الأقليات بين العدالة الأهلية والعدالة الانتقالية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما طُرح مفهوم العدالة الانتقالية بأمر غربي تبنته المعارضة من دون تمحيص ، وكان المقصود منه تغيير صفة الجريمة التي تقع على الشعب السوري ، وتغيير نوع العقوبات التي يستحقها الجناة بصفتهم الشخصية والاعتبارية . وأخفي الهدف من وراء طرحه وترويجه (وهو منع تطبيق القانون الأهلي ) بحق المؤسسات والطوائف التي ارتكبت جرائم إبادة وتهجير ، ومنع محاسبتهم كهيئات اعتبارية مسؤولة جماعة، ومنع تجريمهم كمجموعات مشتركة في المسؤولية، والإكتفاء بنوع من العدالة الرمزية المعنوية، التي تعني فقط من حيث النتيجة تقديم الحصانة المسبقة للأشخاص والمكونات والطوائف عن كل ما سيرتكب من جرائم مهما طال أمد الصراع وعظمت بشاعته ، وبالتالي إدامة وصيانة عناصر هذا الصراع الأهلي ، و امكانية تفجريها من جديد كلما اقتضى الأمر …

وفي ذات السياق عملت وثيقة جنيف ومشروع الحل السياسي على ضمان تلك الحصانة المسبقة من تبعات الجريمة المستمرة من دون توقف … فالغرب المسؤول عن اطالة أمد الصراع ، يريد تطمين أدواته ، وهو متخوف من ردة فعل الضحايا الذين تُرتكبت بحقهم هذه الجريمة، والذين سيطالبون بحقوقهم في القصاص من هذه الأدوات التي تكرر استعمالها أكثر من مرة في التاريخ. ليس بصفة الضحايا الفردية الشخصية فقط ، بل والأهم بصفتهم الاعتبارية كأغلبية ، تعرضوا بحكم هويتهم للقتل والتهجير وتحطيم وتمزيق دولتهم، من قبل مؤسسات طائفية وقومية أقلوية متحالفة تشترك فيها معظم الأقليات التي تتحالف (أحيانا) مع الغريب والعدو ( في الغرب والشرق ) وتشكل أداته في الحرب على العرب والسنة (العدو التاريخي المنافس )، لتشكل هذه الأقليات بالتالي الموضوع الوحيد لاهتمام الغرب ذي المعايير المزدوجة وجوبا ولزوم استمرا حالة الصراع التاريخي مع الشرق الذي يُستخدم تنوعه لإضعافه ( فرق تسد ) .

فالجريمة التي وقعت لم ترتكب بصفة شخصية وفردية بل مورست كسياسة مؤسسية قامت بها دولة ونظام للحكم أقلوي منتدب من قبل الغرب لتمديد حالة الاستعمار والتبعية، ثم من قبل ميليشيات وأحزاب طائفية منظمة موالية… وفي القانون (المشترك له عقوبة الفاعل )، ونوع الاشتراك لا يغير كثيرا من مستوى المسؤولية، طالما أن العمل الجماعي ينتهي بارتكاب محدد الصفة ومكتمل العناصر الجرمية. فالمحرض والمتدخل والممول والمساند والمحارب هم سواء في الجريمة المؤسسية التي اجتمعت أركانها وتكاملت عناصرها ، ووقع ضررها فعلا على المجني عليه … فقد تعرض نصف العرب السنة للتهجير وتدمير الممتلكات ، وقتل وجرح من أبنائهم ما يزيد عن 10% ، في حرب ظالمة شنها النظام وساعده فيها الكثير من المكونات التي تتحكم به ويتحكم بها .

