يثب

كونفوشيوسيات الثورة السورية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما تزداد معرفة المرء ويتقدم في العلوم يصل إلى درجة الفلسفة في العلم وربما درجة ( الحكمة ) إذا ربطه بالقيم والسلوك ، وقد كان كونفويشيوس حكيما صينيا قديما ترك وراءه مجموعة كبيرة من حكم الحياة تحولت بالتدريج لما يشبه الدين تأسست عليه الثقافة الصينية .

وبعيدا جدا عن الصين التي أمرنا الرسول الكريم بطلب العلم حتى لو كان فيها ، أي هنا في سوريا وطننا الذي قتل وقد لا نعود اليه ، يمكن أن نستخلص من الثورة السورية وما سبقها وما انتهت اليه مجموعة من الاستنتاجات الكونفوشيوسية التي سنورد بعضها :

    * الترهيب والقمع المطبق بشكل مستمر وعشوائي يولد الخوف الأسطوري الجماعي والتخويف المتبادل الذي يشمل العامة ويجبرها على الإذعان ( مثالنا النظام السوري ثم داعش ) وتحدي الخوف الجماعي من قبل أفراد في هكذا وسط ترهيبي ،يحتاج لقدرات عالية وايمان راسخ وشجاعة استثنائية قد توصف بالجنون ، وهو ما صنعته الثورة السورية التي حطمت جدار الخوف عند انطلاقها… كما أثبت تجربة النظام في القمع والقتل بعد الثورة أن القصف والحصار والضغط العسكري والتهجير والتدمير ، يمكن تحمله ولا يدفع للاستسلام بقدر الجوع ، فالجوع كان السلاح الأخطر الذي ينتج الركوع والاستسلام

   * لكن النجاح في امتحان الشجاعة وفي تحدي الخوف الجماعي، لا يعني حتما كما توقعنا للوهلة الأولى النجاح في امتحان المال والثروة ، فكثير من الثوار الذين نجحوا في امتحان الشجاعة ، رسبوا من السؤال الأول في امتحان المال والمتع السياحية والفساد ، ومثالنا على ذلك رموز المعارضة الذين خرجوا من السجون كأبطال ليسقطوا في بحر الدولارات القطرية والسعودية ، ويَفسدوا ويُفسدوا ، ويبيعوا كل ما يمكن بيعه ويتخلوا عن كل رصيدهم ومبادئهم . وبشكل مشابه الكثير من القادة العسكريين الثوريين في الداخل الذين تحولوا لتجار عمليات عسكرية وأفلام فيديو وطلاب تمويل حتى لو كان بصفقات مع النظام وداعش .

فامتحان المال ثبت أنه أشد من امتحان الشجاعة ، لكنه مع ذلك ليس أقسى ولا أصعب من امتحان السلطة واغراءاتها والتي سقط أمامها وبها كل من وصلها ، فمارس فيها ما مارسه بشار وزاد عليه ، ولا أستطيع تذكر رجل واحد ولا امرأه تسلم منصبا إلا وتمسك به لدرجة التضحية (خوفا عليه) بكل صداقاته وقيمه ، بل حتى بأسرته وكرامته وضميره وشرفه … فالمعارضة السياسية قد خاضت في سياق التنافس على الكراسي المعارك الطاحنة فيما بينها ، وشرشحت بعضها والثورة أيضا ، بينما اقتتل القادة العسكريون ، وصفى بعضهم البعض واغتالوا خيرة الناس الذين كانوا الى جانبهم وسط المعارك الشرسة مع النظام . فالنظام السوري الذي فرض سلطته بالخوف ، لم يكتف في ارعاب الناس بل أمعن في افسادهم وتجويعهم واذلالهم لدرجة أنهم سقطوا جميعا أمام المال السياسي والفساد ، وتشكلت عندهم عقدة جوع اسطوري ونقص ودونية شاملة ترجمت كحب رهيب للمال وللسلطة والزعامة بشكل مرضي وتعويضي جعلهم يسقطون في امتحاناتها … فقبل أن يصنع النظام ميليشيلات التشبيح وداعش كمنظمات ، كان قد زرع التدعيش والتشبيح داخل الأنفس كثقافة ما تزال تعمل بكل أسف.

وبوجود هذه الثقافة وهذه النوعية من الدوافع العميقة ، والتي تحتوي على النفاق والكذب ، وعبادة المال والاختلاس ، وعقدة الزعامة ، ناهيك عن مصيبة الجهل والتجهيل التي تشمل كل نواحي المعرفة التي منها الدين ذاته ، والتي هي كدوافع وقيم قد دخلت جينات الثقافة التي نحملها ، وأصبحت تفرض ذاتها على كل منتج اجتماعي وسياسي سوري… لذلك لن يكفي اسقاط النظام ، ولا يمكن توقع نجاح أي مشروع للمعارضة السورية البديلة عنه، فنوعية الانسان الذي نعمل معه وبه هي نوعية مدمرة وتخريبية لأي جهد جمعي ، والنظام قبل أن يدمر المنازل والطرق ، دمر الانسان وولد في داخله التناقض ، وزرع منظومة من القيم الهدامة التي استمرت بالعمل بعد الثورة عليه … والتي تتجلى كرغبة هائلة في التدمير ، ما تزال تتحكم بسلوكنا سلطة ومعارضة ، براميل وسكاكين ، وفيس بوك . حتى أن الأمل في اعادة بناء وطن ما فوق الأراضي السورية قد تلاشى بسبب ما نراه من كيانات لا علاقة لها بالحضارة والعيش الإنساني .

انطلاقا من المواد القذرة لا يمكن صناعة أي شيء يتصف بالطهارة، حتى لو سمي بأسماء دينية وما أكثرها ، وما أكثر الفساد فيها ، فالذي ثبت بالممارسة أن الشعب السوري يحمل في داخله الكثير من الأمراض والعقد المدمرة والتي تتظاهر في كل شيء يصنعه ، حتى رجال الدين يحملون أمراض الخلق والسلوك والانتهازية ، وهم يتحدثون عنها بشهادتهم ببعضهم البعض … وكذا نذكر شهادة المعارضة السورية بعضها ببعض … وقادة الفصائل ، والاغاثة ووو…

عادة لا تتغير الثقافة الا بمرور جيلين ( التيه 40 سنة في الصحراء ) ولكي لا تستمر سوريا في دوامة العنف والتيه 40 عاما ، ونموت قبل أن نرى الحياة الاجتماعية الإنسانية تعود اليها ، أقترح مبادرة صغيرة :

أن نعلن هدنة اعلامية بين المعارضة طيلة شهر رمضان المبارك نمتنع فيها عن التقاذف والتشاتم والسباب اعلاميا وفيس بوكيا وتويترا ، ونركز فقط على النظام . ونوقف حرب الاقصاء والإلغاء والتخوين والتنافس غير الشريف … فإذا نجحنا نكون قد اكتشفنا السبب الحقيقي الذي يجعلنا أقل من أن نحترم دماء شهدائنا ومعاناة أهلنا وبطولة مجاهدينا .

وقد تكون هذه الخطوة ضرورية للمساعدة في جهود المملكة العربية السعودية لعقد مؤتمر جامع للمعارضة في الرياض ، ينتهي فعلا بقيادة أقرب ما تكون لمصالح الشعب وأهدافه . أما إذا فشلنا ، وهو المتوقع ، فالسلام على ثورتنا وشعبنا وبلدنا ، حتى عقود يستبدل فيها الله ما بأنفسنا أو يستبدلنا بقوم غيرنا …

ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.