ومن ناحية الشكل … هو ليس مقالا صحفيا ولا إخباريا ولا سياسيا أو تاريخيا … بل مقال (أركيولوجي) يقدم معرفة متنوعة أكثر دقة وتحليلا وشمولا وموضوعية واختزالا وعملانية عن موضوع محدد هو اسرائيل ..

 

زَخَمُ التاريخ :

العرب يسمونها الأرض المقدسة ويكنون بها مدينتها القديمة ( القدس) والتي كانت عند اليهود بلدة السلم ( أورشليم ) … والقدس مدينة تقع على مجموعة جبال صغيرة بينها أودية عميقة، تجعل قاطنها يشعر بأنه وحيد رغم وجود الكثيرين، فالجار محتجب: إما هو أسفل أو أعلى، أو في الجانب غير المرئي، أو في الخلف، أو  هو ضمن حقل المشاهدة لكن في البعيد غير الواضح المنفصل بواد سحيق، وهذا ما يضعف شخصيتها كمدينة، بالمقارنة مع المدن المنبسطة المركزية الجغرافيا والبناء والسلطة، و بالتالي المخيال الجمعي. ومع ذلك هي مدينة تجارية، وسوق تؤمه القرى المحيطة، و محطة هامة مر بها القادمون والمهاجرون والغزاة، وتركوا فيها آثارهم (الدينية) واضحة، بالمقارنة مع شقيقتها مدينة دمشق، التي أثّرت بكل الغزاة والعابرين والقادمين وطبعتهم بطابعها…

القدس (مدينة العزلة أو الأمل) والتنوع (المتجاور أو المتراكب)… فيها يغيب عنك الشعور الجمعي، إلا في المعبد الذي يجمع الناس إلى المقدس، وفيها تشعر أنك وحيدا، ولكن الله يراك، وتذكرك بوجوده تلك الطاقية الصغيرة التي يرتديها المؤمنون به… فتشعر بارتباط خاص بالمخيال، الذي ينفتح فيه باب الاتصال بالآلهة، المحتجبة عن عيوننا المسموعة في قلوبنا، و تشعر بالوحدة التي يشعر بها كل معتزل متأمل، ولا تعيش فيها ما تعيشه عادة في المدن المنبسطة المركزية السلطوية، من حياة جمعية صاخبة، تعبر عن غريزية ومجون القطيع … الذي يخفض المستوى الرمزي والقيمي والمعنوي والفردي، لصالح المادي والعملي والجمعي…

02 01

عندما تدخل بوابة القدس القديمة، وتسير في أزقتها الضيقة المكتظة، بحوانيتها وأدراجها الفوضوية غير المنتظمة، لكن المتناغمة مع انحدارها المتفاوت، المحترم كحقيقة لا يمكن تغييرها، تدرك فقرها المادي الذي يساهم أيضا في تفكيك شخصيتها، بالرغم من وظيفتها التجارية التاريخية المتداخلة مع وظيفتها الدينية … وفي أزقتها تتفاجأ بمداخل أثرية قديمة … لكنها حصنت حديثا ببوابات الحديد والحواجز والحراسات العسكرية المسلحة ، فتتصور لوهلة أنك داخل إلى سجن القلعة، عند الباب الغربي لسور دمشق، مع فارق لباس الشرطة وسلاحهم، وهم بملامح متباينة تجمع بين الأشقر والأسمر والأسود ويستخدمون عدة لغات معا، وعندما تصر على الدخول وبعد التفتيش الاسرائيلي الصارم على جسدك وما تحمله معك، يبدأ تفتيش ثان عربي مدني غير رسمي وغير مسلح بغير أجهزة الاتصال ( على الطريقة الاسبانية ) عن هويتك ودينك وأوراقك ونواياك هذه المرة …!!

03 04

ثم إذا نجحت في امتحاني العبور … تكتشف أنك في باحة الحرم القدسي الشريف، الذي تقوم على حراسته من الداخل جمعية اسلامية، تنشر شبانها على أبوابه ومداخله وجدرانه، والذين لا يتركوا أي غريب يغيب عن أنظارهم، حتى ينضم لجموع المصلين، أو يحولوه إلى سائح ديني ( حاج )، يمارس عليه ما يمارس على السائحين المندهشين المسلوبين بالقداسة الرائعة، والمسحورين بزخم التاريخ المليء بالمعاني والرموز، فتنتصب أمامك القبة الذهبية، التي تغطي الصخرة التي عرج منها الرسول محمد للسماء، وهي كما يقول اليهود ركام هيكل سليمان التاريخي، الذي تهدم بفعل فاعل ولم يبق من آثاره سوى حجارة أرضه، التي تصل اليها بمغارة محفورة تحت الركام المتكلس، فتصلي على بلاطه القديم المغطى بالسجاد الاسلامي .حيث صلى الرسول محمد.

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ،

06 05

07 08

و قد سمي سقف هذه  المغارة بالصخرة ، التي يقال أنها ارتفعت  في الهواء عشقا للرسول حبيب الله عندما هم في وداعها… ثم تسير نحو الطرف الجنوبي حيث المسجد الأقصى، المكون من طابقين بقبته القديمة غير المذهبة ؟؟ وتصلي جماعة مع سكان القدس القديمة،  وتشاهد من باحته وساحته الواسعة جبال القدس، الشهيرة بزيتونها وبيوتها، وتشاهد أوديتها المليئة بالقبور الظاهرة، حيث تصل تكلفة دفن الجثة الواحدة لعشرة آلاف دولار… وتعود متجها بشكل عفوي نحو باب المغاربة المغلق، وتلمس حائط البراق في طريقك نحو باب الخروج الوحيد الذي دخلت منه… فتخرج بسلام ومن دون تفتيش… وتقف بالسوق من جديد بينما نفسك تسري بالزمن نحو الماضي العريق والذكرى العبقة…

09 10

.. وتضطر للدوران بعيدا والنزول نحو الأسفل حتى تتمكن من الوصول لأساس حائط البراق، الذي هو حائط المبكى، حيث تواجه من جديد الحراسة العسكرية والتفتيش الدقيق على الحاجيات، لكن من دون التفتيش على الديانات… وهو ما تبقى من جدران المعبد القديم الذي أقيم فوقه المسجد، المعبد الذي ينسب لسليمان، والذي يبدو أنه بني فوق معابد أقدم منه، كانت تمارس فيها وحولها طقوس الندب واللطم التموزية، وطقوس الكهانة والبغاء المقدس العشتارية، وتقترب من الصخور الهرمة الكبيرة وتعلق بين صخورها الأوراق التي تكتب فيها الأماني ،التي تتمناها على رب البيت والمعبد … فتمتزج العودة للتاريخ السحيق مع الدعاء والأمل في المستقبل… وهو ما يتكرر في طقوس الحج إلى مقامات الأئمة والأولياء عند الشيعة والصوفية حيث هم أيضا يتركون الرسائل والنذور، ويبكون وقد يلطمون حسرة وندما وحزنا على شقاء هذه الحياة وعذاباتها، أملين في فرج وعون لكل محتاج ومريض ، عبر توسيط من سبقهم لديار الحق وله كرامة عند الله …

وفي طريق عودتك تشعر بثقل ما حملت، وتكتشف أنك تسير فعلا على درب الآلام، طريق الجلجلة ، حيث سبقك وسار عليه السيد المسيح مكللا بتاجه الدامي، حاملا صليب عذابه وموته، مترنحا في أزقة القدس وعلى أدراجها، محاطا بعيون أمهاتها الدامعة، فتستريح حيث حاول أن يستريح. ثم تقف مذهولا كامل الحزن والأسى، حيث تم صلبه في يوم الجمعة الحزينة، وتسمع رنين الأجراس تعلن عن حزنها فارضة الصمت على الجميع، ثم تعبر لكنيسة القيامة التي سجي فيها، وتدخل المغارة التي دخلها جسده، قبل أن يخرج منها في اليوم الثالث، وكما يفعل القمر كل شهر … تشعل له شمعة ضوء عند قبره، فتتحول قصته لبشارة بحياة أخرى، لا يوجد فيها الألم والشقاء ولا الظلم. وما أن تهم بالخروج من الكنيسة حتى ينتصب مسجد عمر بن الخطاب، الذي فتح القدس ذات يوم ، وما يزال مفتاحها في عهدة أسرة عربية يقف أبناؤها على الباب حتى اليوم .

1112

13 14

15 16

فتكتشف في مشوارك الصغير هذا ، حقيقة سياسية مجنونة : أنك قد تستطيع الغاء شيء في الواقع لأنه موجود، لكنك لا تستطيع الغاءه عندما يصبح تاريخا … فهو قد غادر عالم الوجود الفاني إلى عالم الافتراض الخالد، وتحول من جسد إلى روح، فإذا كنت تستطيع أن تقتل الجسد بالسلاح ، فكيف ستقتل الروح وبأي سلاح؟…

أي أن هذا التاريخ الصامد في بعض الحجارة  وفي أنفسنا … والذي نتوارثه شفاها وكتبا وحجرا وأسطورة ، هو الذي يخبرنا أن أحدا لن يستطيع الغاء الآخر من التاريخ ولا حتى من الحاضر، وأنه لا يجوز لنا أن نفكر بذلك، وأن قدرنا هو أن نتعايش ونبحث عن صيغ التشارك، فكما يحج اليهودي يحج المسيحي والمسلم وغيرهم، وكما حفظ التاريخ هوية اليهود ووحدهم رغم الشتات، وعاد بهم وجمعهم بعد ألفي عام، كذلك سيفعل بالمسيحيين والمسلمين، وكل المؤمنين بما هو فوق هذا الوجود، وبالكتب التي تلقوها منه… والذين عليهم كمؤمنين به أن يتعارفوا جميعا، ويجتمعوا على كلمة سواء بينهم… يستطيعون أن يسمعوها هناك بوضوح من كل حجر من حجارة القدس العتيقة.

