يثب

بمناسبة يوم المرأة

ثورة – 2   …  الثورة الاجتماعية

د. كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عملت الدول الخليجية على اتقاء شر الديمقراطية بدعم الأيديولوجيات والمجموعات الدينية التي تكرس وتعيد انتاج الاستبداد ، وتنصيبها في قيادة الربيع العربي … الذي طرح مسألة التغيير السياسي نحو الديمقراطية ، لكن هذا الاقحام المدفوع للتراث الممثل بأيديولوجيا هذه المجموعات وضع هذا التراث في مواجهة قاسية مع احتياجات العصر و ثقافة الحضارة الحديثة ، فأثبت بالتجربة العملية أنه قادر على كسب المعركة العسكرية بفضل أيديولوجيا الجهاد الفعالة جدا … ولكنه بقي غير قادر على كسب المعركة السياسية التي تحتاج لتوافقات مجتمعية منفتحة وحرة ومخالفة بشكلها ومنطقها للموروث المرتبط ارتباطا صميما بدولة السلطنة البائدة تاريخيا … والتي تجاوزها العصر .

 وبسبب اقحام التراث في السياسة وبسبب شموليته ( أقصد شموله لنظام المجتمع أيضا )، وما تسبب به من نكوص نحو الماضي على صعيد البنى السياسية وأهم منها البنى المجتمعية، التي كانت قد قطعت أشواطا بعيدة على طريق تبني نمط الحياة الحديث العصري المختلف جذريا في قيمه وروابطه . بسبب هذا الاقحام وهذا النكوص بدأت ملامح ثورة مجتمعية ثقافية تتكامل في مواجهة هذا النكوص الذي يفاقم التناقض مع معطيات الحياة الحديثة واغراءاتها التي لا تقاوم … وعليه أتوقع أن تواجه النظم الرجعية الاستبدادية العربية موجة ثورية أخرى ليس في صعيد السياسة فقط (تطالب بالتغيير الديمقراطي الذي يزعزع كيان نظمها )، بل في صعيد المجتمع أيضا (تطالب بتغيير بناه وثقافته وعلاقاته وروابطه )، وهي ما ستكون أشد وطأة عليه وأكثر فاعلية في تغيير البنى التحتية التي تقف عليها البنية السياسية الرجعية الاستبدادية القائمة … بعد أن ساهمت الثقافة الموروثة الرجعية هزيمة ارادة التغيير الديمقراطي أمام نظم الاستبداد  التي عادت بأشكال مختلفة، وبعد أن بات واضحا أنه من دون استكمال عناصر الثورة ومن دون شمولها للبنى الثقافية ، لن تكون قادرة على إنجاز مهمتها السياسية الديمقراطية .

وكما لم تنجح البنى السياسية الرجعية الدينية الجديدة في الهيمنة الشمولية من دون اعادة المجتمع للماضي السحيق بالقوة والقهر ومن دون التحول للإرهاب والبربرية … فإنه بالعكس من هذا من المتوقع  لثورة في صعيد الروابط المجتمعية والعلاقات الأسرية ونمط الحياة اليومي العادي أن تطيح بكل ما بني عليها من نظم اقتصادية وسياسية تنتمي لزمن مضى وباد … والتي أتوقع تكاملها فكرا وممارسة وأنصار ، ثم تسللها  خلال سنوات قليلة لدول الخليج التي تعاني من انسداد تام وتناقض متراكم في هذا الصعيد، وصل مرحلة الانفجار ، يعبر عنه الصراع الهائل بين الحداثة والتراث والذي يحدث داخل كل بيت بل داخل كل عقل …… والذي ستكون المرأة عنوانه الأبرز التي تتقدم في احتلال مكانة أكبر وأهم في الحياة المجتمعية تجعل منها شريكا الزاميا في تقرير سياسته ، وهو ما سيحدث انقلابا جذريا في البنى المجتمعية التقليدية الذكورية القائمة … وبهذا سيستمر التاريخ وتستمر قوى التغيير في دفع مساره التغييري الديمقراطي الليبرالي الكاسح الذي اجتاح العالم كله ، وتخلف عنه فقط العالم الاسلامي بسبب قوة بنى وثقافة الاسلام التقليدي وترابطها القوي مع الأشكال الذكورية التقليدية الاستبدادية … وهكذا  كل ما سعى الرجعيون للهروب منه سيقعون به على أهون سبب ، وسيدخل بيوتهم وغرف نومهم ، ويسرق أولادهم من حيث لا يحتسبون …

