دروس وعبر من الانتخابات التركية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

1- عادة في أوقات السلم لا تدخل الأيديولوجيات والعقائد كعناصر هامة وحاسمة في صناديق الاقتراع ، كما هي الحال في زمن الحروب والأزمات . لذلك فإن الأحزاب الأيديولوجية عادة ما تصطنع أو توحي بوجود حالة حرب عند كل انتخابات أملا في الحصول على المزيد من الأصوات . وهذا ما لم ينجح به أردوغان ، بينما نجح به الكرد والمعارضة التي باشرت حملتها بالخوف على الديمقراطية والحرية وعودة التسلط والقمع الديني . بينما سياسة أردوغان الخارجية كانت سلمية أكثر كثيرا من اللازم ، وتجنبت الخوض في كل الصراعات الواجب خوضها دفاعا عن الأمن القومي التركي المهدد بشدة في مستوى وحدة واستقرار تركيا، والتي لو تم خوضها لكانت كفيلة باستستنفار حماس الشعب التركي وتوحده خلف قيادته المدافعة عن وجوده، والسبب هو سياسة أحمد داوود أغلو الخارجية المعروفة ( صفر مشاكل ) التي دفع الشعب السوري ثمنها على شكل تردد تركي ، وتهديدات خلبية لم ينفذ أي منها ، بينما الإيراني حليف النظام السوري يمارس سياسة خارجية هجومية عدوانية ضمن سياسة ( دائما مشاكل ) يهرب بها من أزماته الداخلية . فلو تدخل الجيش التركي بمعركة برية أو جوية وحقق انجازا عسكريا ، لتوحد كل الأتراك خلف رجل تركيا القوي … الذي يمارس قوته على أعدائه ، لكن أن يكون ضعيفا في الخارج ، ويحصر ممارسة قوته في الداخل وعلى شعبه فقط ، فهو ما سيخاف منه الجميع ويحذرونه … فالكثير من أنصار أردوغان الوطنيين يخافون فعلا من أن يقعوا ضحية إعطاء قوة وصلاحيات أكثر من اللزوم تنحصر بيد شخص ، وبيد سلطة غير مقيدة يمكنها أن تجدد للاستبداد والديكتاتورية ، وتصبح بوابة للفساد والمحسوبيات لذات السبب.

2- يقولون في علم السياسة : اعطي للحكومات زمنا كافيا لكي تصنع بنفسها حبلا بطول يكفي لشنقها به … فالحكومات وكل سلطة تغرق مع الزمن ، والناس لا ترى عادة سوى أخطاء الحكومة التي تتراكم مع الزمن ، في حين أن حسناتها تنسى سريعا ، فهي واجبها الطبيعي ، لذلك لا تسجل في الذاكرة ، بعكس الأخطاء … فالحكومة من حيث المبدأ يجب عليها ألا تخطئ ، وهذا شبه مستحيل ، لذلك كان عامل الزمن وحده كفيلا بقتل أي حكومة وبجعل الناس تميل عنها وتكرهها … وعليه ، يطرح في الديمقراطيات مبدأ التداول وتغيير الأشخاص ، حيث بتبديل الشخص يذهب معه تراكم أخطائه ، ويأتي شخص جديد بعداد أخطاء صفري … وهو ما لم ينتبه اليه أردوغان حيث يصر على ذات الفريق وذات الشخوص ، الذين ملت منهم الناس ، وتنتظر تغييرهم حبا في التغيير بحد ذاته … طبعا هناك من يقول أنهم لو قارنوهم بأشخاص غيرهم ربما لفضلوهم عمن سواهم كفريق ، لكن مجرد غياب امكانية المقارنة لمدة طويلة يجعل منهم عنصرا مرفوضا بشكل متزايد مع الوقت …

3- هناك مقاومة حقيقية عند جيل الشباب لفكرة أسلمة الدولة التركية ، فمع وجود احترام واضح للدين في المجتمع ، هناك أيضا نمط حياة عصري بدأ ينتشر بقوة ويسود ، ويفرض نفسه في المجتمع التركي وعند الشباب تحديدا ، لا يقوم على التعارض مع جوهر الدين وقيمه الأخلاقية ، بل مع شكلياته التي لا يسمح بشرعنة تغييرها من قبل فقهاء مدرسيين متقيدين بالشكل أكثر من المضمون ، وهم من يعتمدهم نظام أردوغان ويقدمهم كنماذج تتخذ مثالا يحتذى … وهذا الحشد الانتخابي الشبابي المهم متخوف فعلا من اعادة فرض تطبيق نمط الحياة التقليدي من جديد … لذلك فمعظم الفئات العمرية الشابة تحولت عن تأييد أردوغان المحافظ ليس لأنه غير ناجح سياسيا واقتصاديا . لكن لأنه محافظ وتقليدي اجتماعيا ، ويهدد بحكم ذلك مسار الحريات الذي تسير عليه أجيال جديدة ، بامكاناتها الخاصة ومن دون توفر ضمانات ومؤسسات وشرعية تديرها الدولة ، التي عليها أن ترعى الحريات الجديدة التي تعتبر من وجهة نظر المحافظين تحللا وفسادا . وهي ما عبرت عنها اتهامات أردوغان للمعارضة : بالتحلل والميوعة والابتعاد عن الدين ، والتي ثبّتت مخاوف الشباب الذي يرى في هذه الميوعة حرية له وتلبية لرغباته ، ولا يرى فيها تنافض مع ايمانه الديني ، الذي يفصله عن الشكليات الاجتماعية القديمة المرهونة بظرفها … ولم يهتم المتدينون في فهم هذه الظاهرة التحديثية أو في تلبيتها واستيعابها ، عبر تطوير فقه متناغم مع التغيرات الثقافية الملزمة بفعل تطور الحياة العصرية التي تطرح نموذجا للعيش لا يمكن الوقوف في وجهه ، ولم يدرك أردوغان ولم يهتم بكسب قطاع الشباب التحديثي هذا ، ويبدو أنه من الصعب عليه فعل ذلك ككل الاسلاميين التقليديين الذين يريدون البقاء في شكليات الماضي .

