يثب

بعد فشل جنيف… استراتيجية المناطق العازلة

 

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بات واضحا فشل التوافق الأمريكي الروسي على حل الأزمة السورية دفعة واحدة عبر مسار جنيف الهادف لإعادة انتاج النظام بشكل جديدة لأسباب عديدة منها :

  • أن النظام ارتكب كل أنواع الارتكابات وأمعن في دماء شعبه .
  • النظام متكلس ومرتبط بشخص وعائلة وطائفة ومفصل على قياسهم … ولا توجد بنية وطنية للدولة العميقة في نظامه العصبوي الطابع .
  • متحالف مع ايران التي أصبحت تسيطر عليه .
  • كل ذلك انعكس اصرارا عند الشعب السوري الثائر الذي أصر على مطلب اسقاط النظام بكافة رموزه وتفكيك بناه ، ورفض أي مسار تصالحي معه بالقفز فوق العدالة ، ويرفض كل أشكال الهيمنة الايرانية .

وقد صار من الضروري الانتقال للخيار الثاني المتمثل في اقامة مناطق عازلة ، الذي كنا وما زلنا نطالب به بديلا واقعيا عن جنيف الذي توقعنا له الفشل ، وأسباب ضرورة هذا الانتقال عديدة :

  • تفاقم الأوضاع الانسانية بشكل غير مسبوق ،
  • انتشار المجموعات المتطرفة وتحولها لدول ،
  • فشل كل المحاولات والمسرحيات الهزلية لاحلال السلام التي قامت بها المنظمات الدولية وسارت بها المعارضة المتسلقة ، والتي لم تكف حتى الآن عن عقد المؤتمرات وتصدير أوراق الاعتماد للغرب تاركة الشعب لمصيره .
  • تعنت النظام ورفضه لكل أنواع الحلول ، رغم ضرب الأمريكي والروسي رأسهم في الجدار عدة مرات وكذلك وكلاءهم من انتهازيي المعارضة السورية في الداخل والخارج ،
  • خطر تحول الاتفاق النووي مع ايران لحافز لها في الهيمنة على المنطقة ،
  • ضرورة امتحان التزامها بتفاهمات الاتفاق التي تقضي باحترام ايران لاستقرار الدول ( أي امتناعها عن اثارة النزاعات والصراعات )
  • تطمين الدول الاقليمية أن التوافق مع ايران ليس على حسابها .
  • فشل سياسة توظيف الصراع كأداة استنزاف للقوى المعادية التي ثبت تعاظم قوتها نتيجة هذه السياسة ( خاصة القاعدة ) ، وبعد احجام ايران والنظام عن مهاجمة داعش بل توفيرهم لها السلاح والعتاد ودفع الحاضنة الشعبية لمبايعتها ، وبعد تحالف النصرة مع العديد من المجموعات المقاتلة في سوريا ، وممانعتها للانخراط في صراع مع داعش .
  • عدم وجود حليف سني يحارب التطرف من دون مشروع ينهي النظام والاعتداء المليشيوي الشيعي .

لذلك بدأت الأمور تتجه لتطبيق الخطة الثانية البديلة عن فشل جنيف ، وهي إقامة المناطق العازلة ( الآمنة ) تحت مبررات كثيرة :

  • تطبيق القانون الدولي الذي ينص على الحق في الحماية للمدنيين ، في مواجهة استمرار النظام في استهدافهم بكل صنوف الأسلحة وبشكل همجي وعشوائي مقصود ، مما يؤدي لتفاقم الأزمة الانسانية ،
  • تأثير الأزمة في سوريا على دول الجوار والعالم ، حيث يبيح القانون الدولي للدول حق الدفاع العميق داخل الأراضي السورية اتقاء لشر تهديدات أمنية أو ارهابية تطال دول الجوار أو دولا بعيدة ،
  • ارتكاب النظام لجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، وخرق اتفاقات حظر استعمال اسلحة التدمير الشامل
  • انتشار واستقرار المجموعات الارهابية واتخاذها للأراضي السورية كمنطلق لها .
  • سيطرة المليشيات الدينية المتطرفة على الدول التي تحولت لدول فاشلة تباعا بدءا من لبنان مرورا بالعراق وسوريا ، والتي تتجه للتوسع نحو الأردن والسعودية وتركيا وبقية الشرق العربي ومصر وشمال افريقيا .
  • انعدام أي أمل في ايجاد حل سياسي شامل وسريع .
  • فشل الدولة السورية وانفراط العقد الإجتماعي الوطني فيها .

وبعد حوار طويل روسي أمريكي ، وبعد جهد كبير بذله الأتراك والدول العربية معهم … أصبح من الموافق عليه ضمنا ، أو المسكوت عنه البدء بتطبيق هذه الاستراتيجية البديلة التي تعتمد سياسة الحل التدريجي والمناطقي ..