في الظروف العادية تختص العدالة الوطنية بقضايا فردية فقط ، لأن القانون السائد الذي هو أساس العقد الإجتماعي قد وضع لمنع الأفراد من التصارع ، ولم يوضع لمنع المجموعات الاعتبارية ، طالما أن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ المواطنة الحرة المتساوية ، وليس مبدأ المكونات المتكافلة المتضامنة كما كان في الماضي. ولهذا لا يصلح هذا القانون المدني الجنائي العادي الحديث للنظر في الجريمة الحالية الواقعة على مساحة الوطن، والتي ترتكبها مكونات متكافلة، ومؤسسات منظمة ، ودول اعتبارية ذات سيادة …. ولا هي أخضعت من فورها لعدالة دولية أوسع من الاطار الوطني .

وعليه ، وبسبب عدم أهلية القانون الجنائي الوطني ، وفي ظل استمرار تغييب أي نظام للعدالة الدولية ، لذلك لا بد من العودة للقانون الأهلي القديم ، الذي ينظر في مثل هذه الحالات ، ويتعامل مع المجموعات المتكافلة ، بدلا من القفز في الهواء نحو العدالة الانتقالية ( كمفهوم مستحدث وغريب عن تراث المنطقة ) ، والذي عمليا يخلي مسؤولية المكونات والمجموعات ، ويقوم على مبدأ أن الجريمة التي ترتكبها مجموعة تعفى من العقاب كمجموعة وأفراد ، وأن كل قاتل يرتكب جريمته ضمن مؤسسة قاتلة يحصل على حصانة وعفو مسبق عن كل ما يرتكبه من جرائم . فهو يفقد مسؤوليته وذاته المستقلة ، ويتحول لآلة مطيعة غير عاقلة ، مباشرة بعد الانتساب لمجموعة أو التطوع في ميليشيا أو التوظف في مؤسسات دولة ، هي ذاتها غير خاضعة للمحاسبة الجنائية بل المعنوية فقط في أحسن الحالات .

فالعدالة الانتقالية ، بهذا المعنى والتطبيق ، لا تصلح لتسمى عدالة تحاول منع الجريمة ، بل تصبح أداة لتشجيع هذه الجريمة ، ولتقديم الحصانة المسبقة للمجرمين ، وللمؤسسات والجمعيات والمكونات التي عملت جماعة على ارتكاب جرائمها عن عمد وسابق تصميم . ( وقد طبق هذا المبدأ المشبوه في جنوب أفريقيا العنصرية لاعفاء البيض من تحمل مسؤولية ارتكاباتهم بحق السود ، و اعتبر لذلك نموذجا للعدالة الإنسانية الأخلاقية الحديثة يجب أن يطبق في كل مكان ، توجد فيه الحاجة لاستعمال معايير مزدوجة ، أعطي في مقابلها نيلسون مانديلا جائزة نوبل للسلام ) بينما لا يطبق الغرب ذات المبدأ على نفسه ويعامل كل المسلمين كإرهابيين ويحملهم جمعا مسؤولية الارهاب .

فالشخصيات المشبوهة التي تتحرك بتمويل مشبوه لطرح وفرض هذا النوع من العدالة في المستقبل في سوريا ( تحت مسمى العدالة الانتقالية ) ، أو تلك التي تعمل ليل نهار لتمرير صيغة الحل السياسي من دون العدالة ، وفرضه كخيار وحيد ، هي فعليا تهدف لتضييع حقوق المجني عليهم مرة باسم عدالة مخصية وهمية ، ومرة باسم ايقاف الدم بأي ثمن ، والنتيجة هي الغاء فرصة منع تكرار مثل هذه الجرائم والحروب الأهلية ، وإلغاء فرصة اعادة السلام والاستقرار والتحضر للمنطقة ، التي لا يمكنها أن تتحد وتبنى على تحالف مجرمين محصنين من المحاسبة ، ولا على جريمة أفلتت من العقاب، بل على نظام صارم للعدالة الأهلية بين المكونات . ومثال لبنان والحرب الأهلية التي لا تتوقف فيه خير دليل على ذلك ، وكذلك العراق واليمن … وسوريا التي دخلت مرحلة اللبننة حديثا .

