يثب

لماذا هذا الفشل السياسي ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

رغم قلة الامكانات  طورت الثورة السورية السلمية التي قوبلت بالعنف قدراتها العسكرية حتى استطاعت تمريغ أنف جيوش نظامية ودول عسكرية ، ولكنها دوما كانت تفتقر للتنسيق التكاملي وانتظام الدعم ووحدة القيادة ، بل عانت وبشكل مؤثر في داخلها من الخلافات والصراعات ، التي تندلع اليوم بين المجموعات الاسلامية الجهادية المتشابهة جدا التي تتبع منهجا واحدا … فسبب عدم تحقيق الثورة لأهدافها حتى الآن ليس نقصا في قوتها بل عيب في ادارتها ، يتجلى في فشل سياسي مخزي…

فلماذا هذا الفشل السياسي ؟   

هل شخوص السياسيين هي السبب وتبديلهم كاف؟   أم هي المؤسسات التي يتم بناؤها على معايير وأسس خاطئة ؟ ، ولماذا لا تبنى هذه المؤسسات على أسس سليمة تهيئ لها سبل النجاح ؟ ، هل المشكلة في جينات الشعب السوري الذي لا يتصف بصفة الأرانب بل يحب الزعامة ؟، أم هي في مفاهيمه السياسي وثقافته ؟  هل نرمي كل اللوم على تدخلات الخارج ، ولماذا لا نحصن نحن مؤسساتنا من هذه التدخلات أصلا ؟؟ …

في هذا المقال التحليلي النظري نوضح مواطن الخلل في وعينا المفهومي للسياسة ، والذي يتسبب في فشلنا السياسي ، وبالتالي استعار صراعاتنا واستدامتها كسلطة ومعارضة ثارت عليها ، ويشرح في النهاية لماذا أخطأ ديمستورا في تقريره أمام مجلس الأمن ، ولماذا يبدو الحل السياسي الذي يتم طرحه من أغلبية الجهات سخفيا وفاشل سلفا للمواطن الذي يعيش الأزمة السورية بجوارحه …

1- السياسة و الهوية:

منذ نشوء الحضارات أي استقرار البشر في المكان واقامة الحاضرات والمدن ، نشأ نوع جديد من الروابط والعلاقات بين البشر هو الرابط الحضري أو المديني ، وصار على الأفراد أن ينتموا اضافة لانتماءاتهم الطبيعية الأهلية ( الأسرة والقبيلة والدين والجغرافيا واللغة ) أن ينتموا أيضا انتماءً صنعيا للدولة والروابط المدينية التي تفترضها مكانتهم ووظيفتهم ودورهم في العملية الاقتصادية الاجتماعية الخدمية السياسية العسكرية ، التي ترعاها الدولة كسلطة تنظم هذه العلاقات وتوحدها ، وتجعل من الحاكم أو الملك أو السلطان رمزها المتجسد . فالدولة (حتى السلطانية منها ) هي ناتج السياسة وتعبير عنها ،  وهي تقوم أساسا على الروابط المدنية وليس على الهوية الأهلية التقليدية ، لذلك فالدولة إما أن تكون مدنية أو لا تكون دولة أصلا …

تخيل مثلا طبيبا يداوي الناس بمعايير تختلف باختلاف هوياتهم العشائرية أو انتماءاتهم الفكرية ، أو قضاء يفعل ذلك ، أو سائق تكسي ، أو تاجر في سوق أو منتج لبضاعة … أو مؤسسات دولة توزع المياه والخدمات بشكل حزبي أو طائفي أو عشائري …  فورا تنهار الوظائف المدنية وتتحطم البنى السياسية وينفرط العقد الاجتماعي السياسي وينهار السلم الاجتماعي وتندلع الصراعات وتفشل هذه الدولة …. لذلك كانت القبلية والعشائرية والطائفية … ومعظم الروابط الأهلية روابط نقيضة للدولة التي هي حتما تقوم على الروابط المدنية القانونية. والتي لم يثبت نظام تقوم عليه الحياة السياسية أنجع من النظام الديمقراطي لها … لهذا كان شعار الدولة المدنية الديمقراطية هو الشعار الوحيد الذي يمكنه وضع حد للحرب الأهلية واستعادة السياسة كطريقة لصيانة العيش المشترك والحفاظ على السلم الأهلي الاجتماعي …. فالبنى الأهلية التي تحدد الهويات إما أن تكون مفصولة عن الدولة والسياسة، أو يوضع لها نظام خاص لا يقوض نظام هذه الدولة المدني السياسي … وهذا عادة ما يوضع تحت باب العلمنة التي تفهم كنقيض للدين ، بمقدار فهم الدين كسلطة بشر ونظام للحكم .