لذلك تفيد المعلومات القادمة من مصادر موثوقة البدء بالخطوات التحضيرية لتنفيذ اعلان منطقة عازلة في الشمال تقوم بفرضها تركيا بدعم من قطر ، يتبعها فورا منطقة عازلة في الجنوب تعلنها الأردن بالتفاهم مع السعودية، ومع دولة اسرائيل ( ضمنا ) كونها اللاعب الأقوى عسكريا والأكثر نفوذا في المنطقة الجنوبية . والتي تريد الحفاظ على اتفاقات الهدنة الموقعة مع حافظ الأسد عام 1974 ، ومع حسن نصرالله عام 2006 ، بل تأمل في تطويرها نحو صيغ للسلام أكثر استقرارا كما حصل مع مصر والأردن ودولة فلسطين . وتطمح من خلال انخراطها في الملف السوري اللبناني الوصول لسلام عام مع العرب . وهي قادرة على لعب دور ديبلوماسي مهم مع الغرب والأمريكان ومع الروس لتأمين غطاء دولي لهذه العملية ، يخفف من رجحان الكفة لصالح ايران في المشرق العربي ، وهو ما حصل عندما استخدمت نفوذها عند الروس لمنعهم من اتخاذ فيتو ضد قرار اليمن قبل انطلاق عاصفة الحزم ، وهي تبدي استعدادها للجم هذا الموقف الروسي عندما يتوفر مشروع لسوريا يبدد مخاوفها .

طريقة تعاملنا مع هذه الاستراتيجية :

  • مطلب الحظر الجوي مطلب ملح وضروري لحماية المدنيين واستقرار الحياة في المناطق المحررة وتخفيف أعداد اللاجئين
  • وجود المدنيين في مناطقهم هو العامل الحاسم في نشر الاستقرار ومكافحة التطرف ،
  • يتطلب هذا حمايتهم من طيران النظام وهمجية قواته أي تحريرهم منه ومساعدة مجموعات المعارضة المعتدلة على طرد عصابات الأسد وحزب الله وداعش نتيجة سلوكها كقوات احتلال معادية للمدنيين بعكس الفصائل الأخرى التي تعتبر جزءا من النسيج المجتمعي .
  • كما يتطلب كذلك مساعدة المدنيين على استعادة ضرورات العيش وبناء سلطة القانون .
  • مكافحة التطرف في المجتمع تتطلب خطة سياسة عسكرية وثقافية واجتماعية طويلة المدى … وبالاعتماد على قوى المجتمع .
  • هناك خطر تقسيمي في هكذا نوع من الحلول ، بسبب تمايز مصالح دول الجوار ، واحتمال انفلات المناطق البعيدة في الوسط ، وإطالة عمر الأزمة .
  • تركيا وقطر تعتمدان فريق الاخوان المهيمن على المجلس والائتلاف والحكومة ، وتسمح له بتوظيف دعمها من أجل فرض هيمنته على المجموعات الجهادية المقاتلة هناك ، وتريده أن يحكم الشمال نيابة عنها . بينما دول جوار الجنوب يرفضونه ، وحتى يتغير الموقف التركي أو الجنوبي سيبقى موضوع التقسيم الاداري أو الانفصال السياسي قائما بين الشمال والجنوب بما فيها توقع ظهور قيادة سياسية منفصلة عن ائتلاف الإخوان المستقر في تركيا ، ترعاها دول الجنوب ( مؤتمر الرياض؟ ) .
  • لكن أي وحدة تعتمد على ارادة الشعب ، وأي تقسيم لن يكون سوى عسكريا لو توفرت هذه الرغبة في الوحدة عند أغلبية الشعب . وهذا حتى الآن ثابت ومستقر .
  • تحقيق أهداف الثورة يتطلب جهدا وطنيا فاعلا ينطلق من تنظيم هذه المناطق الآمنة والاستفادة منها لتعزيز الجبهات في العاصمة والوسط ، وبناء السلطة الوطنية الجامعة .
  • المجموعات الجهادية يقع عليها واجب الانتقال من هذه المناطق بعد أن تطمئن على المدنيين فيها وتتجه لاستكمال التحرير . ولا تقف حجر عثرة في وجه هذا المشروع ، لأنه لن يُقبل سيطرة مجموعات متشددة على المناطق الآمنة، وهذا ما قد يتسبب بوقف الدعم الذي هو ضروري لكسب المعركة ضد ايران وهيمنتها .
  • من العناصر الحاسمة انتاج قيادات وسلطات محلية مرتبطة بالأرض ومصالح الناس والغاء دور المعارضات الخارجية الوكيلة التي كانت مجرد أدوات في استراتيجية جنيف وأثبتت فسادها وعجزها عن الامساك بأي ملف مالي أو اغاثي أو تنظيمي أو خدمي ، وبشكل خاص الائتلاف الذي صار عنوانا للفساد والعجز والتفريط .
  • أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تستعر النزاعات بين أمراء الحرب والانتهازيين على هذه المناطق وفيها .