العدالة الانتقالية تساوي بين الضحية والجاني ، وبين فعل العدوان ورد الفعل عليه، فهي تتحدث عن عنف ، ولا تميز بين معتدي وضحية، ولا مسبب ومصعد ، ولا ترى السياق الجرمي ، ولا تقيم وزنا لأهمية القصاص والردع، ولا لحق الدفاع عن النفس، الذي يعتبر حقا من حقوق الانسان، من دونه ومن دون القصاص الصارم تسود الجريمة وتطغى ونعود للوحشية. فالحق في الحياة الذي هو الحق الأول من حقوق الانسان يستوجب مباشرة الحق في تطبيق العدالة والقصاص ، أو في الدفاع المشروع عن النفس ضد العدوان الداهم … خاصة عندما تكون الجهة الرسمية المكلفة بحماية هذا الحق غائبة ، أو مشتركة هي ذاتها في هذا العدوان السافر ، كالذي حصل على شعب آمن خرج للشوارع طلبا للحرية ضد الظلم والفساد … فواجه الرصاص والبراميل .

شتان بين العدوان والدفاع … وشتان بين التسامح والعفو وبين التخاذل والخنوع للمجرمين … لكن العدالة الانتقالية بكل خبث تساوي بينهما وتلغي مفعول العدالة الرادع للجريمة ، وتمحو الجريمة وتبررها فقط لأن الضحية دافعت عن نفسها ، أو لأن العدالة ستمارس العنف، وتتجاهل أن العنف الذي تمارسه العدالة هو أساس الحضارة . فالسؤال الذي لا حاجة للمزيد من النقاش بعده هو لماذا لا تطبق الولايات المتحدة ذات المفاهيم في تعاملها مع القاعدة ، وداعش …؟ ولما تستخدم مفاهيم ومعايير مختلفة عندما تتعامل مع النظام وحالش ؟؟؟ ( السبب في هذه الإزدواجية هو جهة الانتماء … للأغلبية أم للأقليات ؟؟؟ ) فالعدو هو الأغلبية العرب السنة ، وهو المجرم سلفا لو دافع عن نفسه ، ومن يحارب هذا العدو هو الصديق الإنساني مهما فعل… وكل الجرائم التي يرتكبها الصديق الطبيعي ( الأقليات) بحق العدو ( الأغلبية ) هي مجرد عنف لا يرقى ليكون قضية عدالة أمام النظام العالمي … !!!

في هذا الزمن الحضاري يتغيّب عن عمد وبشكل رسمي نظام الجنايات الدولي ، وبطريقة انتقائية ، رغم تطور نظام العولمة ، أما سابقا عندما كانت البنية القبلية سائدة فقد كان العرف هو العدالة التي تطبق داخل كل قبيلة ، و خارجها بين القبائل ، وعندما يقوم بطن من البطون بارتكاب جريمة ، كان يقام عليه القصاص ، ثم يطرد خارج القبيلة والتعاهد القبلي وينفى لمكان بعيد ، وقد ثبّت القانون المدني هذا النوع من العقاب المكمل للقصاص وأقره وطبقه في أرقى وأحدث صيغه ، بتطبيق عقوبة منع الاقامة أي النفي . وقد قام الرسول الكريم بتطبيق هذه العدالة في المدينة عندما ارتكبت أحد القبائل (المتحالفة بعقد اجتماعي سياسي) جريمة الخيانة العسكرية ، فقتل الرجال المسلحين الذين غيروا وجهة سيوفهم ، وهجّر البقية ونفاهم عن الديار . لأنه من المستحيل عودة السلم بعد ما جرى من إسالة للدماء بين سكان المدينة ، الذين يتشاركون العيش معا في أرض واحدة ، ولا يضمن السلام بينهم إلا الصدق في العهود .