والمشكلة تظهر داخل السياسة  عندما نقحم بها الهوية الأهلية ( دولة العشيرة ، أو مزرعة العائلة ) أو نحول الحزب السياسي إلى هوية راسخة وانقسام عامودي ثابت ( حزب طائفي أو جماعة دينية عقيدية ) … ثم نحزب الدولة والمؤسسات التي تنتفي عنها صفة الوطنية ، فيتحول التنافس السياسي الطبيعي البناء ، إلى صراع تآمري بين الهويات يدمر الشأن العام ، وهذا ما حصل للسلطة و المعارضة على السواء في سوريا وتسبب بفشلهما وفشل سوريا، دون أمل قريب في استعادة الحياة فيها كدولة سياسية .

فالتناقض بين السياسة والهوية هو تناقض تأسيسي ، السياسة باعتبارها عقد اجتماعي يرسم طريقة تحقيق المصالح والمنافع والحصول على الثروة والسلطة وتقاسمها بين الطبقات والقطاعات والأفراد،  و الهوية كتعبير عن تمايز الأشخاص والمجموعات عن بعضها تكوينا… وهذا التناقض يكمن في أن السياسة هي شراكة المختلف ، بينما الهوية هي تعبير عن تمايز المتشاركين في الحياة العامة.  وهذا يختلف عن هوية الدولة كدولة ينتمي اليها المواطن بجنسيته ، والتي يسعى كل مكون أهلي / بل كل فرد لتتطابق مع هويته لتصبح دولته هو ( سوريا البعث سوريا الأسد ) مع أنها يجب أن تكون دولة الشعب بتعريفه: كمجموع السكان القاطنين لأرض محددة أقاموا عليها كيانا موحد سياسيا وسلطة قانون ، حتى لو لم يكونوا أمة قومية واحدة أو أتباع دين واحد ولهم لغة واحدة . ( مع العلم أن الأمة القومية الحديثة هي مجتمع مدني موحد رمزيا بالدولة التي تحمل هوية ولغة أغلبية سكانها )

في ثقافتنا تستعمل السياسية ذاتها كهوية ترسمها التيارات والأحزاب السياسية التي هي بدورها بعيدة أو قريبة من الهويات التقليدية التي تطبع المكونات والأفراد ، لذلك يسألونك عن هويتك السياسية والتي يصنفونك تبعا لها ، وليس عن رأيك السياسي القابل للنقاش والتبدل ، فإذا كنت قوميا فيجب عليك النباح  مع القوميين ومديح أخطائهم والتعصب لهم ، فالسياسة بنظرهم هوية لا تتبدل ، وتستوجب التعصب والدفاع الأعمى عنها ، وانتقادها عدوان على هذه الهوية ، ومن الحتمي الالتزام بها على خطئها وصوابها فهي لا تتبدل وليست شيئا اختياريا …تصبح هذه  السياسة اعلاما وبروباغاندا وتطبيل وتزمير ودعاية وترويج ، وليست بناء المشترك وصناعته واعادة انتقاده وتصحيحه وتطويره وتعديله . ضمن برامج سياسية تضع المخططات لطريقة إدارة الدولة .