هنا ستلعب داعش دورا تقدميا جدا (لأنها هي التجسيد الصريح والمتكامل للموروث الديني السياسي والقضائي والاجتماعي المكرس رسميا على أنه الدين الصحيح ، والمطبق بشل ناقص وانتقائي في الدول الرجعية)،  لأن الحرب على داعش بصفتها بربرية وارهابا ، ومن ثم انهيار نموذجها الفكري والسياسي وأهم منه القضائي والاجتماعي،  سيكون بمثابة زلزال كبير يطيح بسيادة وهيمنة النموذج التراثي الرجعي الرسمي بكامل نظامه الفقهي ، حيث لا فرق واضح ولا انفصال بيّن بينه وبين داعش مهما ادعى التمايز عنها …

هذا سيفتح بوابة التغيير أمام ضغوط الحاجة للتغيير والتجديد والتطور والحداثة … اليوم فقط صار تطبيق الشريعة الاسلامية المعتمدة رسميا  هو ارهاب وبربرية بنظر الجميع ومن دون نقاش بسبب النموذج الفاضح والتطبيق العملي … ولم نسمع اعتراضا من شيخ أو من دار افتاء ولم نسمع دفاع منهم عن نموذج يدرسونه ويأمرون به، وهذا الزلزال الذي يمر بصمت الآن … سيفتح العقل الشعبي على ضرورة اعادة النظر في كل أشكال فقه وفهم وتطبيق دينهم الذي يؤمنون به ، و سيسعون لحل مشكلة تناقض أشكاله التطبيقية مع العصر، وسيبحثون عن أشكاله الحديثة التي تخدم ذات المقاصد لكن بطريقة أخرى وبفلسفة مختلفة غير منتمية للمرحلة الذكورية الاستبدادية .. وهو ما سيفتح الباب نحو تغيرات أخرى في مواضيع أسهل وأقل حساسية خاصة في صعيد دور المرأة في المجتمع ونمط العلاقات الأسرية… مما سيحدث تغيرا هائل التأثير على كامل بنية المجتمعات الأهلية ، ويفتح الباب لقيام المجتمعات المدنية ، التي هي الوحيدة القادرة على تشكيل بنية تحتية للنظام الديمقراطي كما أثبتت لنا التجربة العملية في الربيع العربي … أي أنه لا ديمقراطية من دون مشاركة حقيقية وفاعلة للمرأة التي تعتبر مشاركتها في الحياة العامة ضرورة مطلقة لتجاوز المجتمع الأهلي التقليدي نحو المجتمع المدني ، وهذا يتطلب انقلابا في بنية الثقافة الذكورية التسلطية لصالح الثقافة الليبرالية .

لقد انطلقت ثورة العزة والكرامة والشرف ، وفتحت أبواب التغيير ، لكنها اصطدمت بفلسفتها وثقافتها الذكورية فتعرقلت مؤقتا ريثما تحضر أدواتها لثورة جديدة تتجاوزها … وهي ماضية في سبيل تحقيق غاياتها  مهما تعرج الطريق ووضعت المعيقات ،  وستطيح بكامل البنى المتعفنة التي كانت السبب في التخلف الذي قرفناه، وعلى كل من يحلم بالثبات والاستقرار أن يحزم حقائبه ويرحل .. ويفسح المجال أمام قوى تحتية جديدة لتبني مجتمعات ونظم جديدة، تعبر وتلبي رغبات واحتياجات طامحة للعيش الحر الكريم ، ولا شيء يستطيع قمعها ، ومن عاش الثورة وتجمهراتها يدرك مدى قوة الشعب وقدرته على الاطاحة بكل قيد ونظام لا يرغب فيه، ومن لا يعرف قوة المرأة عليه أن ينتظر ثورتها القادمة على المجتمعات والنظم التقليدية وخاصة في الدول التي تتمسك  تحت عنوان الدين ( السني والشيعي ) بأشكال الشريعة الذكورية لأنها تجد فيها وسيلة تبرير الاستبداد و قمع قوى المجتمع وعلى رأسها المرأة التي هي المجتمع المدني والحضارة .

مكرو ومكر الله ، وأرادوا أن يحاربوا التاريخ ، وعملت القوى غير المنظورة في مستوى البنى التحتية ، مستوى قوى الانتاج وعلاقات الانتاج والاستهلاك ليس فقط الانتاج المادي بل العلائقي والانساني والفكري والتي استوردناها بفعل الحضارة وأدواتها ودخلت حياتنا ، والتي ستفرض نفسها في النهاية على ما فوقها من علاقات اجتماعية ونظم سياسية … وتتم أمر الله الذي هو الحق المتجلي في مخلوقاته التي اصطفي منها الانسان لمهمة اعمار الكون وليس لمنع تطوره … و سينكشف مدى تهافت القراءات والفقه الديني التقليدي المتوارث، الذي بني وترعرع لخدمة سلاطين الاستبداد، وسيعود الدين كما بعث منارة للحق وهدى ورحمة للعالمين ..

(كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ   )  …           ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.