ولكون الشعب تعريفا هو سكان أرض محددة يتشاركون العيش عليها ويقيمون نظاما للعدالة فيها ، ويتعاهدون على السلم ، فهم أهل مدينة وعقد ينطبق عليهم ما ينطبق على حالة المدينة المنورة ، ومن يرتكب الجريمة من مكونات ، أو من يخون عهد السلم الوطني يقع عليه القصاص كجماعة ، ويخضع لمبدأ المحاسبة ومنع الإقامة ، حرصا على استعادة السلم الإجتماعي فوق هذه الأرض . فلا يعقل أن نكون في وطن ولا نأمن على حياتنا وأموالنا وأسرنا فيه ، ولا يعقل أن نساكن من يقتل ويهجر ويغتصب ونعطيه الأمان ، ليكرر فعلته في كل مرحلة من مراحل التاريخ تسنح له ، أو يجد من يساعده ويحرضه من الأعداء الخارجيين ( فعقد السلم الاجتماعي ملزم والخروج عنه يستوجب الحرب والعقاب ) .

الجريمة الحالية في سوريا تقع في مستويين :

1- مستوى شخصي مدني : عندما بدأ النظام المجرم بحربه ضد الشعب الثائر ، شاركه في هذه الحرب من يعملون في مؤسساته كأفراد ، وهم بذلك يتحملون المسؤولية شخصيا عن هذه الجرائم كمشتركين ، ولا يعفيهم أنهم موظفون ، لأن مؤسساتهم قد خرجت عن مهامها وعن القسم الذي أقسمته في خدمة الشعب والدفاع عنه واحترام القانون ، كما أن الأوامر الوظيفية ليست أقوى من القانون الذي طاعته أولى وملزمة دستوريا للجميع ، والراتب الذي يتلقوه لا يلزمهم بمخالفة القانون ولا يحولهم لعبيد وقتلة، وهكذا كل من تابع عمله ورفض الاستقالة من وظيفته في النظام المجرم ، هو جزائيا مشترك في الدم كائنا ما كان منصبه في السلطة ، والفارق بين الآمر والمأمور في هذه الحال ليس كبيرا ، فالعدالة تجرم الجيش العربي السوري كاملا ، ومؤسسات الأمن كاملة ، وحزب البعث والجبهة التقدمية ، والحكومة ، ومجلس الشعب ، وحتى مؤسسة القضاء والإعلام والفتوى كمؤسسات ، وبكل عناصرها في جريمة ذهب ضحيتها نصف مليون انسان ، وعلى العدالة واجب اقامة الحد عليهم كمؤسسات وبشخوصهم ، وكذلك على الأحزاب التي أيدت ، أو التي خففت من قيمة الجريمة أو تسترت عليها ، وعلى الدول المساندة ماديا ومعنويا ( هذا على المستوى المدني). لكن العدالة الانتقالية تقفز فوق كل ذلك .

2- مستوى مكوناتي مؤسسي وأهلي (طائفي وقومي ): عندما حول النظام الحرب مع شعبه لحرب أهلية طائفية بعد فشل مؤسساته القمعية في استعادة السيطرة ، وأشرك في هذه الحرب ميليشيات وقوى طائفية داخلية وخارجية ، ومارس عمليات الإبادة والتهجير والتدمير المنهجي بحق مناطق وطوائف وقوميات محددة وبشكل مقصود ومن دون تمييز … فقتل نصف مليون بكل أنواع الأسلحة ، وربع مليون صفاهم في السجون بدم بارد لسبب طائفي ، وهجر عشرة ملايين ، ودمر نصف عمران سوريا ، وما يزال يقتل ويهجر … ويشترك معه وبشكل متزايد ميليشيات طائفية وأقلوية ، والضحية واحدة دوما هم الأغلبية من العرب السنة دون تمييز بينهم … فأوجد جريمة حدثت على المستوى الأهلي، وقسم الشعب عاموديا بين مجرم وضحية وساهم بتوليد منظمات التطرف والانتقام المضادة . وهذا ما ترفض أن تلحظه العدالة الانتقالية جملة وتفصيلا .

