د. كمال اللبواني
بعد أن تقطعت بنا السبل وتشردنا في أصقاع الأرض ، صار البحث عن الوطن الضائع يتطلب السير نحو العواصم من نيويورك لموسكو لاستانبول لجنيف وأخيرا للأستانة ، وبعد أن فشلنا في انتاج أي حالة سياسية جامعة ، أو قيادة موحدة لها قيمة تمثيلية ، ودخلنا في تنافس وتنازع وحرب مع الجميع وبين الجميع ، صار الآخر هو الذي يقرر مصيرنا متغطيا بمن يدفع لهم من السوريين المرتزقة المستعدين للذهاب أينما كان …
ضاع الوطن وتشتت الشعب وسقطت الرموز والقيادات في مجارير السياسة وتجارة الحرب ، وهمش من أبى ، فأصبح التمسك بمن تبقى من الأصدقاء هو التعويض عن خسارة الوطن ، بعد أن سقط الكثير منهم شهيدا في المعارك أو تمت تصفيته في السجون ، أو مات بأمراض مستعصية من كثرة الهم ، وتشتت الباقي وصار التواصل معهم عبر غرف الدردشة فقط .
لم أتخيل أن عملي في مؤسسات المعارضة بعد اندلاع الثورة سيفقدني ذلك العدد من الأصدقاء حتى الذين بنيت صداقتي معهم على شراكة النضال والسجن والزنزانات وتحدي النظام … ولم أتخيل أنني سأفقد القدرة حتى على تحية بعضهم بعد كل تلك التجربة الحميمة … فالتحدي والتضحية والمعاناة توجد ظروفا جامعة وروابط قوية ، بعكس الامتيازات والمناصب والتنافس على المنابر والزعامة التي تولد مشاعر عداء تفوقت على مشاعر عداء النظام … فقد أوجدت مؤسسات المعارضة مناخا مدمرا لكل الروابط بين الأشخاص الذين وضعوا على مضمار تنافس (غير شريف) على امتيازات لا تحصّل بالعمل والتضحية والشجاعة والكرامة والأخوة والمحبة ، بل بإستبعاد الآخر والانتهاز والتبعية للدول الفاعلة في الملف السوري والتي صممت هذه المؤسسات تبعا لرغباتها … بحيث يستطيع بحصيلة التجربة أن يدعي كل فرد أن أعز أصدقاءه قد خذله وخانه وباعه عند أول منعطف ، و باع المبادئ والقيم والقضية من أجل الكراسي والمال والوجاهة الفارغة المبنية على خذلان الذين ندعي تمثيلهم ودفعوا أفدح الأثمان … وبذلك نكون قد وضعنا آخر مسمار في نعش الوطن الممزق المحتل المدمر الذي سيدفن في الأستانة … بعد أن تصلى عليه هناك صلاة جنازة الغائب بمن حضر.
لم أعد استغرب ما يروى من قصص وحكايا عن فساد هذا المناضل أو ذاك ، ولا عن وكالته وتبعيته ، ولم أعد أتفاجأ بهم يهرولون للعودة لحضن النظام … ولم يعد بإمكاني تفسير ذلك بأنه سقوط فردي، فقد أصبحت ظاهرة عامة بل تيار تسير عليه كل المعارضة بقدها وقديدها بما فيها من ادعى تمثيل الأرض ومعارضة الخنادق … المعارضة كلها تسير اليوم صفا نحو الأستانة لتسلم أوراقها وبنادقها وشرفها للمحتل والغازي والقاتل … وتنعي من هناك ما كان يسمى وطنا وثورة وحرية وكرامة … فننعي نحن أيضا صداقاتنا كلها . ونحتسب أمرنا إلى الله بعد أن نبكي على الذين فضلوا الشهادة في أزقة حاراتهم وعند أبواب منازلهم ، ولم ينتظروا من أحد أن يقدم لهم شيئا أو حتى يتذكرهم …
في بلدان التشرد وبفقدان الأصدقاء تعيش غربة ووحدة مطبقة … وتدخل في اكتئاب عميق منفرد لا مدخل له ولا مخرج … ويفقد كل شيء معناه وقيمته … وتعيش فيه ذكرياتك مع غرف السجن الانفرادي ، مع فارق هو ضياع الأمل بالحرية والخروج والعودة … ماذا ننتظر بعد أن قام الأصدقاء ذاتهم ببيع قضيتنا ووقعوا على وثيقة التنازل عن الوطن وعن ثورة الحرية للمحتل والغازي وعادوا لخدمة المستبد … ما أبشع الانشقاق المعكوس الذي يسمونه عودة للرشد ، ما أقبح ما تفعلونه يا من كنتم أصدقاء باسم الحل السياسي … أصبحت فعلا أشعر بالقرف لمجرد التفكير بالعودة للوطن خاصة إذا أصبحتم أنتم أيضا جزءا من حكامه .
هل تتوقعون أن يبنى وطن من دون عدالة ومن دون حرية ، وكيف ستكون عملية اعادة الاعمار في ظل دولة الفساد والمافيات … وأي دستور سيكتب وأي انتخابات ستجري بغياب نصف الشعب . لو كانت موسكو جادة قليلا لما هجرت أهل حلب ، أو لباشرت في اعادتهم بعد أن انتشرت شرطتها … أما أن تذهبوا لتوقعوا السلام وشعبكم يهجر فهي نهاية وطن وقضية .
وهكذا وبعد أن دفنت سوريا على طريق الأستانة ، لم يبق إلا أن نبحث عن قبر لنا في بلاد الغربة . لأننا لن نعيش حتى يكبر من ولد في الخيام ويخوض حربه باحثا عن وطن ضيعتموه .