الهوية :

عندما تنخرط في المجتمع الاسرائيلي، وفي حياته اليومية الاعتيادية يسترعي انتباهك أمرين:     أولهما مدى التشابه بين العرب والعبريين، وثانيهما بين الدين الاسلامي والدين اليهودي …

فأشكال البشر وملامحهم متقاربة، ومن حيث التكوين المورثي الخليط، و هو النموذج في الشرق الأوسط ، الذي هو بوابة اتصال القارات الثلاث ببعضها .. كما أن اللغة العبرية التي تكتب بالأبجدية الفينيقية القديمة من اليمين لليسار، متقاربة جدا مع اللغة العربية التي تكتب بالأبجدية الهندية … فقط عليك ابدال حرف السين /شين ، والحاء /خاء ، والقاف /كاف ، والراء/ غين … عندها سترى أن اللغة ذات مصدر سامي واحد : يمين/ يمينا ، شمال/ شمالا ، سبت /شبت ، ثمانية / شمونة  ، أحد/ آخاد  ، قرية/ كريات ، بيت / بيت  ، حبيبي/ خبيبي ، سلام/شالوم  ، صباح/ بُكر … اسم /إشم … حمص ،لبنة ، زيتون، زعتر… والكثير من اليهود جاؤوا من الدول العربية، وما زالوا يتقنون لغتهم بلكنتهم الخاصة بكل بلد عربي، وأولادهم إلى حد ما كذلك ، كما أن اللغة العربية تدرس عندهم كلغة ثانية … وأغلب السكان يتكلم اللغتين معا من عرب ويهود … فكل حديث ينتقل بين العربية والعبرية عدة مرات، وقد تدخل الانكليزية أحيانا فيه، ولم تثبت العبرية قدرتها على الغاء العربية، بل إن العربية ما تزال تحافظ على وجودها بقوة، تزداد عندما تكثر بوابات الانفتاح والتواصل، وتكثر المنابر الثقافية والاعلامية. فالمحيط الذي يحيط بإسرائيل هو محيط عربي بالكامل، ناهيك عن التواجد الداخلي لعرب اسرائيل ، ولليهود العرب الذين يحتفظون بانقسامهم العامودي ضمن المجتمع . ومنهم من لا يزوج  ولا يتعبد خارج هذا الانقسام .

الفنون والألحان القديمة التراثية متشابهة… ومدينة تل أبيب تشبه إلى حد غريب أحياء توسع دمشق التي بنيت بذات الفترة الزمنية، ونمط التسوق والمحال التجارية متشابه… وأصناف الطعام وطريقة فرش البيت والضيافة ، ونمط الأشخاص وجدالهم الدائم ، والتفافهم على القانون ، وعدم ايمانهم به…

كلا الثقافتين العربية واليهودية ثقافة ذات جذور بدوية (رعي وتجارة)، وجينات ثقافتهم متشابهة، وهي تختلف عن جينات الثقافة ذات النمط الزراعي، التي طبعت المجموعات المسيحية، و نوعا ما الشيعية والصوفية بطابعها ، التي تعتمد قدسية المكان والخشب والبناء الثابت ، بينما يقدس البدو والتجار الزمان ، ويهتمون بالكلمة والمعنى والقيمة القابلة للتنقل معهم … فالراعي لا يهتم بما سيحدث في الأرض التي يعبرها لغيرها، والصياد يخفي نفسه ، ويخدع طريدته، والتاجر لا يتعلق عاطفيا ببضاعته، ويغفل على زبونه قيمة ما يعرضه… بينما على الفلاح أن يصدق في تعامله مع الأرض ويخلص لها ويلتصق بها قبل أن تعطيه ما يبقيه على قيد الحياة . لذلك كان التنقل  والترحال والتورية والتحايل والحذر والشك والطابع الذكوري … وغيرها ، عناصر تكوينية مشتركة في كلا الثقافتين العربية والعبرية، مع فارق واضح أن اليهود بغالبيتهم يقرؤون ، وهذا على ما يبدو بسبب طغيان الطابع التجاري والحرفي فيما بعد، وحياة الغيتو،  بينما انقسم المسلمون لثلاث فئات رعاة صيادون، أو تجار، أو مزارعين (غالبا تشيعوا أو انفصلوا طائفيا) … والمدن التجارية الاسلامية هي الأقرب في تدينها وطباعها لليهود، وبينما تتوقع الكرم عند الصياد الذي يتوكل ويعتمد كثيرا على المصادفة، لا تستغرب الشح والتقتير عند التاجر، الذي يصبر ويراكم ويخطط، ويموه القيمة والنوعية والشكل كما الصياد، لكنه يحب الصدق في الوعد اذا باع بالدين… السلفية الجهادية (داعش) تتماشى مع نمط الرعي ثقافيا، والاصولية المدرسية ( الإخوان ) مع نمط التجارة ثقافيا، وأغلب اليهود متدينون على طريقة تدين الإخوان الأصولية المدرسية. ونسبة (داعش) عندهم قليلة جدا بعكس المجتمعات العربية التي ما تزال رعوية.

الديانة اليهودية توحيدية ( إيلياهو / الله )، تعتمد مواقيت الشمس للصلوات اليومية الثلاث ذاتها من فجر وغروب وظهيرة، ( الشيعة أيضا يصلون ثلاث مرات فهم يجمعون ويقصرون عادة )، وتذكر اليهود في صلواتها عبارة ( باسم الإله الواحد الأوحد )… وقصص الخلق والأنبياء الواردة في الأسفار واحدة، وأركان الإيمان بالله والملائكة والأنبياء والوحي والقضاء والقدر واليوم الآخر… والأعياد عيد الصوم وعيد الأضحى، لكن السنة العبرية القمرية تضيف آذارا ثانيا كل ثلاث سنوات لتبقى متناسبة مع التقويم الشمسي، فلا تدور هذه الأعياد عبر الفصول  … وقد بقي المسلمين يعتمدون التقويم القمري العبري حتى عهد الخليفة الأموي الرابع، الذي أمر بعدم اضافة الشهر وسماه التقويم الهجري …  حتى الطاقية الصغيرة المميزة التي يضعونها، فهي تهدف للتذكير بأن الله يرى ويراقب، كما أنهم يتلون الصلوات قبل قطع الخبز الذي يرشون عليه الملح الخشن و يتقاسمونه … وحتى نظام الذبح ومحرمات الطعام وعدد الزوجات …

اليهودي كما المسلم ذو نزعة ليبرالية وفردية كبيرة، ككل ثقافة ذات جينات رعوية ذكورية، والتنافس والتناحر يبدو بينهم كشيء عادي، أما وحدتهم فلا تقوم إلا على احترام الشكليات،  وبشكل خاص الكتاب المقدس الذي يشكل محور اهتمامهم وتكوينهم الذي يحفظوه كجينات تكوينية للهوية القومية الدينية المتداخلة….

فالخوف هو الجامع الحقيقي، والشكل هو الوسيلة الجامعة، و الحفاظ على التميز هو ضرورة للعيش، فالشكليات ضرورية حتى لو أصبحت بعيدة عن نمط الحياة الحديث، وانفراط وحدتهم أمر خطير، ككل أمة مهددة ولو تغيرت عوامل التهديد ( بل إنهم كسياسيين يحتاجون لهذا التهديد للحفاظ على الوحدة ) … ولاستمرار الخوف ( الذي يغطي على الفرقة) حتى بعد قيام الدولة … عادة أي تغيير ثقافي وتطوير في مستوى الجينات، يحتاج لفترات استرخاء واطمئنان، تستطيع فيه الهوية أن تغامر بالتحديث والتغيير، دون السقوط في خطر الزوال.

باختصار : اليهودية دين وهوية معا يختلط فيها القومي بالديني، ثقافة محمولة ومتنقلة تقدس الزمان وليس المكان، امتهنوا دورا اقتصاديا جزئيا وهامشيا وسيطا، ولم يشكل اليهود تنوع قطاعي متكامل، وتمركز مكاني كافي لتشكيل سوق قومية موحدة، وهم ليسوا أمة حديثة تكونت تاريخيا على أرض محددة، ناهيك عن استمرار ارتباطهم بالبلدان التي جاؤوا منها، واستمرار تواجدهم كمجموعات فيها، واستمرار تواجد أقليات كبيرة غير يهودية، ما تزال ثقافتهم وهويتهم فعالة وموجودة بشكل طاغ في الجوار، أضف إلى ذلك مفعول العولمة المتجاوز للدول، ومفعول التخصص الذي يفضل اليهودي الحفاظ عليه كجزء من هويته، لا يتقن ولا يحب العمل ولا ينجح بغيره… فهو دوما صاحب الاستثمار في المال والمعرفة. وكل ما ذكرت عناصر في الهوية غير متناسبة مع مفهوم الدولة المنعزلة وحاجاتها … والتعارض بين الهوية والدولة محسوم لصالح الهوية ، لأن الهوية التي عاشت عشرات القرون هي بالتأكيد أقوى من الدولة التي كانت حالة استثنائية في التاريخ، خاصة في زمن تلاشي الحدود والدول القومية واندماجها، وتحول الرأسمالية الامبريالية للعولمة.