فإذا ذكرت عمل جيد قامت به داعش أصبحت داعشيا ، وإذا انتقدت سلوك حزب كردي صرت ضد القضية الكردية حتى لو تطلب ذلك انكار مجازر ضد الانسانية . وإذا استشهدت بحديث نبوي اتهمت بأنك إسلامي ، وإذا زرت دولة وبحثت معها القضايا المشتركة صرت عميلا لهذه الدولة … ولكي تبقى منتميا لجماعة عليك أن تشتم كل الجماعات الأخرى بخيرها وشرها ، وتقف بالمرصاد لمجرد ذكرها أو التطرق اليها ، فلكي تكون عليك الغاء الآخر وقمعه ، وهكذا نتعامل مع السياسة كهوية ضدية ، بل احتكار وهيمنة نمطية لا تترك أي مجال للتنوع والحرية والمشاركة … لذلك نجد أن الاستبداد هو حالة تأسيسية في ثقافتنا لا نستطيع الخروج منها طالما نحن ضمن هذا المفهوم عن السياسة، والصراع بيننا حتمي فإما معنا أو علينا ، وإما حاكم ظالم ، أو معتقل ومضطهد … لأن إلغاء السياسية هو اعلان للحرب الأهلية بشكلها المستتر وراء نظام قمعي مستبد ، أو بشكلها المفتوح عندما ترتخي قبضته . لذلك كانت الثورة على النظام القمعي في ظل غياب الوعي بالسياسة أمام خيارين يتصارعان هما اعادة انتاج القهر ، أو اشاعة الفوضى ، ولم تصبح بعد بوابة للحضارة والمدنية.

2-    المجتمع المدني  والأهلي :

كل الروابط التي يتوارثها الفرد من لغة وقرابة دم ومكان ولادة وترعرع وعادات ودين …. وكل ما يحمله معه تكوينيا وليس له خيار فيه ، يوضع في حيز الانتماء الأهلي ( عشيرة ، منطقة ، طائفة ، قومية ) …  وكل الروابط الأعقد والأحدث التي يساهم الفرد في اختيارها وانشائها مع أقرانه في المجتمع ، هي روابط مدنية ( النوادي الاجتماعية  ، والحزب ، والنقابة ، والاتحادات المهنية والفنية والرياضية ومؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى من جيش وأمن وقضاء وصحة وتعليم وصناعة وتجارة …. ) والدولة قد تأخذ بعين الاعتبار الروابط الأهلية وتتحول لدولة محاصصة اتحادية ( عدة هويات متشاركة في دولة ) ، أو تقوم على الروابط المدنية كدولة مواطنة ومساواة وتحيّد الروابط الأهلية …

النظام السوري الحاكم وبكل وقاحة تحول بسبب الاستبداد من نظام يدعي أنه  ( الجمهوري المدني العلماني المركزي )  لدولة محاصصة ، بل لمزرعة عشيرة وأسرة وطائفة ، ومن دون مشاركة غيره من المكونات الأهلية حتى ثارت عليه ، ولم تك الثورة عليه سياسية من أجل الدولة المدنية في وعي الكثير من الثوار … رغم ارتفاع الصوت المدني مبكرا في وجه نظام الاستبداد والتشبيح ، لكن انخراط القطاعات الشعبية الأهلية بشكل واسع في الثورة أضعف صوت النخبة المدنية التي بدأت تشعر أن الثورة قد انحرفت … ودخلت في مسار تصارعي بين الهويات لا مخرج سياسي له …

وعندما نتحدث عن حزب سياسي سني أو علوي ، أو حتى عربي أو كردي فهذا لا يعني سوى استمرار صراع الهويات والغاء السياسة كفن اقامة المشترك . فالدين واللغة أشياء ثابته ليست عناصر في السياسة التعاقدية ، واعتمادهما كأسس في السياسة،  يحول الحياة السياسية لصراع دائم واستئصالي بين الهويات التي لا تقبل التنحي … فالحياة السياسية المبنية على الهويات هي خراب السياسة والاجتماع معا ، لأن تمايز الهويات وصراعها سيستمر حتى داخل الأمة والطائفة وحتى بين أتباع الشيخ الواحد ، بينما قيام السياسة على تجميع المختلف وتوليف المتنازع هو وحده الكفيل باستعادة السلم والنظام للمجتمع … بانتظار أن تطور الحياة المشتركة مزيدا من الانسجام والتشابه بين الهويات بشكل طبيعي وعبر تتابع الأجيال … فالهوية تعيد انتاج ذاتها بهدوء وسلاسة بالتناغم مع ظروف العيش ، لكن العيش المشترك يتطلب الوحدة السياسية وليس وحدة الهويات أو صهرها بالقهر .