4- أما دخول العامل السوري كورقة انتخابية وموضوع تنازع فقد كان الأسوء بامتياز … فكل شعب لاجئ هو شيء ثقيل ومتعب ، والشعب المضيف لا ينظر بعقلانية لمصالحه البعيدة ، بل يركز بعواطفه على حوادث شخصية وفردية يحتفظ بها في ذاكرته عن ممارسات هؤلاء اللاجئين الذين تفرض عليهم ظروفهم إظهار أبشع ما لديهم .. ونحن كسوريين فعلنا ذلك وزيادة ، بالرغم من تعلقنا بأردوغان ومراهتنا عليه ، الذي يعكس حاجتنا لزعيم صادق ودولة قوية نتحالف معها في زمن صعب … لكن لم ننتبه أن الأشخاص ليسوا بديلا عن الشعوب ، وأن علاقة الإخوان الجيدة بحلقة أردوغان الضيقة ليست بديلا عن العلاقة بين الشعبين التي لم تتوسع وتتمأسس ، فأردوغان ليس تركيا ، كما أن الإخوان ليسوا سوريا . وعندما يركز الاعلام وتعامل السياسيين فقط على هذه العلاقة الخاصة ، فستكون النتيجة هي إهمال الواقع الذي سيفاجئ الغافلين عنه ، ففريق أردوغان الخاص لم ير في سوريا ولا يريد أن يرى سياسيا واجتماعيا وخلقيا سوى الاخوان وائتلافهم المعطوب … وتوهم أن الشعب السوري يقبل الانقياد تحت زعامتهم ، وأن شوارع استانبول ستمتلئ بالمتدينين الملتزمين حزبيا من السوريين المتأخونين … وليس بالمتسولين والهاملات والفوضويين وحتى الشبيحة… وما ساهم في هذه الخديعة أن الكثير من السوريين قد موهوا أنفسهم تحايلا بغلاف الدين ولبسوا القناع الإخواني تقربا من نظام أردوغان وطمعا في المكاسب التي حصرت في أيدي الاخوان( مستخدمين ثقافة النفاق التي زرعها بهم حكم البعث الطويل ) وتم اهمال قناعة ومشاعر بقية الشعب التركي والمواطن التركي … وأهملت أية مبادرة لتنظيم أوضاع اللاجئين وضبط سلوكهم … وفشلت المعارضة المقيمة في استانبول بقيادة الإخوان في تحقيق أي إنجاز حقيقي تنظيمي بين اللاجئين ، أو في مؤسسات الثورة ، أو داخل سوريا على الأرض ، ولم تستفد من الدعم والتسهيلات التركية إلا في مصالحها الخاصة والأنانية ، بعد أن عملت على تصوير ثورات الربيع العربي في غمرة انتصاراتها كصحوة اسلامية إخوانية وليس كثورة حرية وكرامة، فذهبت الأرض من تحتها للمتشددين السلفيين الجهاديين ، وبقيت هي في المغترب معلقة في الهواء لا دين ولا دنيا… وظهرت أخيرا نتيجة كل ذلك في لحظة حقيقة طُلب بها من الشعب التركي أن يصوت ويقول رأيه، الذي يجب أن نستمع اليه باحترام واهتمام وجدية .

5- ما حدث ليس خسارة فعلية ، بل خسارة حلم وتصور لم يقتنع به الشعب التركي لأسباب نوهنا ببعضها ، وهو بمثابة درس يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ، ويتطلب إعادة الحسابات جديا عند حزب العدالة التركي ، وعند المعارضة السورية التي تحتمي بحضنه ويتلاعب بها تنظيم الاخوان، وبشكل خاص يجب علينا كسوريين ألا نستمر في السير عميان وراء انتهازيين وفاشلين اختطفوا واحتكروا تمثيل وتمويل الشعب السوري ، وتاجروا بالثورة وبالدين والشعارات ، ولم يفعلوا شيئا يذكر ، لنكتشف بعد فترة أنهم يقودونا نحو الفشل والهلاك كدولة وشعب، وأننا قد خسرنا قضيتنا ، أو تسببنا (بعيوبنا ) في خسارة آخر حلفائنا ، الذي يحكم الدولة الوحيدة تحت الشمس التي ما تزال تستقبلنا بترحاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.