قيام الدولة :

لم يعش الشعب اليهودي حالة الدولة ( كما هو حال الشعب الكوردي ) إلا في مرحلة وحيدة من التاريخ قبل بزمن بعيد من عصر القوميات والدولة الأمة، حيث كانت الدول يومها مجرد ممالك وسلطنات محلية، أو امبراطوريات كبيرة جامعة لها، تربطها مع بعضها بتحالف عسكري هش. فشكل اليهود مملكة في السامرة وأخرى في يهوذا في عصر الملوك الأنبياء ( داوود وسليمان ) .. ثم بعد ذلك انتشر الدين اليهودي كدين لكن في ممالك مختلفة، كانت تخضع لملوك وحكام لم يسموا أنفسهم كملوك لليهود أو كأبناء للشعب اليهودي … فشعوب المنطقة كانت دوما عرضة للغزو والاحتلال والسبي من الجيران الأقوياء، كما أن المرحلة الهلنستية التي حكمت الشرق الأوسط قبل ولادة المسيح، لم تكن مرحلة حكم ديني أو قومي محلي ذو هوية محددة … ثم بعد تصاعد المسيحية واضطهاد الرومان للديانات السماوية في المنطقة (قبل تحولهم للمسيحية)، أكمل الدين اليهودي مسيرته كدين موزع في ممالك متعددة إلى جانب المسيحية، معتمدا على تمايزه الثقافي عنها: كثقافتين مختلفتي الهوية الاقتصادية ( زراعة تجارة ) ، ثم بعد هيمنة المسيحية وسيادتها كدين عالمي مفتوح، تابع اليهود (الذين تحولوا لدين قومي منغلق) دورهم الاقتصادي المميز، كأقليات في ممالك مغايرة أوسع وأبعد، ولعبوا فيها دورهم الهامشي فيها ، أو دورهم كوسيط تجاري بين الاقطاعات والمدن والممالك ، كوسيط تجاري ذو هوية دينية قومية واحدة، متخصص في نوع معين من التجارة والحرفة، طبع ذلك تكوين وهوية الشعب اليهودي على مدى عشرين قرنا من الدياسبورا. وعندما جاء الاسلام وانتشر بسرعة، حافظوا على دورهم الوسيط بين الاقطاعات البطريكية المنفصلة عن بعضها حيث وجدت، و تحول اليهود لشركاء مع الطبقة التجارية المدينية حيث وجدت( لتشابه الثقافة )، وهنا حدث الاندماج والتناغم الأهم في التاريخ بين اليهود والشعوب الأخرى، الذي شهدته المدن الحرفية والتجارية الاسلامية، واستمر على مدى طويل من الزمن، تشهد عليه الأحياء اليهودية المنتشرة في أغلب الحاضرات المدنية الاسلامية والعربية بشكل خاص ، وتشهد لها الأسواق التجارية المشتركة.

وإذا كان الدين أو الكتاب قد حافظ على هوية هذا الشعب وشكل جوهر قوميّته، التي حفظت تميزه رغم الشتات، فقد استطاع ذلك لأنه أيضا وجد الوظيفة الاقتصادية المناسبة لهذه الوحدة والتميز رغم الشتات، بل لأنه استطاع أن يوظفها كجزء من هويته الخاصة به. فقد كان اليهود بجانب وعلى هامش كل مجتمع وكل اقتصاد وكل أمة، لا يندمجون بها ولا ينفصلون عنها، يجمعهم طابعهم الثقافي المختلف ومهنهم المختلفة، واجتماعهم هذا وتوزعهم جعل منهم الرابط الطبيعي بينها، القادر على التحرك والتبادل، حتى أن حياتهم كانت في قلب المدن، لكن ضمن أحياء خاصة مميزة لها طابعها الخاص، الذي قد يستخدم أيضا لاضطهادها… وهكذا بقيت نسبة اليهود في أغلب الدول تتراوح حول نسبة 1- 3% من السكان، في كل المناطق ذات الثقافة المسيحية أو الزراعية والبنية البطريركية الاقطاعية، حتى في فلسطين ذاتها وسوريا  ومصر وروسيا وبريطانيا … وهذا التوزان في التوزيع كان على ما يبدو خاضعا  للدور الاقتصادي النوعي المميز ، حيث تتحرك الأسر اليهودية بين الدول بسهولة، و بحسب متطلبات الوظيفة الهامشية التي امتهنها اليهود في اقتصادات العصر العبودي والاقطاعي، وهي التجارة البينية و بعض الحرف التخصصية المرتبطة بها …فكل أسرة ستتحرك من مجتمع يهودي إلى مجتمع آخر من دون الشعور بالغربة والهجرة، لتشكل هذه الكومونات اليهودية شبكة ائتمان عالمية لكل اليهود المهاجرين والمتنقلين والتجار، و تشكل شبه دولة شبكية مترامية الأطراف من دون جسد، وهو ما يمز الوجود اليهودي ويعطيه خصوصيته وهويته… حتى قيام دولة اسرائيل ، وهو ما سيلعب دورا مميزا ،بسبب تموضعه هذا، في التحول الرأسمالي والثورة البرجوازية على الاقطاع، التي قادت الحضارة الحديثة .

عندما حصل التحول الرأسمالي كان اليهود هم المحرك الأول لفكر الاقتصاد الحر والتبادل وسوق العمل والتراكم الرأسمالي ( المضاد والمحطم للبناء الاقطاعي التقليدي السائد ) .. وهكذا تطبعت الرأسمالية بطباعهم وأخذت عنهم وسائلهم وثقافتهم ، في المقابل تحولت كل الشعوب التي تضررت من التحول الرأسمالي المشوه والقاصر (بسبب التنافس الرأسمالي العابر للحدود وطغيان القوي على الضعيف ) ، تحولت نحو العداء للسامية، على اعتبار أن اليهودية هي مصدر هذا الشر المحدث … فتم الدمج بين الرأسمالية وبين اليهودية ( حتى أصبح إله اسرائيل المطاع{المال} دينا لكل العالم الرأسمالي … كما قال كارل ماركس في تحليله للمسألة اليهودية )

فكانت الرساميل اليهودية هي الأقوى والأسرع تحركا في بداية عصر الرأسمالية التجارية ( المرحلة المركنتلية ) وبعد ذلك الأكثر نفوذا في التحكم بالبنوك وأسواق المال ، ومن خلالهم بالاقتصاد والسياسة ، وعند نشوء وازدهار الحركة الماسونية التي تدعوا لبناء المجتمع المدني والدول القومية على حساب تفكيك البنية الاقطاعية، كان اليهود أكبر المتحمسين الطبيعيين لها، وأكثر المتضررين من التعصب وعدم التسامح الديني… وحتى كانوا أيضا في مقدمة الحركات الشيوعية ( ماركس و تروتسكي ) التي حاربت التعصب القومي العنصري والاستغلال الرأسمالي المتوحش بأممية العمل والبروليتاريا…

وهكذا كان من السهل ربط الرأسمالية والماسونية والشيوعية باليهودية ، وربط التحديث المجتمعي والقيمي الذي ركز على مفهوم الحرية والتحلل من القيم التقليدية بها أيضا … وفهم من ذلك أن اليهودية تحطم قيم النبالة والشرف الاقطاعية، وتفكك الروابط البطريركية، وترعى حركات الانحلال المجتمعي والقيمي، ثم تقود المصارف والمال ، وتتحكم بالسياسة والسياسيين في العالم … وبالتالي تقوده …

وما تزال عقلية المؤامرة التي تبالغ في دور اليهود وقدراتهم، تغذي أفكار الكثير من الكتاب والمنظرين والجماهير، الذين يعجزون عن تبرير نكباتهم وهزائمهم، ويبحثون عن شيطان خارجهم يملك قوة الجن التي تتفوق على قوة البشر … والمثال الصارخ على ذلك لوحات تصور اليهود كمصاصي دماء وكائنات وأشباح شيطانية… وكتب مجهولة الكاتب عادة يعبر عنها كتاب بروتوكولات حكماء آل صهيون. الذي كتب على ما يبدو في سياق نزعة مضادة للسامية اجتاحت روسيا، التي حطمتها الصراعات ودخلت في حروب أهلية، عندما عجزت عن التحول الرأسمالي المتوازن الناجح بسبب قوة المجتمع البطريركي وضعف الطبقة البرجوازية، فوقعت بين القديم الذي تعطل، والحديث الذي لم ينتصر وينجح، فدخلت الحداثة بشكل مشوه وخسرت في مضمار التنافس مع الدول المتقدمة رأسماليا، التي سبقتها و غزت العالم واستعمرته، وحرمت غيرها ممن تأخر عنها كألمانيا من امكانية المنافسة الحرة على الأسواق الخارجية ، التي كانت البوابة الوحيدة لتفادي الأزمات الداخلية الرأسمالية المدمرة، التي تنجم عن شره الرأسمالية للتوسع الأفقي السهل والمربح، بدل العامودي المكلف والصعب…

وهو ما تسبب في حربين عالميتين مدمرتين فيما بعد، فظنت بعض الأمم الخاسرة أنها خسارتها بسبب اليهود ( الشيطان ) فانقلبت عليهم في أبشع عملية اضطهاد وإبادة جماعية منهجية، جعلتهم يفكرون في التجمع في وطن يحميهم من بحر الاضطهاد الذي لا نهاية له …  وهكذا قامت دولة اسرائيل  كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية، وبسبب العداء للسامية المنتشر والمستمر والمتزايد عنفا… وليس بهدف شيطاني آخر : هو تشكيل خنجر في صدر الأمة العربية ( كما يتوهم ذات العقل بنسخته العربية ) ،

فالدول العربية كانت ميتة أصلا ومن دون هذا الخنجر ، وهي رازخة تحت الاحتلال منذ قرون وبلا حول ولا قوة… بدليل عجزها مجتمعة عن كسب حرب صغيرة في قرى فلسطين عام 1948، حيث انتظر العالم بما فيه المستعمر البريطاني هذا النصر السهل الذي مع ذلك لم يتحقق… والذي قامت على اثره دولة اسرائيل كمعجزة ، وبقرار مغامر من مؤسس الدولة، الذي خالف الكثير من النصائح والتحذيرات الدولية يومها،  التي توقعت ردة فعل عربية مختلفة عما جرى فعلا، حيث اكتفى العرب ببناء أيديولوجيا العداء وضخموا شعاراته بشكل مفرط، وامتنعوا كعادة كل مشلول عن الفعل المفيد والعملي… فحتى تلك الفترة كان الاهتمام الغربي في تجميع اليهود الفارين من الاضطهاد والكراهية في المنطقة، التي كانوا ينعمون فيها بالقبول والتعايش، لكي يعيشوا بسلام على أرض أجدادهم، ولم يكن الاهتمام يتركز على إقامة دولة عسكرية معادية لأحد، فالدول المنتصرة في الحرب الثانية، لم تكن بحاجة لدولة تعيش على المساعدة، بل سحبت جيوشها طوعا من هذه المنطقة وأعطتها استقلالها، ونصبت حكاما متعاونين معها يفعلون ما يؤمرون، وقد سعت دوما لإيجاد حلول تفاوضية، كما سعت الأمم المتحدة طويلا لفرض السلام ومشاركة الأرض… وما تزال دون جدوى، بينما تتفاقم حالة العداء ويتحول تدريجيا هذا العداء أكثر فأكثر لصراع أصوليات ، لنقول أن الاعتماد على وجود تحالف استراتيجي لا ينفصم بين اسرائيل والغرب هو نوع من الوهم وخداع للذات … لأن ما يسمى بالحلف الغربي الاسرائيلي هو أيضا من صنع الخيال العربي المضاد للصهيونية، الذي يحمل كل مواصفات عقل المؤامرة المعادي للسامية، الذي يشيطن العدو ليشرعن الذات، ويعطيه القدرات السحرية لكي يبرر خسارته كبشر أمامه . فالدول الغربية بالأمس فقط كانت متهمة بالعداء للسامية، بل بالهولوكوست الرهيب، فكيف تصبح حليف خاضع للصهيونية !!! وكيف نصدق ذلك نحن العرب ناهيك عن اليهود … حيث ما تزال أوروبا تقاوم ضد تصاعد النزعات العنصرية فيها والتي لا تميز بين كراهية اليهود والعرب ..

