يثب

تخريف وثيقة القاهرة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يبدو أن الجنون هو مصير كل مواطن سوري بسبب ما يتعرض له من أهوال … وليس آخر هذا الجنون وثيقة القاهرة التي بنيت على تخريف سابق هو جنيف ، الذي بدأ بتجنب مسألة الخلاف الرئيسي وهي النظام ، ليبني التفاوض على شيء مغاير لسبب وجوهر الأزمة ، والذي لم يكن يعني سوى طبخ الحصى وتضييع الوقت ، واليوم يقوم المجتمعون في القاهرة بمتابعة مسار التخريف والجنون ، ويبنون عليه ، ويقررون وهم لا يملكون ثمن التذاكر وأجرة الفندق مسار الأحداث ، ويكتبون تاريخ ما يستقبل من زمن وأحداث بورقة يسمونها ملزمة …لكن كيف ؟.. سنعرض الآلية التي يقترحونها والتي تدل على مقدار العته السياسي والانفصال عن الواقع الذي يعيش به هؤلاء السوريون الذين جننهم بشار الأسد المجنون هو الآخر .

تقول الوثيقة ما معناه : يتفاوض النظام والمعارضة (الذين أمضوا خمس سنوات من القتال الدامي ) ويتفقوا على الرحيل كليهما عن ساحة الصراع والسلطة ، ويبرمون اتفاقا على ذلك ويسلموا السلطة والسلاح لطرف ثالث كامل الصلاحيات ( دون أن يوضحوا أي سلطة متبقية تستطيع أن تحكم سوريا ، ويمكن تسليمها لقيادة جديدة تأمرها فتنفذ ) ، على أن يقوم المجتمع الدولي والدول الإقليمية المؤثرة بضمان ذلك ( وهي التي كانت سببا وعاملا من عوامل تسعير الصراع وادامته ) في الضغط على الطرفين لتنفيذ الإتفاق الذي سيتم أيضا بالضغط على الطرفين ( وهم في الحقيقة مليون طرف ومليون سلطة ) ، لكن ما هي آلية الضغط المقترحة، إنها مجلس الأمن (الذي عجز عن الاتفاق على أي شيء والمجتمع الدولي الأتفه منه )

يطلبون ذلك مع رفض المجتمعين المعلن مسبقا للتدخل الخارجي أو للحل العسكري … ومع ذلك يصرون على خطة واضحة وآليات ملزمة … فأي آليات ملزمة ستوقف الأسد عن القاء البراميل ، وداعش عن بناء الخلافة المنتظرة منذ سقوط بغداد على يد هولاكو ، وايران عن توليد المهدي المتعسر الولادة عجل الله ولادته وهون في مخاض أمه … هيئة التنسيق التي هي صلب اجتماع القاهرة هي التي رفضت بالمطلق التدخل العسكري لإزاحة الأسد ، واعتبرت أن الحل سوريا ، وهي نفسها اليوم تطالب بآليات ملزمة يقوم بها المجتمع الدولي ؟؟؟ فكيف يكون الحل سوريا ، وكل الوثيقة تتحدث عن قرار دولي وضغوط دولية … لكن ليس التدخل العسكري .. ليتطوع أحد ما ويشرح لنا بأي لغة سنقنع الأسد والبغدادي بالرحيل . حتى ديمستورا أخيرا اكتشف ضرورة تنحية الأسد بالقوة ؟؟ ولم يكتشف المعارضون في القاهرة ذلك ، واستمروا في طرح مسار التفاوض معه .

الجهة الفاعلة الوحيدة في الوثيقة هي الدول المؤثرة والأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن وقوة القانون … ألا تعني قوة أي قانون استخدام القوة ضد من لا يمتثل ؟؟ … إذن لندعو الأمم المتحدة لاستخدام القوة وسحق المجموعات المتقاتلة واعادة احتلال سوريا ، بجيوش أجنبية ، ثم تسليم السلطة من قبل قوات الاحتلال الجديدة للمؤتمرين في القاهرة الذين يعدونا بحفظ سوريا ووحدتها ، ونظامها التعددي الديمقراطي ، واعادة توحيدها واعمارها واقامة العدالة وتعويض المتضررين واعادة اللحمة الوطنية ، لكن بعد الاحتلال الدولي ، وبعد أن انتشرت لحوم المواطنين فوق التراب والأشجار وأنقاض مساكنهم ..