3-    المعارضة السورية … كل شيء الا السياسة :

بهذه الجملة عنونت  مجموعة الأزمات الدولة تقريرها عن سوريا عام 2014 . فمشكلة الثورة السورية التي قامت ضد نظام الدولة السياسي أنها تحولت لحرب هويات أقحمت في السياسة،  فتحولت الثورة التي يفترض أنها من أجل الديمقراطية وضد الاستبداد والفساد الذي سببه تحويل الدولة لمزرعة ، إلى حرب أهلية وتنازع لا ينتهي بين هويات هي بحكم تعريفها تقوم على الاختلاف والتمايز … وصار هدف السياسة هو  فرض الهوية ومسح غيرها ، أي تفجير حرب الغاء بين الهويات ، ومسح التمايز والاختلاف وبالتالي الحرية ، واقامة الاستبداد وتجديده بصور وأشكال جديدة .

تحول الانتماء الوطني من انتماء سياسي إلى انتماء لهوية ، وتحولت الهوية الأهلية لوطن ، والوطن لهوية شخصية خاصة ، تحت ضغط الحرب التي خاضها النظام ضد المجموعات السكانية ، وبالتالي لم تخض الدولة السياسية متحدة الحرب مع دولة أخرى ، بل سلكت هذه الدولة سلوك عصابة وهاجمت المجتمع ، مما محا الوحدة السياسية وأيقظ الهويات كشكل بديل للجماعات تحتمي به وتدافع عن نفسها مجتمعة بواسطته، ولكون ظروف الحرب قاسية ، تطلب البحث عن الهويات العسكرية الجهادية الأقوى والأقدر على توحيد وتحفيز المقاتلين.  وتمايزت الانقسامات في الهوية بما يتناسب مع الواقع العسكري ، وهكذا طغت الهوية الأكثر تعصبا على السياسة لتخوض حرب وجود لا هوادة فيها ، وهو ما أنتج حالة فشل الدولة وانمحاء السياسة …

مشكلة المعارضة السورية المدنية التي حملت لواء التغيير الديمقراطي أنها افتقدت لآلية انتاج السياسة والتمثيل السياسي (بالاقتراع والتفويض الحر المراقب )، بل تسرعت باعتماد آلية الاختيار والتعيين التي تدخلت بها الدول الراعية ، ولم تنتبه لآلية اكتساب شرعيتها وآلية تجديدها ، وبدلا عن ذلك طعمت رموزها المنتقاة من قبل الدول الراعية ، بتمثيل أهلي رمزي وعشوائي غير معترف به وغير مدروس، فنقلت صراعات الهوية لداخلها وخرجت كليا خارج السياسة والشرعية معا ، وتحولت لحلبة صراع وتنافس وتخاطف ، أدى لفشلها في إقامة أي مؤسسة وطنية جامعة يحتاجها المواطن كبديل عن النظام خاصة في المناطق المحررة ، لتقدم نفسها نموذجا مختلفا عن دولة النظام ، بل ابتعدت كليا عن مسؤولياتها جملة وتفصيلا ، وأصبحت جزءا من المشكلة وتعبيرا عنها تتعيش على استمرارها … لذلك لم تصلح معها دعوات التوافق ووحدة الصف ، لأنها تفتقد تكوينيا لآلياته وهي السياسة … لذلك هي ميالة برغم كل الانتقادات التي يدركها الجميع ويقر بها نحو المزيد من التفكك والصراع والفشل ، ولا يصلح معها أي سياسة إصلاح ، بل لا بد من التغيير الجوهري لها كنظام وأشخاص وآليات معا وجميعا .