لم يستوعب العقل السياسي العربي لا بالأمس ولا اليوم حقائق الواقع وامكاناته ، فلم يستوعب  ظروف الهجرة اليهودية، ولم يتعامل معها بعقلانية وتخطيط استراتيجي في زمانها، وبدل استقبال المهاجرين المضطهدين ،واستضافتهم في المدن العربية، ضمن الأحياء اليهودية الشقيقة، وتقديم المساعدة والمأوى لهم، وهو الأمر الطبيعي والسلس في مثل هذه الحالات… تم التحريض على القيام بأعمال العنف ضد المهاجرين والمستوطنات، التي باشروا في بنائها على ممتلكات اشتروها، ضمن ما يسمح به قانون الانتداب البريطاني السائد يومها …

ولما تنصل الانتداب من مسؤولياته في فرض القانون والسلم، تكونت مجموعات الحماية، التي تحولت فيما بعد لجيش الدفاع، والذي انتصر في معركة غير متكافئة، على عدة جيوش عربية مدعومة بثوار متطوعين من كل الدول، تلك الهزيمة التي بررت بتواطؤ الحكام العرب والاستعمار ، تبعتها هزيمة منكرة أكبر منها في حزيران67 منيت بها الأنظمة العربية القومية الثورية التحررية المدعومة من المنظومة السوفيتية … مما أحدثت صدمة وجرحا عميقا لا يندمل في الذهن العربي ، وتهتكا وعطلا دائما، وتشوه تصوري ومنطقي يضخم قوة العدو  على قدر فداحة هزيمته، بل يتهمه بكل المصائب التي يعاني منها هو بذاته ولذاته أينما وكيف كانت…

وما تزال هذه العقدة تتحكم فيه إلى الآن، كما ما يزال أثرها المعكوس يتحكم بالعقل الصهيوني الذي يقيس نفسه بشكل متضخم إلى درجة الغرور … فادعاء أن اسرائيل حليف الغرب المدلل ، أو أنها تسيطر (على أمريكا مثلا) يناقضه مشهد الاطناب والمديح الذي شهدته ، والمبالغ به للسفير الأمريكي ، والتي شبهتها  بالحفاوة التي يستقبل بها شيخ نفطي عندنا..

وحسن تقدير قوة اسرائيل وطبيعتها وتحالفاتها، وحسن تقدير عيوب الذات، هو الشيء الضروري الذي يمكننا من مقاربة العلاقة معها مقاربة عقلانية… أما الاكتفاء بالشعارات والتحصن بها، ورمي كل مصائبنا وخيباتنا على عدونا … ستكون نتيجته العجز عن حلها، واعفاء مرتكبها الحقيقي من المسؤولية،  وهذه هي بروباغاندا النظم العربية أينما وجدت (قرب اسرائيل أو حتى بعيدا جدا عنها ) فإذا عثرت شاة على المحيط الأطلسي اتهمت اسرائيل، وإذا قتل أي مستبد عربي شعبه، اتهمنا اسرائيل لنبرئه، ونبرئ أنفسنا عندما صنعناه وأيدناه، ونعفي شعوبنا من مسؤولياتها ونكرس استقالتها واستلابها…

فالكل يعتبر أن قضية فلسطين هي القضية المحورية، التي يجب أن تتراجع أي قضية أخرى لحيز الاهمال بانتظار حسمها ، فلسطين وليس الانسان هو الهدف، مع أن الخاسر الأكبر من هذه البروباغندا هو الشعب الفلسطيني ذاته ، الذي ما يزال يعاني ويعاني . ولو كان العرب يحبون فلسطين فعلا لكانوا قد عاملوا الفلسطينيين بطريقة مختلفة، ولو كانوا فعلا مؤمنين بالعروبة، لعاملوا اللاجئين السوريين بطريقة مختلفة أيضا، لكن الكل يتعلق بالقضية ويتاجر بها، وينسى الانسان الذي هو أصل ومبتغى أي قضية، وغاية كل سياسة …

كيف نصدق أن حزب الله الذي يعرف نفسه كمقاومة، أنه لا يستطيع النوم ولن يسمح للحياة السياسية اللبنانية بالعمل، من دون تحرير مزارع شبعا السنية … في حين يحتل القصير وحمص ويقتل أهلها ويحارب مواطنيه السنة في بيروت وصيدا وطرابلس، وكيف نصدق أن داعش تريد بناء دولة الاسلام ، وهي تقتل المسلمين في شمال وشرق سوريا وتهجرهم من أوطانهم نحو بلاد الفرنجة!!! .. مرة أخرى نحن أمام ثقافة الكذب والنفاق والخديعة التقليدية، التي صار من الطبيعي أن تنهار بعد الحال الذي أوصلتنا إليه ، لينتصر العقل والعقلانية، حتى لو كان الخيار المعتمد هو الحرب، فليكن خيارا عقلانيا محسوب النتائج،  والتي أعتقد أنها لن تحمل سوى الدمار لكلا الطرفين ، طالما هي حرب وجود وأصوليات، غير محددة الأدوات والأهداف السياسية… فالعقلانية هي التي تقييم النتائج المتوقعة من الحرب ، وهي التي تفتح امكانية الحوار والتفاوض من أجل تجنبها، وبهدف الخروج من الماضي وفتح أبواب المستقبل المختلف.

لكن هذا يحتاج لتجاوب أيضا من الجانب الآخر، الذي يعاني من تضخم الذات ونشوة الشعور بالنصر، الذي سببه هشاشة الخصم، وانشغاله بصراعاته الداخلية، التي تحول بلدانه لدول فاشلة تباعا، فيضع العقبات أمام تحقيق السلام ، ويراهن على أخطر عامل وهو الوقت … لشعوره أن الوقت في صالحه… مع أن العكس قد يكون صحيحا، بالنظر للفارق الهائل في الحجم بين العرب واسرائيل، وعليه توقع عوامل أخرى غير منظورة تتكون بعيدا وتظهر فجأة، فأفضل وقت للسلام هو أقربه . والدول تتكون وتزول ولا أحد يستمر بقوته وتفوقه. والعقلانية هذه ضرورية بشكل خاص للفريق الحاكم في اسرائيل، الذي جاء معظمه من خلفية عسكرية أمنية تؤثر عليه وتحكم تصوراته .

عندما اجتاح نابليون امبراطورية النمسا واحتل عاصمتها، عادت الامبراطورية النمساوية بسرعة لسابق عهدها، فاجتاحها مرة أخرى،  وهكذا بدا بشكل جلي أن تفكيكها ضرورة لاستقرار أوروبا، كأمم حرة مستقلة القومية، بالشكل الذي يتناسب مع التطور الرأسمالي الصاعد، الذي تعاضدت أسواقه مع النزعة القومية التي الغت الاقطاع واستبدلته بالدولة- الأمة الحديثة . وعندما اجتاحت الجيوش الألمانية السهوب الروسية في الحرب العالمية الثانية، كانت الجيوش الحمر تنسحب سريعا نحو الشرق آخذة معها كل ما يمكن نقله، لكنها في مكان ما بعيد جدا عن الحدود استطاعت وقف اندفاع الجيوش الألمانية المتفوقة نوعيا ثم الانقضاض عليها… وهكذا كما نرى يلعب نمط الانتاج و الجغرافيا والديموغرافيا دورا أساسيا في بقاء الدول، عندما تتعرض للحروب والأزمات، أو حتى لتغير العوامل الاقتصادية التحتية بشكل ملموس …

اسرائيل  التي أعلنت نفسها كدولة جديدة بنتيجة الحرب مع العرب، ورسمت حدودها معهم بالقوة، مقلدة الدول القومية الحديثة، ما تزال تعاني فعلا من أزمة تكون قومي اجتماعي و اقتصادي، وأزمة جغرافيا وديموغرافيا هائلة، ليس فقط بسبب الحجم الصغير جدا على أي دولة-أمة قومية حديثة، بل أيضا بسبب النوع، حيث لم يشكل الشعب اليهودي أمة متكاملة، ذات سوق قومية موحدة سبقت إعلان الدولة، وما يزال يصعب عليها فعل ذلك بعد قيامها، لأسباب كثيرة أهمها توزع الشعب اليهودي في العالم، ونوعية دوره وتخصصه التاريخي، الذي هو جزء جيني من الهوية.  وثانيها مفعول العولمة ذاتها ، التي صارت تتناقض مع الدولة القومية.  وثالثها الانقسامات العامودية الكبيرة التي ما تزال موجودة في المجتمع الاسرائيلي …

 وعندما تطلب حكومة اسرائيل الاعتراف بها كدولة قومية للأمة اليهودية،  يجب عليها أن تنتبه لهذا النقص التكويني، الذي لا يعوضه توفر أو استخدام تفوقها الناري العسكري فقط، كما لا يضمنه أي وعد ورقي متعارض مع طبيعة الجغرافيا و حقيقة التاريخ، فالمسار الطبيعي نحو المستقبل لا يهتم بالوثائق بل بالحقائق القائمة، والقوى التحتية التي تعتبر العامل الحاسم في تحديد البنى الفوقية … والحقائق عادة أشياء عنيدة لا تقبل الجدل.