تعامل النظام مع هذا الخيار :

  • محاولته اعادة احياء مسار جنيف لتفتيت الجهود وكسب الوقت وتأخير تطبيق المناطق العازلة وهو يستخدم ديمستورا لهذا الغرض .
  • تهديد طهران لتركيا بأن تدخلها في سوريا سوف يواجه بأفعال .
  • إعطاء طهران أمر عمليات لعملائها في داعش والبي كي كي لنقل العمليات الارهابية لداخل تركيا ،
  • تجنيد النظام لشخصيات في المعارضة للتنسيق بينهم ومحاولة السيطرة على المناطق العازلة ، كي لا تصبح مصدر تعزيز للهجوم عليه في بقية المناطق ، لذلك سارعت هيئة التنسيق وغيرها وقسم من الائتلاف لإعلان اتفاقهم على مشروع وورقة ، بهدف وضع اليد على المناطق العازلة وافشالها ، خدمة لبقاء النظام في المناطق الأخرى .

باختصار هناك فرصة حقيقية لوجود حل تدريجي من دون الأسد والاحتلال الإيراني و التطرف والارهاب . فمن يؤمن بمصالح الوطن والشعب ويضعها فوق الشعارات والآيديولوجيات الأخرى يستطيع أن يجد له ولأهل بيته وأتباعه مكانا في هذا المسار …. يعطيهم الأمل في استعادة حياتهم على أرض وطنهم بعد أن فقدوا من أعزائهم وممتلكاتهم ما فقدوا … والعمل على انتاج سلطة وطنية ديمقراطية تعبر عن تطلعات الشعب وتخضع له … وهذا يتطلب الأخذ بعين الاعتبار للنقاط التالية :

  • هناك احتمال جدي ، بل مرجح ، لأن يسيطر الانتهازيون والتافهون والفاسدون على المناطق العازلة ويسيئوا استخدامها ويتسببوا في افشالها ،
  • أيضا هناك احتمال أن تقع تحت سيطرة تجار الحروب والأمراء المتنازعين والمتصارعين ومجموعات التطرف …
  • وأن تصبح هدفا للارهاب باعتبارها صحوات وعميلة للغرب الكافر والعدو الصهيوني .
  • مصير دمشق وحمص وحماه هو من يحدد مستقبل سوريا ووحدتها وليس حدودها الشمالية أو الجنوبية ،
  • أهم مافي الاتفاق التركي الأمريكي هو ألا يقوم طرف باحداث تغييرات ديمغرافية على الأرض .
  • قد أثبتت التجربة أن الاعتماد على الضمائر غير المحصنة برقابة قانونية مؤسسية يؤدي للفشل.
  • إن التلاعب بهذا الخيار هو تلاعب بآخر أمل لنا في استعادة الحياة على أرض وطننا . لذلك يجب أن يواجه العابثون (تحت أي شعار أو آيديولوجيا توضع على نقيض المشروع الوطني ) بكل حزم وجدية وبشكل مؤسساتي ،
  • هناك ضرورة قصوى لانتاج قيادات حقيقية جدية بطريقة ديمقراطية ومن الداخل تكون بديلا عن القيادات الحالية التي صار عليها أن ترحل ،

فبعد أن فشلت المعارضة التي اعتُرف بها ممثلا للشعب في ادارة ثورته، وسقطت في مستنقع الفساد والتفاهة والعجز والعمالة والانتهازية ، وفي حال تكرر هذا الفشل في ادارة المناطق الآمنة … عندها علينا أن نعلن أنفسنا ليس فقط كدولة فاشلة ، بل كشعب فاشل أيضا ، وثقافة متخلفة عاجزة عن انتاج حالة اجتماع سياسي مؤسسي ، ونصبح عندها بحاجة للوصاية والانتداب من جديد، لكي نتمكن من انتاج حالة من السلم الاجتماعي والاستقرار الإقليمي …

وعلينا أيضا أن نكف عن اتهام الآخرين بالتسبب بمشاكلنا ، فنحن من صنعنا نظام الأسد المتوحش ، وعندما اكتشفنا خطأنا وثرنا عليه، عجزنا عن انتاج بديل عنه ليس مثله أو أسوأ منه ، وضيعنا الفرصة تلو الفرصة لتنظيم أمورنا وفرض ارادتنا ورسم مسار مستقبلنا الذي صار بيد الآخرين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.