مع أن الطوائف والأقليات كمؤسسات تعلن عن نفسها وتطالب بحصصها والاعتراف بها كمكونات متمايزة ( علوية وشيعية ، وآشورية ومسيحية ودرزية ، وتركية وكردية …) وهي تركيبة كل من الائتلاف والنظام حاليا : الذين يتنافسون على تمثيل الشعب و القائمين على المحاصصة العامودية الأهلية … لذلك هذه المنظومات الأهلية مسؤولة كمكونات ومؤسسات (تطلب الاعتراف السياسي بها) عن مواقفها وسلوك مقاتليها ، وبالتالي تشترك بصفاتها الاعتبارية بالمسؤولية القانونية طالما هي تعتبر نفسها شريكا (بهذه الصفة الاعتبارية ) في الحياة السياسية . وعندما تدان مجموعاتها العسكرية بأي جريمة ، لابد منطقيا أن تطبق العقوبة الأهلية بحق هذه المجموعات كمجموعات ، وتطبق بحق مكوناتهم عقوبة منع الإقامة إضافة للقصاص من الفاعلين و دفع الدية لأصحاب الدم ، ولا يملك أحد أو جهة صلاحية تضييع هذا ، فحق الدم غير قابل للتفويض ، وعليه ولكون العدالة هي أساس السلم الإجتماعي ، ولكون الجريمة الحاصلة هي جريمة هائلة الحجم ، وارتكبت بشكل قصدي ومتعمد نيابة عن طوائف ومكونات وباسمها وبمباركة شيوخها وزعمائها المعلن والمستور ، فهذا يعطي الضحايا أولياء الدم (كجهة اعتبارية أيضا ) حق رفض تجديد عقد العيش المشترك مع الجاني الذي خان عهده ، والمطالبة بتطبيق القصاص عليه ،و عقوبة منع الإقامة على المكونات التي شاركت عن قصد باراقة الدماء البريئة وتدمير صيغ العيش الانساني وعادت للوحشية … هذه الدماء ليست رخيصة على أهلها القادرين على تحصيل حقهم قصاصا أو بالحرب ، من خلال مؤسسة العدالة ، أو بشكل همجي من دونها إذا تم تعمد تغييبها .

هذا هو القانون والعرف والدين والحق ، فإذا غاب أو غيّب ، فسوف يعمل هنا حتما قانون الثأر الجاهلي … لذلك نعتبر أن تطبيق العدالة الحقيقية وليس الانتقالية ، هو المخرج الوحيد لاستعادة السلم ، وإظهار الحق هو بوابة وحيدة للتسامح والعفو لمن أراد ، والذي هو أقرب للتقوى.

وما أرجو ايضاحه : أن تفاقم ما يجري من جرائم طائفية وقومية سببه عدم تطبيق العدالة عند أول جريمة ، وسببه اعطاء المجرمين الحصانة تلو الحصانة وتبرير أفعالهم وافلاتهم من العقاب ، ، وما تغيّب أهلهم عن التحرك الحاسم منذ البداية لردع المتجاوزين من أبنائهم ووضعهم أمام العدالة ، إلا لأن العدالة الأهلية مغيبة منذ زمن طويل ، فلو طبقت لتحركت الطوائف كمجموعات ضد المجرمين من أبنائها لكي لا يكونوا كلهم شركاء … لذلك فإن الاستمرار في هذا الموقف سوف يؤدي طبيعيا لتضييع حقهم بالعيش فوق هذه الأرض كمجموعات آمنة لا تنطبق عليها شريعة الاستباحة والسبي ( التي عادت للظهور بسبب تغييب الحق والعدالة الأهلية) .