ومن قال لهم أن المجتمع الدولي المدعو للتدخل ، لا يعمل ليل نهار على تقسيم سوريا وتدميرها واستنزاف قوى التطرف في المنطقة على ساحتها … من قال أن الأزمة في سوريا لم يكن من الممكن حلها لو أرادت الدول المتنازعة … ومن سيجعل هذه الدول تتفق فجأة وتريد عكس ما تعمل عليه … هل كانت تنتظر اجتماعكم الانقاذي الذي فشل به الائتلاف ؟ ، أم أنتم اجتمعتم بطلب منها وتمويل ورعاية لغاية أخرى ، هي إحداث المزيد من التمزق والبلبلة في المعارضة ، وتخفيض سقف مطالبها ، لزيادة عزلتها عن الجماهير التي تشيعت وتدعشنت وتنصرنت ..

وغدا عندما يعلن مجلس الأمن وقف اطلاق النار فورا ، كم عسكري سيمتثل لبان كي مون وديمستورا … وكم مواطن سيقبل بكم كهيئة حكم انتقالي … كان بالإمكان من دون اللف والدوران اختصار اجتماعكم بترشيح أنفسكم أمام الدول لقيادة سوريا بعد أن يحرروها لكم من حكامها الحاليين ؟ …

الشيء الجميل في الوثيقة هو بند تعويض المتضررين ، واعادة الاعمار … بالله عليكم … هل هذا يعني أنكم تتوقعون من الدول اللي دمرت سوريا أن تعطيكم المال لإعادة بنائها … بمجرد ذكر هذا البند في وثيقتكم الملزمة !!!.

أما بند إطلاق سراح المعتقلين فهو الدليل الفاضح على ضياع العقل … لأنه ببساطة وبالدليل المادي لم يعد يوجد في سوريا معتقلون أحياء … كان الأصح مطالبة اجتماع القاهرة بتنظيم شهادات وفاة لكل المعتقلين مقابل منع محاكمة قاتلهم … فما هي العدالة التي تعدوننا بها : ألا تعني محاكمة الأسد الذي تتعهدون له بضمان حصانته وخروجه الآمن الكريم …؟؟

ألا تسمعوا مني نصيحة .. دعوا المقاتلين ينهون معركتهم ، التي سيحدد المنتصر فيها من يحكم ومن يحاكم ومن يبقى على هذه الأرض … فسوريا التي ترسمونها على الورق قد ماتت وشبعت موتا وعظامها صارت مكاحل … ولن يعيدها للحياة لا الأوراق ولا القرارات ، وما سيولد في المنطقة هو شيء جديد ، والتاريخ لا يقف ولا يعود للوراء …

لو كان فيكم قدر من العقل لبحثتم عن طرق التفاعل مع القوى الموجودة وتطوير عملها وتنسيقه مع الدول المتدخلة لتحقيق نتائج سياسية في الشمال أو الجنوب أو كليهما لو استطعتم … ولم تعيشوا في عالم الأوراق والأحلام والمناشدات للمجتمع الدولي الذي لم يسمع صرخة جريح ، ولا استغاثة مهجر … اتركوا شعب سوريا بحاله والحقوا ارزاقكم في بلدانكم ، فأنتم أقل الناس تمثيلا لسوريا ، وأكثر الناس ابتعادا عنها وعن واقعها … وأقل الناس قدرة على حل مشاكلها التي أنتم واحدة منها ، ولا مانع من مراجعة طبيب نفسي يساعدكم ببعض العلاجات الدوائية أو الكهربائية .

العاقل الذي يريد سوريا عليه أن يحمل سلاحه ويدافع عنها ويحرر ما يستطيع منها ، أما من يبق في الخارج فعليه استجداء موافقة من يتمسكون بالأرض لكي يسمحوا له بالعودة وبشروطهم هم ، أما الاستقواء بالأجنبي وانتظار رحمة الدول فهو تخريف سياسي ، لأن سوريا ستكون فقط لأهلها الذين حملوا السلاح ودفعوا الدماء ذودا عنها ، وهم وحدهم من سيقرر مصيرها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.