الأقليات والحق في الأرض

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

منذ بداية التاريخ كانت ملكية الأرض موضوع نزاع وسببا للحروب، فقبل 10،000 سنة تقريبا حسب التقويم التوراتي ، أي منذ بداية الزراعة التي تترافق ببدء استخدام الكتابة، ولدت الإنسانية ( آدم ) ، فقتل ولده قابيل (المزارع )، أخاه هابيل (الراعي) لأنه رعى (أرضه !) ، … فالأرض كانت مشاعا بين البشر المتنقلين فيها قبل ذلك، يتصارعون على خيراتها وليس على ملكيتها ، حتى استوطنها البعض وادعى ملكيتها لأنه زرعها ، ومنع غيره من دخولها ، وبسبب هذا التنازع قامت الحضارة وأنشئت القرى والمدن والممالك كتحالفات عسكرية لحماية هذه الملكية التي صارت ضرورية لاستمرار مصادر العيش .. فالدول أساسا تشكلت كحلف عسكري يحرس الأرض المشتركة التي تعيش عليها جماعة متضامنة ( شعب ) ، والتي تشترط لاستقرارها ومنعتها وجود انضباط وسلطة ونظام داخلي يديم وحدتها ويعزز منعتها ، ولكنه يأتي بالدرجة الثانية من الأهمية بعد حماية الأرض بالقوة ، فالأساس في الدول هو قدرتها على تثبيت ملكيتها للأرض ودفاعها عنها ، والجيش هو أساس الدولة ، والملك هو عادة قائد هذا الجيش ، وهذا ما يجعله عنوانا للملك والملكية ، يمنح مواطنيه حق الملكية الخاصة بصك وسند يصدره لهم، فالأصل في الملكية هو الحيازة بالقوة العسكرية، ولا يمكن البحث عن أصل حقوقي لهذه الملكية خارجه.

وعندما كتب مسيلمة الكذاب للنبي محمد يدعوه لتقاسم الملك والأرض معه … أجابه رسول الله ( أما بعد فإنما الأرض لله يورثها لعباده من يشاء ) فالمبدأ الاسلامي أن ملكية الأرض هي استخلاف وحيازة مشروطة ، وليست حقا يورث ، وما يملك ويورث هو الجهد والعمل الذي بذل في تحسين واعداد هذه الأرض ، وليس الأرض ذاتها التي تبقى لله مشاعا بين عباده …

اليوم وبسبب طغيان النظرية القومية الأوروبية … هناك من يدعي حقا تاريخيا في الأرض للشعب ، ويعطي لهويات الشعوب طابعا اسطوريا مقدسا نمطيا ثابتا يجعلها أقرب للعنصرية ، ويمدد هذه الهوية للأرض التي استحوذ عليها بالقوة التي هي عنوان الدولة، فتصبح أرضا المانية وفرنسية ، و عربية ، ويهودية وو … مما يؤدي للمزيد من الصراعات والحروب والتمييز … فالدولة السياسية ليست شيئا مستقرا ، وهي أشبه بحلف عسكري متحرك يقاتل للسيطرة على الأرض ، التي بقيت ملكيتها عبر التاريخ مرهونة باستخدام القوة وبخوض المعارك . كما أن هوية شعب معين هي شيء متغير ومتنقل معه … والشعب ذاته ينزاح ويتحرك ويهجر ويستوطن ويحتل ويغزو ، وخريطة الدول السياسية تتغير بشكل دائم …

الدول تقوم وتنهار ، وحدود الدول تتغير بشدة وبسرعة ، وهي عبارة عن أسلاك شائكة والغام وجبهات ودبابات وجيوش ، أو اتفاقيات ومعاهدات مؤقتة سرعان ما تنهار فتندلع الحروب من جديد عند كل تغير في ميزان القوى، وعندما يحتل جيش أرض دولة ثانية يصبح شعبها محتلا، وهو اما أن يتحرر أو يصبح مع الزمن ضمن الدولة ملزما بالدفاع عنها، عندما يدخل في عقد الدولة ويتحول لاقلية ذات تمايز ما فيها، وعندما يهاجر شخص لدولة ثانية ويطلب الجنسية فهذا يعني التزامه بعقد الدفاع عنها ، ولا يبق منتميا للدولة التي هجرها مع أنه قد يحمل هويتها … لكن عندما تنهار الدولة ويندلع الصراع داخلها ، تصبح أرضها مشاعا من جديد ، فترتسم الدول الجديدة على حسابها ، تبعا للقدرات العسكرية فقط ، ويضرب عرض الحائط بالتاريخ وهوية الأرض، والوثائق والمعاهدات، ويعاد توزيع الهويات والبشر على الجغرافيا تبعا للدول الجديدة التي قامت بالقوة المحضة …