كما أن سكوت العرب السنة عن ردات الفعل الهمجية التي ترتكبها ميليشياتهم بحق الجهات المحايدة ضيّع أيضا حقهم في العدالة، وحولهم من ضحايا إلى مشتركين في الجريمة والهمجية، يتساوون فيها مع غيرهم، بل ارهابيين بحكم هويتهم …. ففقدوا حقهم في القصاص عن طريق العدالة ، وشتان بين الدفاع المشروع، وبين العدوان الانتقامي … وهذا يقصد به المجموعات الجهادية التي تنصب نفسها فوق العدالة وتبرر لنفسها القصاص من دون تبين واحتكام لجهة نزيهة … وهذا خطير أيضا ومدمر . يركز الغرب فقط عليه ليحول الضحية لارهابي في مسعاه لتبرير جريمة الأقليات بحق الأغلبية التي انتفضت لتنفض عار الذل والهوان عنها ، فتقوم داعش المشبوهة باسم السنة وولايتها عليهم بتدمير حقوق الضحايا وعدالة وأخلاقية مطالبهم ، وبذلك تستكمل الجريمة بحقهم ، بارتكاب بشاعاتها وتتعمد تصويرها ونشرها خدمة لمن يقف وراء داعش ، وما أدراك ما داعش .

وقد بدا واضحا أن النظام بمؤسساته قد ارتكب جرائم بحق الانسانية ، وأيضا داعش بمجمل سلوكها ، وكذلك ميليشيات الحماية الشعبية الكردية ، وحزب الله اللبناني ، والميليشيات العراقية ، واللجان الشعبية المحلية … بينما تراوح جبهة النصرة في برزخ بين الاتهام والإدانة ، (نحن ننتظر منها القصاص من مرتكبي جرائم الإبادة) … ويقوم الدروز حتى الآن بدور دفاعي مع بعض التجاوزات المقلقة من لجانهم الشعبية ، أما الطائفة العلوية فقد فشلت حتى الآن في التعبير عن موقفها الواضح مما يجري على يد النظام الذي تنخرط فيه بأغلب شبابها ، واستقالت من لعب دورها الوطني المتميز عن نظام الحكم ، ومجلس الملة المتحكم بها ما يزال متخفيا خلف النظام ، وهي بذلك تعتبر شريكة له ، إذا لم تتحرك سريعا وبشكل حاسم لكف يد النظام والتخلي عنه …. كما أن الدولة الإيرانية واللبنانية والعراقية شريك مثبت تورطه في الدم السوري ، ويجب أن يترتب على ذلك عقوبات رادعة في المستقبل تضمن عدم عدوانيتهما مرة أخرى : من نوع نزع سلاحها ، وتفكيك ميليشياتها ، واجبارها على دفع التعويضات المالية ، ووضع نظم رقابة دولية عليها .

أما بقية مجموعات الجيش الحر والحركات الإسلامية ، فانتهاكاتها تبقى ضمن حدود الخروقات الفردية طالما هي لم تعتمد الإبادة كسياسة ، وطالما التزمت حدود الدفاع عن النفس ، أو حتى سياسة الردع ضمن حدود مبدأ العين بالعين . ولم تفرِط وتغالي ، ولم تبادئ من لم يبادئها بالعدوان ( نسجل هنا خرق النصرة لهذا المبدأ في قرى ادلب الدرزية عين اللوزة ، والذي نعتبره مؤشرا خطيرا على مقدار التزامها بقوانين الحرب ) ( ونسجل أيضا انتهاكات جيش الإسلام في الغوطة بحق معارضين لم يقاتلوه، بل بادأهم هو الحرب والاعتقال حبا في التسلط ، واستهدافه العشوائي للأحياء السكنية من دون ضرورات قتالية ملحة ) ، أما الدعم العسكري من الدول الصديقة للمعارضة فهو يقع في اطار مساعدة المجني عليه للدفاع عن نفسه ، وهذا ضمن نظام العدالة والقانون الدولي ، بل هو مسؤولية انسانية ( الحق في الحماية) .

