يثب

رد على رد المحامي ايهاب عبد ربه

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

السياسة جزء أساسي من حياة أي إنسان ، وفي النظم الديمقراطية لا يؤجر المواطنين رؤوسهم ومصيرهم ويسلموه لغيرهم من السياسيين المختصين ، ومن الطبيعي أن يكون الانسان طبيبا وسياسيا ومحاميا وسياسيا ، فالسياسة ليست حكرا على خريجي معهد العلوم السياسية لأنها ليست علما ، ولا هي حكرا على أهل العلم من الفقهاء لأنها ليست دينا … بل هي الجزء العام من نشاط كل فرد منخرط في مجتمع ويبحث من خلاله عن حصته من الثروة والسيادة ، وكل مفهوم آخر هو مفهوم نخبوي غير دمقراطي وغير ثوري، لأن الثورة صنعها عمال وطلاب وأطباء وليس سياسيين ولا إخوان مسلمين ، ولا مثقفين قوميين …

وفي المقابل يمتلك كل سوري حق الشتم كحق من حقوق الانسان مفتوحة له صفحات التواصل الاجتماعي، ويعبر به عن ثوريته في ثورة تحولت لطوشة وميدان لتبادل الشتائم ، فقد حضرت كذا مناسبة اعتصامية سورية في سوريا وفي أوروبا… والصفة المميزة لها هي أغاني شتم النظام من قبيل يلعن روحك يا حافظ وما جر جرها والتي خلت جميعها من أي تعبير انساني حضاري … لا ضير لأن حرية الرأي غير مشروطة بالصحة والخطأ ولا بالأدب وحسن الملفظ ، فلكل انسان أن يعبر عن نفسه كما هي ، والأفضل أن يخرج ما بداخله ، وهذا محفوظ كحق في الدساتير والقوانين الديمقراطية للدرجة التي تصل فيها لتهديد السلم الأهلي بشكل جدي ومباشر .. عندها يتدخل القانون وبشكل استثنائي وبناء على شكوى واتهام شخصي بالعدوان .

كما يمكننا تبادل الكراهية ورفع شعارات التحريض الايديولوجي ما شئنا في سياق حربنا مع الأعداء الداخليين والخارجين ، ولكن أن نحول كل رأي لأيديولوجيا وسلاح في المعركة، فهذا سيحطم عقولنا ، لأن المعركة طويلة وتحتاج لإعمال العقل ، وعملية اتهام الآخر بمصائبنا تجعل من ثوراتنا تكرار للبؤس والتخلف ذاته لأنها ستحتاج لآخر نحاربه وليس لذات نغيرها فالثورة ليست حربا مع الآخر بل انقلابا على الذات … وبسبب وجود اليهود أخصامنا على أرض فلسطين هذا لا يعني أن نتهمهم بالشيطنة والخبث والغباء وننعتهم بما يليق بفكرنا من تهم … لأنهم أكثر الشعوب قربا وشبها بالشعب العربي … وجيناتهم تشهد على ذلك . وبنفس الطريقة سنتهم الشيعة والعلويين والدروز والمسيحيين  والكرد والأرمن والسريان واليزيديين ، وننتقل من ضحايا قمع واستبداد لمجرمي حرب ومرتكبي جرائم ضد الانسانية ، إذا لم نستطع التمييز بين نظام ومؤسسة ذات أيديولوجيا وسلوك مؤقت وبين شعب ذو هوية يصعب تغييرها بسرعة ، فالنظرة النمطية المعادية لشعب كامل هي العنصرية بذاتها . وغدا أتوقع أن تلومني لو طالبت بالتعاون مع شعب ايران بعد اسقاط نظامه ومع العلويين بعد اسقاط نظامهم ومع شيعة لبنان بعد تفكيك حزب الله . لأنني اليوم أطالب الغرب بالتعاون مع السنة بعد تفكيك الحركات الارهابية التي تقود ( دفاعهم عن أنفسهم ) بالطريقة التي تعلن بها تلك المنظمات عن نفسها . أي عندما يتوفر غطاء مؤسسي وأيديولوجي معتدل آخر يلبي متطلبات هذا الدفاع … لأنه من دون هذه العقلية ستتحول الحروب السياسية لحروب ابادة جماعية لا تتوقف .

يهود أوروبا وليس يهود أثيوبيا ، ساهموا في قيادة العالم  لأنهم في بلد الحضارة والتقدم ، وليس لأنهم تسببوا بالحضارة ، وقد أعطوها من ثقافتهم ولم يصنعوها ، لكونها رأسمالية وهم كذلك منذ زمن بحكم دورهم وتخصصهم التاريخي … والبحث في أعماق المسألة اليهودية ، وفي تطور العداء للسامية سوف يخلص لنتيجة بسيطة جدا (اليهود وجدوا أنفسهم في مقدمة النهضة والحداثة وفي قيادتها ، ولكنهم دفعوا ثمن ذلك باهظا جدا على يدها … )

نعم لقد خرج 800 الف فلسطيني من ديارهم في سياق المعركة التي دارت على أرضهم وخسرها طرف وربحها آخر ، وبقي من أراد البقاء وهو يعيش تحت الاحتلال بظروف أفضل كثيرا من التي عشناها نحن تحت الحرية في ظل قيادة البعث العربي الاشتراكي حزب العمال والفلاحين … وصغار الكسبة يا رفيقي .