 نتيجة :

  • 1- ملكية الأرض هي ملكية حيازة أساس شرعيتها القوة ، أو التعاهد الطوعي الذي يعبر عن توازن القوى .
  • 2- وجود الدول هو بحد ذاته سببا للحروب الخارجية ، بينما تتوقف الحرب داخلها عندما يمتلك الجميع حق التملك والتنقل فيها ضمن نظام شرعي للملكية عادل ومحروس .
  • 3- الدولة هي من ترسم الهوية وتعيد صياغتها ، وليس العكس ، فالهوية ليست الدولة وليست شرطها ، ويمكن لهويات مختلفة أن تعيش في دولة واحدة ، ولهوية أن تعيش في أكثر من دولة ، وتباين الهويات لا يؤسس لحق تقسيم الدولة ، خاصة عندما تكون متداخلة جغرافيا .
  • 4- المواطن يمتلك حق المواطنة عندما يلتزم بالدفاع عن الدولة ، مهما كانت هويته التي هي حق شخصي لكل فرد. فالدولة تضمن حقه عندما يدافع عنها . وعندما يتخلى عنها يفقد حقوقه فيها .
  • 5- يحدث داخل الدولة أن يغير المواطن سكنه وملكيته لكن ضمن نظام للبيع والشراء محروس من قبل قانون الدولة ، ولا يجوز أن يمنع مواطن من هذا الحق بحجة هوية محلية لمنطقة ما .
  • 6- تواجد الأقليات في مناطق معينة من الدولة لا يعطيها الحق التاريخي بهذه المناطق ( القامشلي ، الساحل ، جبل العرب ) ، والهجرات الداخلية للهويات ذات الخصوصية هي شيء شرعي ، ولا يجوز اعتبارها عدوانا أو احتلالا طالما حدثت داخل الدولة وضمن نظامها ( الغمر ، السومرية ، حي الرز ، جرمانا ) .
  • 7- أي انقسام عن الدولة هو اعلان حرب على هذه الدولة ، وليس تعبير عن حق. مع اشتراط العدالة بين المواطنين.
  • 8- أي تهجير قسري للسكان هو جريمة وطنية ، وجريمة حرب دولية بموجب اتفاقية جنيف .
  • 9- حق تقرير المصير أعطي للدول المستعمرة بجيوش أجنبية ، وليس للأقليات ضمن الدولة المعترف بها . فالأقليات يشملها حقوق أخرى في التعبير والتدين والخصوصية ، والعدالة والمساواة ، من دون حق الانفصال.
  • 10- العرب بسبب احتفاظهم ببداوتهم ، ودينهم الاسلامي الحنيف ، يخسرون دوما معارك الأرض ( هابيل ) ، لكنهم بسبب ذلك أيضا يحملون هويتهم وينتشروا بها في العالم .
  • 11- لن يفيد المنطقة داعش العربية وداعش الكردية ، ولا البعث العربي ولا التركي ولا الكردي . فكلها عناصر تدمير لصيغتها التاريخية الحضرية . فالمسار التقسيمي الحالي هو مسار صراع مرير لا ينتهي ومدمر للجميع وللحضارة ، وتكوين المنطقة التاريخي والديمغرافي لا يحتمل تطبيق النظرية القومية الأوروبية ، ولا النظرية الطائفية المقترحة كبديل عنها.
  • 12- لا يمكن وقف الصراع الدائر على الأرض في منطقة الشرق الأوسط من دون تأسيس كيان اتحادي شامل للجميع ، يحفظ حق الاقامة والعيش والتملك بشكل عادل لكل المكونات على كامل مساحتها ، وحق المشاركة في الحياة السياسية الديمقراطية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.