نعم قد نختلف في القضايا الأيديولوجية ، والسياسية ، والعقيدية ، ونتباين بالهويات ، و ذلك لا يمنع اجتماعنا معا وشراكتنا لوطن واحد ، لكن لا يجوز أن نختلف في العدالة التي تضمن السلم بيننا ، ولا شيء غيرها يعيد وطننا وصيغة عيشنا المشترك . فمن دونها ستندلع الحرب ، وما هو أشد من القتل … ومع ذلك للحرب أيضا قوانين ، تخاض بشرف أو ترتكب فيها جرائم ، وكل مكون حتى في حالة الحرب لا يتبرأ قولا وعملا من المجموعات التي تحمل علمه وترتكب الجرائم الحرب باسمه ، وكل مواطن لا ينشق عن النظام أو عن طائفته التي ترتكب الجرائم ويشكل كيانا معارضا لها ، يقع أيضا تحت طائل العقاب ، ولذلك ينتظر من الطائفة العلوية مجتمعة ، أو على الأقل من قسم منها اعلان ادانته للنظام وجرائمه ، وكذلك بقية الأقليات ، خاصة من الكرد الذين يقومون بتهجير العرب مقلدين أسلوب ايران ، وأهم منهم جميعا العرب السنة الذين لا يضربون على يد أبنائهم عندما يتجاوزوا حدود القانون والعرف التي هي حدود الله … فهم لا يرتكبون الجريمة بحق غيرهم فقط ، بل بحق طائفتهم التي ستفقد حقها في تطبيق العدالة ، وتضيع دماء شهدائها في مستنقع للجريمة المتبادلة . فالمطالب بالعدالة عليه أن يبدأ من نفسه … (والله لو فاطمة بنت محمد !! )

نتيجة :   إن تغييب العدالة لا يلغيها ، لأن الثأر والانتقام هو الأساس الطبيعي الذي قامت العدالة على تنظيمه ومأسسته وأنسنته ، واقتصارها على العدالة المدنية والانتقالية ، لا يلغي المفهوم الشعبي الديني بالعدالة الأهلية ، وهو ما سيطلق يد الأفراد والمجموعات في الانتقام والثأر الشخصي والجماعي والطائفي . فما حدث في سوريا هو عودة للوحشية والفظاعة بسبب تغييب العدالة والحقوق .

هناك طوائف ومجموعات قومية تشكل حالة تنظيمية متطورة ولها مجلس ملة أو هيئة عقل أو بناء كنسي أو مجلس وطني وهيئة عليا ، أو مرجعية دينية مقلدة ، أو دار افتاء … وهي بذلك تتحمل المسؤولية الأهلية كشخصية اعتبارية متكافلة متضامنة … إلا من يخرج عن طاعتها ويتبرأ منها ويهجرها قولا وعملا .

مفهوم العدالة ذاته ليس كميا ولا نوعيا ، بل سببيا يركز على التصرفات التي أدت لاندلاع حالة العدوان والحرب وتفاقمها ، ويفصل ويميز بشكل واضح بين عنف العدوان وعنف الدفاع الذي يصبح مشروعا ، ويحمّل المسؤولية الجنائية للمتسبب . لأن المفروض بالانسان عدم مباشرة العدوان وتجنب الأسباب التصعيدية ، ومن حقه أن يدافع عن نفسه ، ومن دون دراسة تسلسل السبب والنتيجة وتتابع الأحداث لا يمكن تبيان العنصر الجرمي وتوزيع المسؤوليات . فالتحجج بأن القتل متبادل ، وبالتالي اعلان العفو عن الجميع هو طمس للعدالة ومساواة بين المجرم والمدافع عن الحق ، وفتح باب لتجدد العنف والعودة للوحشية .

خاصة وأن هذه الجرائم التي تقع على يد المجموعات الدينية والقومية ، أو التي تقع عليها ، لا تموت بالتقادم كما هي الجرائم الفردية .

لسنا قضاة لنحاكم ونحكم ، لكننا من أنصار الحق والعدل ، نتعهد بالعمل مع حقوقيين سوريين ودوليين محايدين . على تنظيم محكمة اعتبارية عادلة ، تنظر في القضايا الجرمية التي حدثت فوق أرض سوريا كدولة فاشلة ، لتجريم كل جهة تمعن في جريمتها ، ولتبيان الحق الذي هو أولى بالاتباع … وهذا أفضل من اطلاق عمليات الانتقام بشكل منفلت .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )

فسوريا التي كانت مهد الحضارات ومركز الكثير من الصراعات ، مدعوة من جديد للاخيار والابداع ، ولكشف عيوب النظام العالمي الذي تقاطع وتحارب فوق أرضها التي هي وسط العالم … لا أعتقد أن استعادة الوطن السوري ستتم عبر نصر عسكري لأيديولوجيا صراعية ما، ولا أعتقد أن كسب المعركة سيؤدي لإزلة هوية المهزوم، ولا أدعو أي عضو في مكون أن يخون مكونه وينضم للجهة الأخرى من جبهات القتال ضد أهله ، بل أدعوا الجميع لكف الأذى والضرب على يد الآثم من داخل كل مكون يدخل في الصراع، لأن السكوت عن الجريمة سيحولنا جميعا لضحاياها، بينما نصرة العدالة والحق هو نصر للجميع ومخرج وحيد نحو السلم والاستقرار … تلك هي حدود الله التي فطر وجودنا الاجتماعي الإنساني عليها ، ولن يفلح من يخالف حدود الله وسنن خلقه.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)

… لا يفهمنّ أحد كلامي على نحو خاطئ ، فأنا ممن تعرض وأهله للقتل والاعتقال والتهجير … مجرد ضحية من ملايين الضحايا ، تحاول التذكير بالقانون الذي تعارفت عليه البشرية وسمي بالعدالة ، ولا أفتي بشيء ، لكنني أدع كل إنسان للتبصر فيما تكسب يداه وما سيكون عقباه …   فالعدالة قد تكون قاسية أحيانا أو تتطلب ذلك .. لكن البادي أظلم . هذا ما يجب أن تفهمه الأقليات ، فجيوش الأجنبي تأتي وتذهب ، لكن شريك الأرض باق وله ذاكرة جمعية متوارثة اسمها الهوية التاريخية … لنتذكر كيف انتقم الصرب المسيحيون الكاثوليك ( غير الإرهابيين ) من مسلمي البوسنة وكوسوفو بعد مئة سنة من رحيل الجيوش العثمانية بمباركة أوروبية ؟ ولنلعب دورنا في الافادة من دروس التاريخ وتطوير نظم الحضارة.

الحروب عادة تدخل عميقا في ذاكرة الشعوب وتساهم في تكوين هويتها التاريخية، لذلك فسلوك أي شعب أو مكون أثناء الحرب سيكون له أثر على المدى الطويل … ودخول أي بلد مرحلة الحرب ستعيد تكوينه جذريا …. و الحرب الأهلية الدائرة في سوريا وكل المنطقة لن تتوقف إذا أصر كل طرف على أخذ ثأره بيده ( حالة الوحشية ) ، ولن تتوقف بالحل السياسي الأبله ، ولا بالعدالة الانتقالية الوهمية، بل لا بد من تطبيق العدالة الحقيقية المدنية والأهلية والشرعية وبشكل محايد ونزيه وعلى الجميع ( التحضر ) … والتي تبدأ بتحمل كل مكون مسؤولياته تجاه أفراده و قواته المسلحة وسلوكها : سنة وشيعة وعلويين ودروز وكردا وعربا ومسيحيين وأرمن وأحزاب وهيئات … ومن ينجح يبقى في دار السلام بقوة العدالة … ومن يفشل يخرج أيضا بقوة العدالة لدار الحرب ، أو يحل نفسه ويذوب في غيره … فالقوة هي للحق ، والعدل هو ميزانه ، وفيه العزة والمنعة والتحضر والدين …

بعد تطبيق العدالة وسيادتها تتوقف الحرب وتبدأ السياسة بين من يلتزم بمعايير العدالة فقط … فحق العيش على هذه الأرض هو فقط لمن يحترم نظام العدالة الضامن للسلم ، الذي من دونه نعود للوحشية … وحتى ننجح في اقامة العدالة وإطلاق السياسة ، سوف يستمر الصراع قائما حتى يخرج منها الأعزُ الأذلَ ، ولا عزة إلا بالله الحق العدل السلام المهيمن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.