النفط السوري بين النظام و«داعش» وعشائر دير الزور

 لم يدخل النفط السوري يوماً في الموازنة العامة للدولة، كما لم يسمح لأحد بمناقشة هذا المورد الاقتصادي الوطني عبر العقود الأربعة الماضية، بل اعتقل العديد من رجالات الدولة وأعضاء مجلس الشعب الذين حاولوا فتح هذا الملف، وعلى خلاف ما توقعه السوريون لم يتغير الوضع بعد اندلاع الثورة السورية، إذ بقي النفط السوري في أيد (أمينة) عندما سيطرت على منابعه بعض الفصائل المسلحة التي تنسب نفسها إلى الجيش السوري الحر وإلى ثورة الشعب السوري، ليأتي بعدها التنظيم المتطرف (داعش) ويستولي بالقوة على حصة الأسد من النفط السوري.
تسيطر العديد من المجموعات العسكرية على معظم آبار النفط في دير الزور، وتتبع تلك المجموعات للعشائر الموجودة في المنطقة، حيث اتخذت كل عشيرة عدداً من الآبار ملكية خاصة تتصرف بها، ويعتمد أسلوب تقسيم الحصص من الآبار النفطية على قوة العشيرة وعدد شبابها المسلحين، ويعتقد أمراء العشائر أنهم يحصلون اليوم على حقهم من النفط السوري الذي حرمهم النظام منه لعشرات الأعوام.
وتحتوي محافظة دير الزور على أحد عشر حقل نفطي، أقيمت حولها العديد من مصافي النفط المتحركة التي يمكن نقلها من مكان لآخر، ويستعمل تجار النفط الجدد عدة طرق لتكرير النفط كالحرق وما إلى ذلك من طرق بدائية تجعل منطقة التكرير منطقة تلوث بيئي رهيب لا يمكن العيش فيها، إذ ينتشر الدخان الأسود على شكل سحب تغطي تلك المناطق، بينما يرى أولئك أن التعرض لهذا التلوث أمر غير هام بالنسبة لما يحصلون عليه من مبالغ خيالية ناتجة عن تجارتهم الرابحة تلك، حيث تحول بعضهم من عامل فقير إلى ثري ذي سلطة لا تعادلها سلطة.
مؤخراً وبعد امتداد نفوذ تنظيم دولة العراق والشام (داعش) على مساحات واسعة من دير الزور، سيطر التنظيم على أكبر الآبار في المنطقة وأهمها، بينما ترك بعض الآبار قليلة الإنتاج لعدة عشائر ممن أعلنوا ولاءهم للتنظيم، ليبدأ التنظيم ببيع النفط بأسعار تشجيعية تتراوح بين عشرين إلى ثلاثين دولاراً للبرميل الواحد، ويقوم التنظيم ببيع النفط لتجار النفط ذاتهم وبالتحديد الذين أعلنوا ولاءهم لقيادات داعش.
ومن الجدير بالذكر أن خلافات كبيرة تحدث بين العشائر أحياناً حول بسط النفوذ على آبار النفط في مدينة دير الزور آخرها ما حدث منذ شهور وأسفر عن مقتل ثمانية أشخاص وجرح سبعة عشر شخصاً من عشائر الهلامية والمشهور والعلي وذلك عندما اندلعت معارك تتعلق بالإخلال بالاتفاقيات التي أقيمت في وقت سابق بين رجالات العشائر، وبعد المعارك الدامية تدخلت عشيرة البكارة لحل الخلافات بكل ثقل شيوخها في المنطقة ووصــــلت إلى صيغة توافقية بين القبائل المتنازعة.
يتم نقل براميل النفط في شاحنات صغيرة من المنابع إلى مختلف مناطق الشمال الواقعة تحت سيطرة الجيش الحر والكتائب الإسلامية، حيث يباع جزء منه داخل الأراضي السورية ليتم تكريره وفرزه من قبل مختصين أقاموا العديد من المصافي البدائية، أو يتم تهريبه مباشرة إلى تركيا عبر عدة منافذ يسيطر عليها أتراك من قرى وبلدات حدودية ويقومون بتسهيل مرور تلك الشحنات مقابل عمولات متفق عليها، أو يقوم بعضهم بشراء ما تحمله تلك السيارات ليصرفه بطرقه الخاصة.
رغم أن الجميع يعرف أن ما يمتلكه السوريون تتم سرقته لصالح جماعات وأشخاص فقط إلا أن الكثير منهم رضوا بالفتات الذي يحصلون عليه من تلك التجارة، فانتشار المصافي في ريف إدلب وريف حلب أوجد فرص عمل كثيرة كما يقدم الربح الوفير لأصحاب تلك المصافي، حيث يعمل العديد من الشباب في مهنة نقل وتكرير وبيع النفط ومشتقاته، ويؤمنون دخلاً مقبولاً لعائلاتهم المعدمة، وتبرير كل ذلك أنهم لم يستفيدوا من النفط أيام النظام مطلقاً والآن هم يحصلون على القليل وهو بكل حال أفضل من لا شيء، أما أن يفكر أحد في أن يلغي سيطرة العشائر تلك على أهم وارد وطني في سوريا، فهذا هو المستحيل الذي لا يخطر على بال احد ولا يجرؤ عليه أحد.