الهجرة الأهم التي جعلت من الممكن قيام دولة اسرائيل هي الهجرة أثناء الحرب العالمية الثانية وكل ما سبقها كان مجرد محاولات لا قيمية ديمغرافية لها مجرد بالونات هوائية توحي بأن ما جرى هو حصيلة خطة كانت تستدعي أن يرتكب الألمان جريمة المحرقة بحق الشعب اليهودي لتجبره على تأسيس اسرائيل ( فأي قيادة يهودية ذكية هذه التي تخطط لقتل ثلث الشعب بأبشع صورة … والقادرة على توجيه نظام كنظام هتلر وموسوليني وهيرو هيتو )

لا توجد أي أيديولوجيا قادرة على تحريك عدد كبير من الناس لهجرة أوطانهم ، لقد جربنا الهجرة وخبرناها وأنت أيضا … فموضوع  الهجرة لم يكن خيارا ولا اختيارا في اغلبه ، ومن جاء طوعا عاد عن هجرته وهو ما حدث لعدة هجرات طوعية في بداية القرن ، وقيام دولة اسرائيل قبل هجرات الحرب كان ضربا من المستحيل ، ومع ذلك استمرار دولة اسرائيل بعد قيامها عام 1948 والتي لم يتجاوز سكانها مليون يهودي اعتمد على هجرة اليهود العرب الذين شكلوا نصف سكانها اللاحق ،  وهذا ما كان ليحدث لو وجدت حكومات عربية عاقلة وتعاملت مع مواطنيها اليهود بما يليق بالمواطن ، ولولا موجة الكراهية والترهيب الشعبي التي مورست عليهم … فكما هجر 800 الف فلسطيني ، هجر بالمقابل 800 الف يهودي عربي عاشوا طيلة الحكم العربي الاسلامي في أوطانهم التاريخية…  وسوف تقول أنهم خرجوا بإرادتهم وبتحريض من دولة اسرائيل ، كذلك يقولون في اسرائيل أن الفلسطينيين خرجوا بإرادتهم وبتحريض من الجيوش العربية وتخويف من الاعلام العربي ، وأن أملاكهم محفوظة ولها سجل خاص بالغائبين ، وإذا طالبنا بها سيطالبون بأملاك اليهود في الاسكندرية وبابل ومراكش ودمشق وحلب وصنعاء . هل نسيت بسرعة حارة اليهود في دمشق وحلب … أليسوا من شعوب هذه المنطقة ويربطهم بها أكثر من رابط ؟

يستطيع كل طرف أن يسمي أفعاله بما يشاء ويصف أفعال الآخرين بما يشاء لكن التوصيف الموضوعي لا يأتي من عقل آيديولوجي تعودنا عليه ونكرره في كل قضايانا … فكل شيء مؤدلج وكل فعل هو نضال بما فيها نشر الغسيل … فالرفيق المناضل صاحب الثورة المستمرة يمارس نضاله في كل وقت وفي كل شيء ودوما وأبدا … لأنه رفيق ولأنه مناضل ولا يسمى كذلك إلا لأنه يؤدلج أي موضوع ويربطه بمرجعياته الصراعية المقاومة والممانعة والمتانحة …  وهذا هو منطق العقل الدوغمائي التضادي الذي ما يزال يعبر عن نفسه في الفكر السياسي المعاصر والمسيطر على المثقفين من دون العامة الذين خبروه وملوه ، ولا يستطيع هذا العقل لوحده الخروج خارج تقييمه الثنائي الضدي للخير الذي هو الذات والشر الذي هو الآخر … لاحظ أن النظام وصف الثورة بالإرهاب منذ اليوم الأول ، والعالم اليوم بعد أربع سنوات توافق على حربها باعتبارها ارهابا وقاعدة، خاصة بعد أن قضت نهائيا على ما كان يمسى الجيش الحر، و قد تشكل بالأمس تحالف دولي للحرب ضد الثورة… وباشر ضرباته عليها بعلم وتنسيق النظام ومشاركته وبالاعتماد على إيران أيضا ،  ولا حظ أيضا أن عدد الأجانب السنة في سوريا والعراق لا يتجاوز العشرة آلاف مقتال أغلبهم عربان .. وادعاء قدرتهم على قيادة الثورة الشعبية السورية من دون ارادتها ادعاء هزيل . لأن الثورة قارعت جيش النظام وحزب الله والعراق وايران معا …