من كان يتخيل أن ينهار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الحديدية بهذه السهولة، ومن يقبل اليوم بالتفكير في احتمال دخول الصين مجددا في حرب أهلية، نتيجة النمو السريع والمشوه غير المتوازن الذي يحدث فيها…  فعوامل زوال الدول موجودة دوما وفي داخلها، والدول تقوم وتموت وتتغير أشكالها وحدودها ونظمها، لكن الهوية والشعب يبقى … وقد قالها سياسي اسرائيلي بارز أن سوريا قد ماتت … لكننا نبهنا أنها ماتت لتحيا بلاد الشام … فالمهم أن يبحث كل شعب عن شكل وجوده الآمن والحضاري في الأرض التي يعتبرها أرضه ، من دون عبادة صنمية للشكل السياسي … وهذا يتطلب تقبل الطرف الآخر والتعاون معه، وهو شرط لازم للسلام في منطقة شديدة التنوع الثقافي والقومي والديني … فمن يريد فعلا حماية شعبه، وعدم مشاهدة مآسي التاريخ تتكرر،  عليه أن يبحث عن السلام والاستقرار بما يتناسب مع الوقائع الطبيعية، وبكل ما لديه من قوة … وعدم اضاعة الوقت والفرص، مسحورا بقوة عسكرية أو تحالفات دولية عابرة وظرفية، تعاكس كل الوقائع الأخرى التي لا تؤثر فيها الأسلحة الفتاكة. فقد أثبتت التجربة أن الارهاب أقوى من كل الجيوش، لكنه ضعيف جدا أمام قوة المجتمع الذي يحتضنه ويبرره .

الهولوكوست :

لا يمكن فهم وجود دولة اسرائيل بمعزل عن الهولوكوست، فإنكار الهولوكوست هو انكار لإسرائيل .. فهي قد أصبحت حقيقة بفعل هولها ،  الذي حرض الرغبة والارادة لإنشائها … وهذا المتحف الرهيب هو  متحف اسرائيل الفعلي التي قامت من رماده، ومن جموع الناجين من الاضطهاد الفارين إلى أرض الحلم والأجداد والميعاد … و هو الذي يُحرَص على أن يراه اليهود وغيرهم بشكل متكرر ليستمروا في بناء الدولة التي تحميهم من هولوكوست آخر يهدد وجودهم الضعيف بالفناء، كشعب قاوم وحافظ على هويته ودينه عبر التاريخ رغم الشتات … فتجديد الشعور بهول المأساة هو جوهر العقيدة الصهيونية و الدافع الأهم للقبول بصعوبات الحاضر … وبالإضافة إلى ذلك الاستمرار في شن الحروب وتبريرها … التي تصبح بسببه دفاعا مشروعا ضد جريمة قادمة ومتوقعة …!

وعندما سألت عن مدى حصول ردات فعل انتقامية على ما جرى، ذكروا أنها كانت محدودة وتم احتواؤها .. لكنهم لم ينتبهوا أنها انعكست عليهم بطريقة أخرى : على شكل كفرٍ بالقيم والنظم والعهود، وعلى شكل ازدواج في المعايير، فهم الضعيف الذي دفع ثمن اعتماده على القانون لحمايته من تجبر القوي، فكانت النتيجة أن ذبح وأحرق وأبيد وهجر… وبالتالي قرر في ضميره أن يكفر بكل نظام دولي، خاصة عندما سيشعر بالقوة .. لذلك هم عاجزون عن قبول دفاع الفلسطينيين عن حقوقهم  وأرضهم، وهم يعتبرون كل من يحارب اسرائيل، هو بشكل أو آخر امتداد واستمرار للهولوكوست أو تعبيرا عنه أو تذكيرا به … إن هول الكارثة قد عطل عندهم الوعي النقدي للذات … وفداحة الانكار والاهمال التي تعرضوا لها، جعلتهم منغلقين وقساة ضد الآخرين … فالآخر خذلهم وتنكر لهم و لم يعد يعني لهم الكثير… والعلاقة معه علاقة عابرة وحذرة دوما … والشيء الوحيد الذي يضمن حقهم في البقاء هو القوة والقدرة على القتال… والاحتياط المسبق… ( بالسلاح النووي ، والقوة العسكرية القادرة، وجهاز الانذار المبكر، وشبكة التحالفات المنتشرة في كل العالم ) … وهكذا يدفع الشعب الفلسطيني أيضا ثمن الحرب العالمية الثانية وثمن معاداة السامية، لكن على يد ضحاياها، وهو الانتقام الغير منظور الذي ولدته الهولوكوست، وهو الذي يجعل الغرب (الجاني ) يساعد اسرائيل ( الضحية ) على ارتكاب الخطايا بحق آخرين (لا دخل لهم)، تبريرا وتكفيرا عن خطيئته هو بحقها وحقهم.. وهذا ما سيعزز ويبرر عند العرب مشاعر العداء للغرب واسرائيل معا.

هم يبكون على الماضي أما الفلسطيني فيبكي في الحاضر… وهكذا تستمر المأساة وتتكرر على يد الضحية ذاتها، لكن ضد الضعفاء فقط، بينما يبقى المرتكب الآثم يحظى بالحصانة لأنه القوي… ومتحف الهولوكوست الذي يعبر عن مأساة الشعب اليهودي يفهمه اليهود بدورهم كضحايا فقط، وليس كمتعلمين محايدين كما نراه نحن … لنسأل ماذا عن المأساة العربية الفلسطينية، وماذا عن المأساة العراقية واللبنانية … وأخيرا ماذا عن المذبحة السورية … وهل يجوز لأحد أن يستثمر بها ، أو يتغاضى عنها ، ويتعاون مع مرتكبها …؟

سألت عن السبب الذي دفع بالنازيين لفتح معسكرات الموت… كان الجواب أنهم كانوا يخشون من شعوبهم الذين يتقززون وقد يمتنعوا من تنفيذ تلك المجازر… فجعلوها من اختصاص فريق محترف، ونفذوها بسرية و بطريقة ميكانيكية، مصممة كمعامل موت منظم ومدار جيدا … وهو على قسوته وجبروته و وحشيته، يختلف عما يجري الآن في سوريا من مذابح ترتكب علنا وفي قارعة الطريق، ويشارك فيه المدنيون، حيث امتزج فيها القتل الميكانيكي المنظم، مع التلذذ بالتعذيب والموت البطيء ، المشجع عليه من المجتمع ومن رجال الدين بكل أسف… والذي هو أيضا يجري التغاضي عنه رغم انفضاحه، وأحيانا هناك من يستثمر فيه، ويحقق مصالح من وراء حدوثه، مما يضيف لمتحف الهمجية، سوية أخرى من الوحشية والبشاعة التي قد يتصف بها سلوك الانسان …

هذه المجازر يرتكبها أبناء البلد بأيديهم، ولا يمكنهم اتهام اليهود بها، بل يكتفون باتهامهم بالوقوف وراء النظام  أو وراء ايران ، أو وراء اطالة أمد الأزمة ، التي يستنتجون أنها تخدم مصالح اسرائيل لمجرد كونها عدو .. ومع ذلك لم يصدر من اسرائيل التي تفهم جيدا معنى الجرائم ضد الانسانية، تلك الادانات الواضحة والصارخة لما يجري بحق الشعب السوري.. بل يكتفى بتقديم بعض المساعدات الانسانية .

أعتقد أن مذبحة الشعب السوري تجعله قادرا أكثر على فهم الهولوكوست والشعور بها، وكذلك أتوقع العكس عند ضحايا الهولوكوست، ووجود تفهم مشترك ومتحف مشترك لعذابات الشعبين، يمكنه أن يفتح صفحة جديدة لتعاونهما، من أجل انسانية محترمة بقوة القانون الدولي الملزم ، الذي تحتاج إليه العولمة اليوم، ومن دونه سيتحول العالم لفوضى عارمة، ليس أقل مظاهرها الإرهاب والمجازر ضد الإنسانية، فالكل يجب أن يدرك أنه قوي فقط عندما يحترم هذا القانون الانساني، و أنه كان أو سيكون ضعيفا من دونه، فالعدالة هي الضامن الأول للسلم الاجتماعي ، والنظام والعدالة الدولية هي الضامن للسلام بين الشعوب الحرة…

آفاق السلام 

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)

هناك ثلاثة خيارات مطروحة على الفكر السياسي  :

1- استمرار الحالة الراهنة : سلام مع  الأنظمة سري أو علني ، وعداء بين الشعوب المتضررة من الحرب ومن الأنظمة معا بانتظار المجهول … مع احتمال اندلاع حروب وصراعات غير متوقعة . وهو خيار الأنظمة العربية والأحزاب السياسية التقليدية .  وهذا الخيار قد انهار عمليا بسبب الربيع العربي ، ولن تنجح استعادة النظام القديم ، بل إن التغيير سيطال كل الأنظمة لتشابه الظروف والعوامل ،

2- تغلب التيار الأصولي وخوض حرب جهادية لإلغاء وجود إسرائيل ( حماس ايران داعش حزب التحرير والإخوان  …. ) وهو ما قد يؤدي لحروب وجرائم ضد الانسانية واستخدام أسلحة غير تقليدية وتدخل دولي واسع يمنع حسم المعركة . ويتطلب هيمنة النظم الشمولية الأصولية في دول الجوار . وهذا هو الخيار المرجح إذا لم نستطع السير بحركة التغيير في المسار الثالث .

3- انتهاج طريق السلام بين الشعوب لإعادة بناء النسيج التعددي التعاوني في المنطقة وبناء المصالح المشتركة ، وهو يسير ضمن منطق التاريخ السائر نحو تجاوز الدول القومية وتجاوز الحدود ويطابق المنظومة القيمية للحضارة . وهذا الخيار يتطلب بعض التنازلات المؤلمة … هنا سنتحدث فقط عن الخيار الثالث وآفاقه لأنه الوحيد الذي يلبي مطالب الشعوب ، مع أن هذا الخيار هو اختيار حر يتطلب جهد واعي وتعاون ومبادرات خلاقة ، ولن يحدث بتفاعل الظروف الموضوعية بشكل أعمى بل سيسبقه الاحتمال الثاني .