مجالس المعارضة أصبحت حلبات مصارعة وتباري في التبعية وناديا للهواة الباحثين عن دور … وأي دور ، وللوصوليين الذين يبحثون عن الظهور وتنفيس عقد النقص التي يعانون منها بسبب القمع … وللمتعيشين الذين يقدمون أوراق اعتمادهم للدول الراعية ، ولم تلتفت أبدا لانتاج التوافقات والتفويضات الحقيقية من الأرض وعليها ، أو لبناء المشروع السياسي الوطني الذي ينهي حالة الحرب ويقيم حالة الشراكة من جديد، حتى بين الفصائل العسكرية التي تقاتل النظام،  والتي دخلت مؤخرا مرحلة خطيرة من الحرب البينية تتسبب باطالة عمر النظام واستمرار الأزمة .

نظمت المعارضة نفسها على أساس غير سياسي ( الوجاهات ) ، وأقامت مؤسساتها السياسية على محاصصة الهويات ، وليس على احصاء التفويضات ، وتنافس أفرادها على المناصب والسلطة خارج ارادة الشعب وتصويته ، ولم ينتجوا حالة سياسية وطنية ولم يعبروا عنها ، لذلك طغى فشلهم  وهزالتهم  وساد  تخاطف المناصب السياسية الوهمية بين الأفراد ، وغاب العمل الجماعي المؤسسي ، وطفا الانتماء العصبوي واحتل كل الساحات ، وهو لم ينجح إلا بصب المزيد من الزيت على نار الصراعات البينية وتسعير الحرب الأهلية القائمة بين الأشخاص والهويات ، ليس فقط بين النظام والمعارضة بل داخل النظام وداخل المعارضة ذاتها …

لذلك تبدو الأزمة في سوريا عصية فعلا على الفهم والحل … ويقف السياسيون التقليديون عاجزين عن فهمها ومقاربتها وحلها … والمرجح أنها ستستمر طويلا من دون تدخل عسكري خارجي حاسم لوقف الحرب ، ولو في مناطق محددة يتم فيها توليد فرصة لاستعادة السياسة ، وانضاج حل سياسي وطني مقنع بالتجربة العملية والنموذج الواقعي المشهود … وهذا أيضا غير ممكن إذا اعتمدت هذه المعارضة من جديد لقيادة المناطق الآمنة ، لوجود عيوب تكوينية فيها تتمثل في غياب السياسة وتغييبها.

الشعب السوري يعيش حالة صارخة من صراع الهويات والأشخاص ، ويعتب على الدول العربية والدول السنية لأنها لا تخوض معه حرب الهويات هذه ، بل تغلّب لغة المصالح السياسية … ولا يبحث مع أي من الدول عن المصالح المشتركة التي تحركها لتقديم المخارج من هذه الأزمة … بينما تنخرط ايران وحلفائها في هذه الحرب المذهبية كونها قد بنيت هي الأخرى كدول على الهوية وليس على السياسة ، وهي عاجلا أم آجلا ستنقل هذه الصراعات لداخلها ، بل يبدو أنها تحاول تجنب الحرب الأهلية بتصديرها وافتعال حروب خارجية . بينما تعاني معظم الدول العربية التي امتد اليها الربيع من حالة مشابهة للحالة السورية، وتعجز لذات الأسباب عن تطوير وحدتها وتجاوز فشلها . فيما تنعم الدول الأخرى بالاستقرار بمقدار الاستبداد  قدرا بقدر .

4-    سخف الحل السياسي :

عندما يتم الحديث عن عودة للسياسة وحل سياسي فهذا يتطلب أولا مناخا للسياسة ليس فيه حرب وقتل وصراع وجود ، أي يتطلب وقف الحرب أو حسمها لتعود لغة السياسة للعمل ، ويتطلب وجود سياسيين حقيقيين وليس متطفلين ، وآلية لانتاج السياسة والسياسيين ، أي اقتراع وانتخاب وتفويض … فما يجمع الناس ليس وحدة الهويات أو نمطها الموحد المفروض بالقوة ، ولا تمثيلها الرمزي ، بل ارادتها الحرة التي تضمن تشارك المصالح الكثيرة والتي لا تتحقق كلها بشكل جزئي وفردي يل تتطلب بشكل حاسم وجود دولة ومؤسسات عامة تحرس الأمن والخدمات والتعليم والصحة والدفاع والقانون ووووو . ومن دونها تفقد بقية المصالح قيمتها .