أي أن النظام كان يمتلك بعد نظر ورؤية ثاقبة ومعرفة بالغيب ، وأدرك أن الثورة ستتحول لإرهاب  … من خلال خبرته القمعية في حماه وغيرها وخبرته في خفايا ثقافة هذا الشعب ، وهذا ما غاب عنا تماما نحن من حملنا لواء الديمقراطية والحداثة والتقدم والسلم الاجتماعي والتعايش ، لكن من دون وسائل كفيلة بتحقيقه … ستقول أن سلوك الدول الحليفة هي السبب ، سأنقلك لليبيا التي ساعدها الناتو وقتل القذافي فماذا جرى ، ثم أنقلك لليمن وغيرها تونس والجزائر وغدا مصر … كلها شعوب ستتحول للإرهاب من دون نظم القمع لماذا يا ترى ؟؟؟ هل هي مؤامرة صهيونية أم خلل في الفكر والعقل والثقافة والموروث والسياسة … أليس الخلل والفشل في قيادة الثورة هو سبب انحرافها ، وماذا فعلنا بالقادة المتسببين ؟ هل هو خلل أشخاص أم خلل عقلية وثقافة …

الثورة ليست فقط القدرة على شتم الخصم بأبشع العبارات ، ورميه بأكبر الحجارة ، الثورة هي القدرة على الوقفة النقدية الموضوعية لمراجعة الذات والآخر والواقع من أجل تغييره نحو الأفضل … نحن من رفعنا لواء التغيير الديمقراطي و حملت التظاهرات الأولى شعاراتنا التي زرعناها خلال سنوات نضالنا وسجوننا في سياق ما سمي بربيع دمشق ، وترجم عمليا بربيع عربي واعد !!!  نحن نشعر أننا قد قدنا هذا الشعب في طريق غير محسوب وبوسائل غير صحيحة … ونفكر أحيانا هل كانت هيئة التنسيق أقدر منا على الحكم ، وهل أحكامها فعلا خاضعة للمخابرات ، أم لشيء آخر لا نريد رؤيته كامن فينا كشعب وثقافة… وهل فعلا قدمت الثورة ما يبحث عنه الشعب السوري، وفتحت بوابة الانشقاق أمام كل مكوناته … لكي تنجح الثورة من دون عون خارجي ،  أم انغلقت بسرعة وتقوقعت على شعارات طائفية وانتقامية ، مدعومة بممارسات واعدة بالمجازر والتطهير ، وهي من ساهمت في تحويل الثورة الشعبية ضد النظام لحرب أهلية طائفية لا يعمل فيها سوي العقل الحاقد ولا يقودها سوى الأكثر بربرية … حتى لو كان ذلك ردة فعل على سلوك النظام ومن معه ، فالثورة يجب أن تتوقع ذلك وتتعامل معه بطريقة تحفظ أهدافها ..

ماذا ستقول لملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم ومساكنهم وأرزاقهم وأوطانهم .. هل هذا ما وعدناهم به عشية الثورة والدعوات المتكررة لها ؟؟؟ من تسبب بخراب حياتهم … فقط النظام ؟ وإذا كان النظام وحشا نائما فهل اخترنا الطريقة الصحيحة للقضاء عليه … النتيجة تقول نحن مسؤولون ومتسببون على الأقل بسبب عدم الخبرة وضعف القيادة ، وهذا يتطلب ثورة على الثورة أو مراجعة للذات والخروج خارج منطق الشتم والاتهام ، والانفتاح على كل الأفكار والآراء عسى أن يجعل الله لنا مخرجا مما نحن فيه ولا أمل قريب منظور في نهايته على الأقل لسنوات قادمة … فهل تطيق ذلك ، وهل يطيقه غيرك … يمكن لأي ثوري أن يكتب ما يشاء على صفحات الفيس وأن يقول أنا أبو الثورة وأمها … لكن ذلك يتحول لمزاودة عندما لا يقدم حلولا عملية لمسائل ملحة و معاشة يعاني منها ملايين الناس حتى الهلاك … تستطيع أمريكا محاربة القاعدة حتى آخر كردي سوري ، وتستطيع أنت أن تحارب النظام حتى آخر شاب متمسك بأرضه ولم يفر ، لكن أن نجلس بالخارج ونرفع الشعارات الرنانة ، ولا نتحدث بمنطق ومعقولية فهو استغلال وتجارة بدماء أفضل شباب سوريا … تفضل يا رفيق وحرر فلسطين … أو حمص والرقة … أو رجع اليهود للبحر أو رجع سكان مخيم اليرموك لمخيم اليرموك وليس لفلسطين . أو فلترجع  عشرة مليون سوري ومثلهم عراقي ولبناني ما خرجوا من ديارهم بسبب اسرائيل بل بسبب مقاوميها . صحيح لدينا مشكلة مع دولة مجاورة هي اسرائيل، لكن هذا لا يلخص كل شيء ولا يلغي مشاكلنا الذاتية … وهنا المصيبة التي تستخدم فيها القضية الفلسطينية كشماعة نعلق عليها كل خيباتنا وما أكثرها … هلا توقفنا عن استعمال هذه الشماعة … وبحثنا كيف نستطيع العيش معا كعرب ( شيعة وسنة ) قبل العيش مع اليهود … أعتقد أن كل مشاكل هذه المنطقة يمكن أن ترى بطريقة أخرى تخرجنا من هذا الصراع الأصولي القاتل الذي لا أفق له ولا قيمة أخلاقية ولا حضارية … وهو بالضبط ما قصدت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.