الأرض لله يورثها لعباده من يشاء ولا يوجد حق تاريخي أو مقدس في الأرض ، فالشعوب والأمم تقوم وتزول ، والأفراد والمجموعات تتنقل في مناكب الأرض وتبحث عن سبل العيش والرزق ، كما أن الدول تقوم وتزول تبعا للعقد الاجتماعي حول القوة أو الهوية أو الدين … وتزول بزوال هذا العقد أو بتدخل خارجي ، وكل حق يرتبط بصاحبه ويزول بزواله … وكذلك الجرائم تموت بالتقادم ومع زوال المتضررين منها، لذلك كانت هناك ضرورة لعدالة سماوية تنصف المظلوم وتحاسب الظالم ، وتجزي على الحسنة والسيئة ، لأن الكون قائم على الحق ، والمجتمعات على العدل، والله قد حرم الظلم على نفسه، ووعد الناس بالعدل يوم الحساب ، فمن لا يخاف الله هو الذي يظن أنه انتصر في الدنيا إذا أفلت من عقابها …

لكن الكثير من المظالم لا يمكن تعويضها، والبحث عن عدالة كاملة في الحياة الدنيا ضرب من الوهم، فالعدالة الأرضية تنحصر في حدود دورها في حفظ السلم الأهلي داخل المجتمعات، أما بين الدول فما تزال القوة والحروب والمعاهدات التي تعقبها هي التي تحكم هذه العلاقة، ولا توجد حتى الآن عدالة دولية ولا نظام دولي مسؤول عنها، وكم من ضعيف تعرض لغطرسة وابادة دونما ردة فعل، وكم مرة تعطل القانون الدولي بسبب فيتو أو بسبب غياب آليات التنفيذ … فالوحشية ما تزال حتى الآن هي السمة التي تطغى على العلاقات الدولية… وهذا الدرس تعلمه جيدا الشعب اليهودي من تجربته المرة مع دول أوروبا (المتحضرة )… لذلك هو لا يأبه كثيرا للنظام الدولي، لأنه يضع نفسه في مكان الضحية دوما وفقط . وكذلك تعلمه الشعب الفلسطيني الذي تُرك لمأساته من دون عون أو تعويض يذكر . وهو ما يتعرض له شعوب كثيرة في المنطقة تقتل وتهجر لأسباب سياسية وعنصرية واقتصادية ودينية … وفي ذلك حقيقة مرة وصادمة قد يصعب القبول بها … لكنها هي واقع الحال بكل أسف .

ومع أهمية مسألة العدالة، هناك مسائل لا نتوقع أن تجد لها حلا عادلا، وهناك أحداث مضت ولا يمكن العودة بالتاريخ نحو الوراء لمنعها، و الخيار المطروح في التعامل معها ليس الحل العادل، بل الحل التعويضي الممكن الذي يحقق السلام للأجيال القادمة ويمنع تكررها، والسؤال هو هل نستمر بالحرب طلبا للعدالة المطلقة في أحداث مضت، أم نقترب أكثر من التقوى وندفن هذا العداء بعد ادانة الجريمة ، ونبحث عن منافع مشتركة تعوض عنها ولو جزئيا، فالسياسة كما الدين تقول لنا أن نبحث عن المفيد والعملي والممكن وما فيه خير للناس، ونترك الحساب على ما مضى وانتقل مرتكبوه للحياة الأخرى لله واليوم الآخر ، وخيار الحرب كما هو واضح لن يحقق عدالة ايجابية بل فقط مساواة سلبية في الخسارة ،وسيكون خيارا خاسرا ومفجعا للجميع … نعم نستطيع أن نخسر ونجعل الآخر يخسر بنسب متفاوتة، لكن هذا ليس هو الخيار الأفضل… هل التمسك بالعدالة النظرية سيرفع المظالم عن أناس قضوا  مع ظروفهم ؟  أم سيتسبب بمعاناة آخرين ولدوا بعدهم، هل نعمل على دفن الماضي وصراعاتنا ونستبدل حالات الحرب بالسلام ، أم نعمل على تجديد صراعاتنا وتوريثها لكي نخسر السلام إلى الأبد … هل تموت القضايا بموت شخوصها أم تورث وتتراكم …؟

علمتنا أوروبا القومية درسا هائلا في العنف والحرب والجريمة، وبعده في تجاوز هذا العنف وهذه الحرب، هل نسير وراء الأصولية التي تؤسطر الصراع وتفصله عن تاريخيته وشخوصه وترفعه نحو المطلق، أم نسير وراء الواقعية البراغماتية التي تعتبر قضيتها الأولى هي الإنسان الحي الراهن …  نعم هنالك مدارس فلسفية وفقهية كثيرة، ولكنها غير متساوية سياسيا وحقوقيا ودينيا وأخلاقيا، ومتباينة النتائج العملية …

( وأن تعفوا هو أقرب للتقوى )

(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

( أتبع الحسنة السيئة تمحها وخالق الناس بخلق حسن )

الحدث التاريخي الأهم تأثيرا كان قيام اسرائيل كنتيجة للحرب  وليس التفاوض، والذي استنفر روح العداء، وولد كل هذا الشحن الرمزي الهائل، الذي يستعمر الوعي في كلا الطرفين … والعودة عن هذا تتطلب مرحلة انتقالية، يعتمد فيها التوقف التام عن كل مظاهر العنف والحرب… واعتماد حل الدولتين، حتى لو لم يكن هو الحل النهائي او الكامل والعادل .. بل باعتباره مرحلة لتثبيت الهدنة واقرار السلام ، تتبعها عمليات انفتاح تمحو الحدود والحواجز، نحو صيغ جديدة للتعايش ضمن اتحادات اقليمية وعالمية متطورة ومتوسعة … ليكتشف كلا الطرفين مدى حاجته للتعاون مع الآخر من أجل ذلك، ومقدار الفائدة التي سيجنيها منه، ومدى أهمية ذلك وفعاليته وتأثيره على العالم.. فيعيد تموضعه وتعريفه لنفسه من خلالها باستمرار ويطورها ويتطور معها وجودا وهوية.

بدل أن نستمر في الصراع ونسير عكس التاريخ في مسار انقسام وصراع وثأر وانتقام … من واجبنا أن نفهم دورنا التاريخي الأخلاقي الإنساني في تعزيز العولمة وتوحيد العالم، والمساعدة على القفز فوق الحدود وايجاد الصيغ الحقوقية والأخلاقية التي تحقق وحدته، ونعيد موضعة شعوبنا بشكل يتناسب مع هويتها ومصالح الانسانية عامة.

أي الاتجاه بعكس اتجاه الصراع اليوم الذي يأخذ طابع صراع أصوليات أكثر فأكثر، بعد عقود من قيام الدولة والهجرة والتهجير.. وكل الأسباب التي تساق لتخليد هذا الصراع، يمكن أن تكون بالعكس مبررا للتقارب، وكل حرب ستكون زيادة في تعقيد هذه المسائل وتسعيرها، وإذا سقط خيار الحسم العسكري يبقى خيار الحل السياسي … الذي يتوقف على التفكير خارج الصندوق، وإطلاق مبادرات تعوض في فوائدها عن الخسائر السابقة و تبدد هواجس الطرفين… وهذا منطقي في حقل السياسة… لذلك نرى أن حل مسألة الأرض والهوية والحقوق التاريخية يمكن أن يحصل ضمن مسار توحيدي اقليمي … يعطي لشعوب المنطقة جميعا ذات الحقوق والحظوظ في الاحتفاظ بالهوية الثقافية، مع تمتع بالحقوق السياسية والاقتصادية المتساوية… وهذا متناسب ومتناغم مع مسار التاريخ والعولمة الرأسمالية، فالمزيد من الوحدة ومن الرأسمالية والعولمة تعني المزيد من السلام والاستقرار .

اليهودي كما  المسلم . هو انسان ليبرالي بامتياز، ومتفرد ولديه نزعة فردية واستقلالية عالية جدا … وكل يهودي في العالم يظن أنه هو اسرائيل (كما كل سوري يظن أنه هو الثورة) … فإسرائيل هي عشيقة كل يهودي التي لم تستطع أن تتحول لزوجة يستقر اليها، أو يكتفي بها رغم عشقها، لذلك هو يحرص على أن يحتفظ بزوجته القديمة أيضا، ويعيش دوما هذا التنازع بين هويته الغير متمركزة وبين دولته المتطلبة… بينما يحمل كل عربي عروبته وصحراءه الملتصقة به التصاقا أبديا أينما حل، فينقل هويته معه نحو كل الأماكن وينشرها حيث سكن، ويطبع بها كل عشيقة يعشقها …  و نتيجة التنافس بين هاتين الثقافتين لن تخضع فقط لمقياس الحجم ، بل لمقياس المركزية والتمركز … في حين أن تشاركهما ربما ينتج عنه الكثير مما يقع في حقل المبدع والجديد  … بالنظر للتكامل والتشابه الملحوظ بين الشقيقين اللدودين ( أولاد العم ).

من غير المنطقي القول أن الشعب اليهودي لا ينتمي لهذه المنطقة، أو أنه ليس جزءا من تاريخها .. وبالتالي إلغاء حقه بالعيش فيها، ومن يتحدث عن صراع ديني يلغي حقيقة التشابه الديني والعقيدي الذي يقر به القرآن الكريم، ومن يتحدث عن صراع وعداء تاريخي فهو يتنكر للتاريخ، ومن يتحدث عن صراع وجودي هو يكذب الجغرافيا والديموغرافيا، فكيف لشعب صغير أن يلغي وجود شعب بمئات الملايين، أما من يتحدث عن صراع أسطوري ورمزي فهو يقترب من المعاش الذي تسببت به روح الحرب وحاجاتها وأيديولوجياتها، ومن يقيم الفصل بين الشعب الفلسطيني و الشعب العربي يحدث أمرا مصطنعا يكذبه كل شيء في الوقائع…  فحجم إسرائيل وتموضع اليهود في المنطقة لا يتجاوز حجم مدينة عربية واحدة، وقد كان نصفهم يسكون أحياء في المدن العربية المجاورة .. وعدد المهجرين الفلسطينيين للجوار بنتيجة الحرب يقل كثيرا عن عدد مهجرين آخرين داخل البلدان وخارجها لأسباب اقتصادية وسياسية أخرى … نذكر منهم ملايين العراقيين واللبنانيين والسوريين والمصريين والسودانيين …

أما إذا تمتع اللاجئون بذات حقوق المواطنة أينما سكنوا ضمن شكل اتحادي اقليمي، وبحقوق التنقل والسفر والزيارة والاستثمار والعمل في كل المنطقة، وحملوا ذات الوثائق والجوازات، فهذا يجعل أغلب أسباب شعورهم بالاغتراب والتهجير في طريقها للتلاشي … بالتزامن مع تلاشي الروح العدائية والممارسات العنيفة … وبوجود تداخل سكاني  عربي يهودي وبالعكس ، وبوجود مناطق استثمار وتطوير وتجارة مشتركة  ومفتوحة … تكون الحدود قد تحولت بحكم المصالح لحدود سلمية، محروسة بالمنفعة، ومفتوحة أمام الطرفين .. فلا يهم بعدها لون العَلم الذي يرفع فوقها، فطريقة استخدام الأرض وحق الانتفاع منها يقلص كثيرا مسألة السيادة السياسية عليها .. وبعد ذلك تترك لآليات السوق الرأسمالي حل المسائل المعلقة الأخرى .. على أن تبقى القدس القديمة المقدسة مدينة مشتركة ومفتوحة للجميع. فموضوع القدس موضوع يتعلق بمشاعر مليارات البشر التي تدين بالديانات السماوية ، وليس بشعب قومي محدد، لذلك لا يمكن حسمه بالقوة.