ينقل النفط السوري إلى معبرين هامين هما معبر باب الهوى ومعبر تل أبيض الحدودي، وتمر الشاحنات على عشرات الحواجز التابعة للجيش الحر أو للكتائب الإسلامية أو الكتائب الكردية، وكل من يمر النفط في منطقة نفوذه وسيطرته يحصل على حصة منه، فبعض الحواجز تقبل ببعض المال وحواجز أخرى تفضل الحصول على برميل ديزل (مازوت) وكل هذا محسوب حسابه بالنسبة للتاجر الذي يشتري من (ملاك الآبار) فهو يعلم ما سيتعرض له على طريقه ويسلم كل مجموعة حصتها التي ترضيها دون أي خلاف أو نقاش مع دعواته لهم بالسلامة والتوفيق.
أما على الحدود التركية فقد شغل موضوع تهريب النفط السوري السلطات التركية كثيراً، بل حدثت عدة اشتباكات مع المهربين في بعض المناطق الحدودية القريبة من معبر باب الهوى تم إطلاق النار خلال بعضها من قبل الطرفين، بل وخصصت مدرعات تركية لمراقبة الطرق ومنع تهريب النفط دون جدوى، فالحدود طويلة والمهربون لا يكلون ولا يملون من إيجاد طرائق وطرق جديدة.
مؤخراً اكتشفت السلطات التركية أنبوباً نفطياً يعبر الحدود ويتم ضخ النفط ومشتقاته من خلاله في منطقة قريبة من باب الهوى، وحسب حسان الشاب الذي كان يعبر الحدود يومها، قامت السلطات التركية بإزالة هذا الأنبوب، ليعود التجار المهربون إلى الطرق التقليدية واستخدام السيارات التي تفرغ حمولتها إلى سيارات تركية تنتظرها عادة ليلاً على الشريط الحدودي حيث تعقد الصفقات وتنفذ بنودها.
يومياً تدخل كميات هائلة من النفط السوري عبر الشريط الحدودي التركي بالقرب من بلدة حجي باشا التركية والمقابلة لبلدة عزمارين في ريف إدلب، ويتم نقلها إلى موزعين وتجار في مختلف مناطق ولاية هاتاي التركية في سيارات شاحنة تسلك الطرق الفرعية والزراعية، كما يستخدم المهربون أيضاً طريق بلدة الحامضة التركية وتشاهد خلال الليل أرتالاً من السيارات تنقل النفط عبر الطرق الزراعية وأحياناً الرئيسية عندما لا تتواجد قوات الجندرما التركية في المكان.
ولدى المرور على الطريق الواصل بين حجي باشا والطريق الرئيسية التي تصل بين معبر باب الهوى وأنطاكية، تشاهد بقعاً سوداء على الطريق الرئيسي والفرعي أيضاً، فتكرار مرور سيارات تهريب النفط ومشتقاته من المنطقة واستمرار تسرب المواد تلك من البراميل والخزانات البلاستيكية الصغيرة يلون الطريق ببقع نفطية كبيرة تكاد أن تغطي النصف الأيمن من الطريق، بل وتنبعث رائحة المازوت نفاذة من الأرض، فالأمر لم يعد مخفياً بل ما يحدثه من علامات وروائح يفضحه بشدة.
حاول الكثير من قادة الفصائل العسكرية الوصول إلى اتفاق مع لصوص النفط بحيث يتم تمويل كتائبهم بالسلاح من خلال تخصيص جزء من عائدات النفط لذلك، كما أنهم وعدوا من قبل أولئك بتقديم الدعم والمساعدة إلا أن ذلك لم يحدث مطلقاً، ما دفع بعض قادة الفصائل إلى الاشتراك في هذه التجارة وشراء النفط ومن ثم تكريره وبيعه والاستفادة من أرباحه.
كما ذكرت العديد من المصادر حوادث فريدة من نوعها تتعلق بلصوص النفط، وتعبر عن الترف الذي وصلوا إليه، إذ تقول بعض المصادر أن هؤلاء توقفوا عن عمليات عد الأموال التي تصلهم بل أصبحوا يستخدمون الوزن لمعرفة المبلغ، بحيث يتم تحديد وزن رزمة المئة ألف مثلاً ويحسب المبلغ وفق وزنه، بل تجاوز البعض ذلك ليقولوا أن أحد أمراء النفط أراد أن يشرب الشاي فأشعل كومة من النقود الورقية ليغلي إبريق الشاي على لهيبها.
والأكثر من ذلك أنهم يصفون أنفسهم بالثوار لكنهم يبيعون النفط لقوات النظام السوري، ويبررون ذلك (حسب المدرس الديري أسعد) أن النظام سيقطع الكهرباء عن المدينة وريفها لو امتنعوا عن بيعه، فهم حتى بذلك يقدمون خدمة للمواطن المسكين حسب قولهم.

محمد إقبال بلّو – القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.