من الهام ادراك حاجة الشعب اليهودي للحصول على دولة مستقرة في المنطقة، بعد شتات طويل، ومن المهم أيضا تطمين العرب أن هذه الدولة لن تكون دولة عدائية وتوسعية، ومن المفصلي تعويض المهجرين الذين فقدوا وطنهم ولجأوا للدول المجاورة بسبب ذلك، وجعلهم يتمتعوا بحقوق مواطنة وظروف معيشية لائقة ومحترمة، ومن المهم أيضا أن لا تكون هذه الدولة وحيدة أو صافية الهوية، وأن يكون الوجود العربي فيها مكون أساسي دستوريا، وأن تكون مفتوحة للزيارة والعمل أمام الجوار، وأن يكون وجودها ضمن منظومة أمن وتعاون واتحاد أوسع يسير في ركب الانفتاح والعولمة.

لذلك من حيث المبدأ يمكن الاعتراف بدولة اسرائيل كدولة عبرية للشعب اليهودي (تعترف بوجود أقلية عربية فيها دستوريا ) والأفضل ضمن نظام أو اتحاد اقليمي أوسع، يضمن لها أمنها، ويضمن سلوكها ضمن مسار تعاوني تكاملي في المنطقة، يحفظ للمنطقة تنوعها وصيغ العيش التشاركي فيها بين كل المكونات والتنوعات العرقية والدينية، وتكون نموذجا لصيغة اندماجية اقليمية جديدة تشكل محطة في الطريق نحو العولمة … أو من الممكن اعتماد صيغة أخرى للاعتراف بدولة اسرائيل (ذات الهوية) التي تعبر عن هوية أغلبية مواطنيها ( اليهود ) ، كحق من حقوق الأغلبية لا ينتقص من حقوق الأقليات، إلى جانب دولة فلسطين الموازية التي تحتوي أقلية يهودية… لكن من الصعب الاعتراف بإسرائيل كدولة خاصة بالدين اليهودي، فهذا يجعلها دولة دينية، ويستتبع تعريفات للدول الأخرى على اساس ديني ومذهبي (فلسطين دولة للمسلمين ).. ويكرس تداخل الدين بالسياسة، ويحول كل صراع سياسي اعتيادي يمكن حله بوسائل السياسة لصراع ديني، مما يلغي مبدأ التسامح العقيدي والتعايش والديمقراطية وحقوق الانسان ..

وصيغة الحل الذي ستحل به هذه القضية سيكون ملهما، ويشكل نموذجا يعتمد لحل أغلب القضايا ذات الصلة ضمن نموذج للتعاون والتشارك والاندماج، فالاعتراف بالخصوصية والتمايز لا يمكن أن يتم على أرضية العداء والتناحر الذي يعني الإلغاء … ويبدو أن هذا هو قدر المنطقة، ودورها التاريخي الذي يعكس موقعها الجغرافي بين القارات الثلاث، والذي جعل منها مفاعل تلاقح ومركز صراع وتداخل وتلاقي ينتج عن صراعاته وتناقضاته ابداع حضاري قيمي ديني هو الأرقى والأغنى عبر التاريخ .

النتيجة البسيطة التي شعر بها كل سوري أقام في تركيا، هي مقدار التقارب والتشابه بين الشعوب، ومقدار سخافة وسذاجة الأيدولوجيات السياسية القومية، التي تضخم مسألة القومية والوطنية والسيادة، وترفعها كمقدسات تستعمر فيها الشعب وتعسكره، وتحوله لجيش في خدمة سلطتها، وتبرر بها كل المصاعب والأزمات والفشل والتخلف، وعمليات القمع والاستبداد … تركيا ( الدولة الاستعمارية التي احتلتنا 400 سنة ) تحتضننا وتحترم ثقافتنا وتحتفظ بتاريخنا المشترك، وتعاملنا كمواطنين ضيوف، وهذا هو (لواء اسكندرون السليب) الذي تباكينا عليه ينعم أهله بما لا ينعم به السوري في سوريا، ولا يفكرون أبدا بترك وطنهم، وها هو (الجيش العربي السوري حامي حمى العروبة) يدك المدن السورية والقرى، ويعتقل ويعذب ويعدم ميدانيا المرأة والطفل والضرع والشجر … وها هو الانسان السوري يركب الأخشاب والأمواج ليطلب اللجوء في طول العالم وعرضه … كيف لنا أن نصدق مرة أخرى هذه الأيديولوجيات التي تستثمر في العداء، فلا تنتج إلا الحرب الداخلية… لقد بدى لنا واضحا أن العداء هو مفعول الأنظمة والسياسيين والأيديولوجيات… وليس أبدا فعل الشعوب …

وعندما زرت الجرحى في مشفى صفد، وكلهم من أصحاب الإصابات الخطيرة جدا ولمست كيف يعامل الأطباء والممرضين اليهود، جرحانا ونوع العلاقة القائمة بينهما … أدركت فعلا امكانية تحقيق السلام بمبادرات بين الشعوب، وعدم فائدة انتظار أي من الأنظمة أو الحكومات … فقد غيرت بعض المبادرات الانسانية المزاج العام على طرفي الحدود، وهو ما لم تستطع الأنظمة فعله رغم أنها وقعت الاتفاقيات منذ عقود، فالسلام ليس وثيقة بل سلوك. والسلام لن تحققه الأنظمة التي تستثمر بالأزمات بل تفرضه الشعوب عليها عبر المؤسسات الديمقراطية، وهذا ما عزز فكرتي في صنع السلام عبر اجراءات ومبادرات متبادلة بين الشعوب، وخلق حالة مجتمعية اقتصادية تفرض نفسها على السياسيين، الذين يبدون عادة أقل حرية وقدرة وجرأة على التغيير ..  فالثورة تصنع السلام وتغير الوقائع، والحرية والديمقراطية هي من تحرسه، وليس الاستبداد والقمع الذي يولد العنف والكراهية ويتعيش على الحروب…

في المشفى طفل من ريف دمشق الجنوبي، مصاب اصابة بالغة( فقد يده وأعطبت الأخرى وتفتت عظام ساقاه وتضررت عيناه تماما ) … سألته كيف أصبت؟  قال لي : برميل القاه النظام عندما كنت ألعب ، هل أنت مع الثورة؟ … قال هل هي عيب أم حرام نعم خرجت بالمظاهرات … ماذا تريد مني أنا عائد لسوريا ؟ قال ببساطة خذني معك … قلت انشاء الله عندما تستكمل علاجك … هل تطلب مني شيئا آخر ؟.. قال بندقية ام سكستين لكي أقاتل فيها بشار الأسد الذي دمر حياتي ودمر كل شيء من أجل الكرسي…

وهناك امرأة من ريف درعا تعرضت للقصف أيضا وشهدت ابنها ميتا بجانبها قبل أن تفقد الوعي .. وهي ترقد في السرير تبكي ليس ابنها ويدها وقدمها التي فقدتهم، بل مصير أسرتها التي لا تعلم لا هي ولا هم عن بعضهم شيئا، وتتذكر دوما أن ثلاثا من بناتها يحتاجون للغسيل الكلوي …

الطفل جعلني أشعر بروح الثورة التي يتمتع بها شعبنا، واصراره الذي لن ينكسر على الحرية والكرامة والعودة، والمرأة جعلتني ادرك حجم الواجب الذي يقع علينا، والمسؤوليات التي يجب أن نتحملها في ايجاد مخرج من هذه المذبحة …

وزيارة المشفى جعلتني أقول لمن يتحملون مسؤولية الدفاع عن الشعب اليهودي: أن سلاح أطبائكم العسكريين أهم وأمضى من كل أسلحتكم الأخرى، التي يبدو أنه لن يبق لها عمل قريبا، قلت هذا رغم كل التدهور والمأساة التي تعيشها المنطقة ، الذاهبة لحرب اقليمية واسعة… نتمنى أن نتمكن من تجنبها ، لأنها لن تحسم أي مسألة من مسائل المنطقة ، بل ستدمر المنطقة بمشاكلها فوق رؤوس أهلها . ونحن في سوريا قد تعلمنا هذا الدرس جيدا كما أظن .

النتائج العملية :

ايمانا من بمبدأ الشفافية ، والعمل بمشاركة المجتمع كمبادئ لا بد منها في ممارسة العمل السياسي الديمقراطي ، أقوم باطلاع الرأي العام على كل حيثيات وتفاصيل ما أقوم به ، وفي هذه الخاتمة هناك مستجدات هامة أتمنى أن نتمعن بها لنرسم خطانا في المرحلة القادمة

كان الهدف الأساسي للزيارة من جهتي معرفي وتقيمي ، واستكشاف آفاق وامكانية ومدى التعاون والسلام الممكنة … والطرق والمبادئ والمحددات التي يجب السير عليها لتحقيقه.. ودراسة الوضع السياسي والمجتمعي والثقافي في اسرائيل وتقييم امكانات البناء عليه، وتحديد نقاط الخلاف التي يجب العمل على تجنبها وتبديدها.

نتيجتها المباشرة هي كسر الجليد، أي تجاوز تابو تحريم التفاوض والتعامل المباشر مع (العدو الصهيوني) ، واعادة التفكير في الممنوع التفكير فيه ( بعد أن قامت المقاومة والجيش العربي السوري بتدمير سوريا دولة وشعبا وخلطت بل قلبت خريطة العداء والصداقة رأسا على عقب ) ، مما أجبرنا على الخروج خارج الصناديق المغلقة للعقل الدو غمائي، وتحرير العقل القادر على رسم مسارات جديدة .

فتح أقنية التواصل مع الطبقة السياسية و البحثية والاعلامية ، واطلاق الحوارات والمباحثات من أجل تقريب وجهات النظر حول القضايا المشتركة الاستراتيجية منها والملحة .

فتح بوابات التعاون ومحاولة المباشرة باتخاذ خطوات تنفيذية تدعم السير على هذا الطريق وتعزز فعالية المؤيدين لهذا الخيار  .

من ناحية شخصية: كانت الزيارة بما تمثله من مواجهة مع الآخر وامتحان للذات وتقييم للآفاق ناجحة … وقد حققت النتائج المرجوة منها … وهي ما تحدثت عنه فيما سبق في هذا النص …

على الطرف الاسرائيلي أعتقد أنهم قد تجاوزوا حالة التريث والترقب، غالبا بسبب انقلاب الأوضاع جذريا على الطرف الآخر من الحدود… كما تجاوز اليمين المتشدد الحاكم مرحلة التردد والحذر والتشكيك في نجاعة أي جهد تعاوني أو مسار للسلام، وطغت بصعوبة الرغبة في السلام التي تعبر عن موقف أغلبية المجتمع( الذي يصوت مع ذلك لليمين المتشدد) طالما يلمس عدم توفر شريك أو فرص واقعية للسلام .

كما نجحنا في تبديد الصورة السوداوية عن الحالة في سوريا، التي صنعها الاعلام الذي يغفل المجتمع السوري ويركز على داعش والارهاب والنظام . وبينا أن موقفا جديا من دول التحالف يمكنه أن يغير الأوضاع جذريا، ويعيد الوجه الحضاري لسوريا بالرغم من هول ومأساة ما يجري . وشرحنا كيف أن اهمال الملف السياسي السوري ، قد حوله لملف أمني هو الأكثر خطرا … لكنها أفكار وقناعات تنتظر الإخراج والتجسيد، ولن نلمس نتائجها حتى تتم مساعدة الشعب السوري على استعادة حياته المجتمعية والسياسية، التي حرم منها بسبب الحرب والحصار والتهجير والمجاعة .

من ناحية مشتركة : بنتيجة اللقاءات والحوارات الرسمية والخاصة ومع أغلب الأطياف حدث تقارب في وجهات النظر، يمكن أن يبنى عليها لرسم مسار تنفيذي، وقد اتخذت القرارات اللازمة للمباشرة بالسير فيه  من قبل الجهات المعنية في اسرائيل،  لكن لم توضع حتى الآن آليات التنفيذ … وهم المعنيون بالإعلان عن ذلك بالطريقة التي تناسبهم  نظرا لحرج الدول العربية المشاركة بالتحالف من ذكر تحالفها مع اسرائيل . فزيارتي كما قلت زيارة شخصية ، وكل اللقاءات حتى مع المسؤولين لن تتخذ الطابع الرسمي لهذا السبب ، ولم ولن أدعي غير تمثيل وجهة نظر ، لكن التعامل الرسمي يحتاج لوفد شرعي ومفوض من الطرف السوري الذي يمر الآن بمرحلة الدولة الفاشلة وغياب الشرعية والتمثيل وتنازعها ، وبسبب غيابه كان لا بد من المبادرات  من دون غطاء شرعي ورسمي ، وكل ما قلته لا يلزم أحد وهذا واضح لدى الطرفين.

من الناحية السياسية لم نقدم بعد للشعب السوري ما هو بأمس الحاجة إليه، وما ينتظره على أحر من الجمر  .. وهو قرار دولي بالتدخل الايجابي لدعم اعادة بناء سوريا، من دون اجرام ولا مستبدين ولا تطرف أو ارهاب، والمباشرة بإحداث مناطق آمنة ينتقل اليها المواطنون، ويعيدوا بناء مجتمعهم ودولتهم بمساعدة دولية، بالتوازي مع استكمال مسيرة التحرير من عصابات النظام ومن منظمات التطرف والارهاب. فالمعادلة بسيطة إذا كنتم تريدون شركاء على الأرض في مكافحة التطرف ، الذي لن يهزم من دون استعادة الأرض التي يحتلها، فمن واجبكم أن تحموا حلفاءكم على الأرض من ضربات النظام، الذي يدمر كل وجود مجتمعي … وتساعدوهم على بناء قوتهم وسلطتهم واستعادة بلدهم، عندها لن يكون هناك ارهاب ولا تطرف ، وستقع هذه المهمة على عاتق الشعب الذي يبحث عن الأمن والاستقرار، والأقدر على انهائها عسكريا وأهم منه أيديولوجيا. فالشريك الحقيقي هو الشعب السوري ولا أحد غيره .

هذا يستوجب متابعة العمل مع بقية أعضاء التحالف الدولي، الذين سيسهل أكثر التكلم معهم بصوت واحد، من خلال مشروع شامل للمنطقة، ومسار للسلام والاستقرار فيها، تنخرط فيه كل القوى الحليفة، وقد وضع تصور أولي للتحرك السياسي والديبلوماسي المطلوب .

الموقف الدولي اليوم قد أصبح واضحا، لن ندعم عسكريا سوى من يحارب الارهاب، ونعتبر أن الحرب مع النظام ستقوي الارهاب في هذه المرحلة ، خاصة وأن التطرف يجتاح  مواقع الجيش الحر المعتدل دون مقاومة تذكر ويستولي على سلاحهم ومواقعهم ، كما أنهم يعتبرون كل أيديولوجيا اسلامية هي حاضنة للإرهاب، ولا يحكمون على السلوك  بل على الأيديولوجيا ، ولا يريدون أن يفهموا أن الارهاب سلوك ، وأن أغلب المتشددين يدافعون عن أهلهم بعد أن حرموا من وسيلة فعالة أخرى ، هم يقولون أن كل دعم عسكري قد يقع في يد المتطرفين ، لذلك ليست هناك استراتيجية لتقديم الدعم لمن يريد اسقاط النظام حتى لو كان معتدلا ، وهذا يجب أن يكون مفهوما من الشعب السوري الجريح،  والذي يعرف أن عدوه أولا هو النظام وثانيا هو النظام وثالثا هو النظام ، وعليه أن يفهم أن الادارة الأمريكية الديمقراطية تسير باندفاع متهور لعقد تحالف مع ايران ، لتجعلها قوة عسكرية تقف في وجه التطرف السني وتقارعه ، ولن يوقف هذا الاندفاع سوى الكونغرس ذو الغالبية الجمهورية ، إذا قدمنا مشروعا آخر وخيار آخر لتحقيق الاستقرار واستعادة الأرض من سيطرة المتطرفين ، فالمنتظر هو حالة من التعطيل للدور الأمريكي طيلة سنتين قادمتين … وهذا أفضل من تمرير التحالف مع إيران . ويجب أن نقوي الموقف الجمهوري ونحافظ عليه ، وهذا يتطلب مبادرات تقدم خيارات فعالة ومفيدة أخرى تحرج الديمقراطيين ، ولا تعتمد على مطالبات عسكرية لأنها ستتقاطع مع رفض الادارة وتتعطل بوضع مليون شرط وشرط . ولذلك فالأفق المتوقع للتعاون مع الغرب عموما ليس طلب الحصول على الدعم العسكري ،بل الحصول على الحماية للمناطق التي لا يحكمها التطرف ، والحصول على الدعم السلمي لبناء واستعادة المجتمع الذي هو الوحيد الضامن للاعتدال والاستقرار والسلم ، عندما يمنح فرصة لاستعادة حياته المدنية وأمنه ، فنحن لن نطلب السلاح  ولن يقبل طلبنا ، بل منع النظام من قصف المناطق الآمنة ضمن أي صيغة متفق عليها عبر التحالف أو حتى عبر الأمم المتحدة لكن من دون صلح مع النظام .  وسوف نبدأ من المنطقة الأكثر حساسية وهي الجنوب بما يمثله من تهديد لاستقرار الأردن ولأمن اسرائيل ، وهذا فقط ما يعطي دفع ضروري لتقديم نموذج إذا نجح يمكن تعميمه في سوريا ، فإذا نجحنا في بناء منطقة آمنة للسوريين داخل وطنهم فنكون قد حققنا ثلاثة أهداف ملحة لأهل المنطقة ولجيرانهم ، من دون خسارة أهداف الثورة ومن دون حرب  ولا تدخل عسكري ، بل فقط بقرار سياسي  وفريق تنفيذي  وصندوق دعم مالي شقيق … فالمجتمع قادر على اقناع المقاتلين بالتوجه لجبهات القتال ، اذا تمكن من حفظ حياة أسرهم وأهلهم واستعادة الحياة الآمنة ودورة الاقتصاد التي ستمكننا من توسيع رقعة السلطة الاجتماعية ودعم شبابنا الثائر ، وهي الطريقة الوحيدة المتبقية لمنع الاستسلام للنظام الارهابي أو للتطرف الارهابي ، وهي الخيار السياسي الوحيد الممكن حاليا … غير خيار التطرف والأصولية . أو الانبطاح والاستسلام للنظام وهيمنة ايران على الشرق العربي برمته . 

أخيرا لابد من موافقة وانخراط طيف واسع من السوريين في هذه العملية، ومن دون ذلك ستبقى هذه الزيارة  وكل ما سبقها وتبعها مجرد جهد شخصي نظري ومعرفي، ولن تتحول لمشروع ومسار سياسي يتجسد واقعا، لتنعم به الشعوب التي تعبت من الحروب … وهذا ما انتظره وأتوقعه وأعمل عليه.

أحيانا تبدو المسائل معقدة، فقط لأن الأطراف المعنية بها لا تستطيع الوصول للحقيقة ، أو ترفض مشاهدتها بسبب موقف مسبق  .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.