نهاية هذه الحرب لن تكون إذا بحل سياسي لعدم وجود السياسة والسياسيين أصلا ، ولن تتم إلا بأحد ثلاث طرق : 1- تدخل أجنبي ، 2- حسمها على يد الجماعات الاسلامية المتشددة . 3- التقسيم المؤقت وهو المرجح،

عندها سيصبح التنافس والتناقض داخل الكيانات وليس بينها ، ويشتد بين الطابع المدني الديمقراطي والطابع الاستبدادي الديني ، وهذا سيدفع بالعالم المذعور من التطرف المنفلت ، لدعم التيارات المدنية في مواجهتها الثقافية السياسية مع التطرف بشكليه الشيعي والسني … القومي والديني ، وهذا التقسيم المؤقت والهدنة بين المكونات التي يفرضها الانهاك ، سيفتح امكانية للسياسة وامكانية لاستعادة الوحدة ، رغم مظهره البشع ووسائله الإجرامية .

وستنتقل الثورة التي تعرقل نصرها عسكريا للمرحلة الثقافية … طبعا الثقافة المحمولة تفتقر كثيرا لوعي مفهوم السياسة بل وعي مفهوم الدولة المدنية والمواطنة … فالدولة التقليدية المعروفة هي دولة سلطانية قهرية أو دولة احتلال ، ولم تتعرف الثقافة بعد على دولة العقد والقانون والحق والعمل المؤسسي ، ولم تعرف مفهوم السياسة كشرط للحياة المشتركة القائمة على الحرية ، فالحرية أدت للفوضى في كل مكان زرعت فيه ( الربيع العربي ) … وهذا أيضا ساهم في تبرير الاستبداد وعودته ( مصر و تونس  ) وكذلك في قيام دولة المزرعة والعشيرة والطائفة وأمارة الحرب ، وحول العمل السياسي لعمل تابع للهوية والمحسوبيات والعصبيات و المليشيات العسكرية… والسبب أن الثورة على النظام السياسي قامت كثورة هويات مضطهدة ، وليس كثورة وعي سياسي … وهذا ما ساهم في تحول الثورة السياسية لصراع وحرب هويات  وحرب أهلية  لن تنته من دون ثورة ثقافية .

تاريخيا لم نعش ولم نخبر إلا الدولة القهرية ، ولم نشهد ولم نتعلم ولم نمارس الثقافة الديمقراطية ، ولا ثقافة الحرية ( الليبرالية ) وحق التنوع ، المعترف به كأساس للتشارك التعاقدي الحر … الذي يؤسس هو فقط لحياة سياسية غير تصارعية تحتكم لطرق سلمية في حسم الاختلافات هي التصويت  وصناديق الاقتراع … ضمن نظام دستوري يكفل حقوق الفرد والجماعات ، ويضمن الحريات دون أن يقوض سلطة القانون التي لا يجوز أن تتسبب بطغيان الأغلبية على حقوق الأقليات وحقوق الإنسان … فالذي يهزم في الانتخابات ليس كمن يهزم في الحرب ، انه يستمر بعيشه ضمن نظام يضمن له حقوقه الأساسية وتكافؤ الفرص مع غيره ، حتى لو أديرت الدولة بطريقة يرى أنها ليست الأصح … بل عليه أن يقنع الناخبين برأيه لكي يصبح رأيه هو المعمول به … وكل هذه قيم غربية مستوردة انتجتها الحضارة الحديثة وحملتها النخب المستغربة ، ولن ينفع للهروب من هذه الحقيقة أن نعود للزمن التأسيسي لصدر الإسلام ، لأن القرون التي تبعته كانت خالية من الحكم الرشيد … وظروف الحياة قد تغيرت كثيرا يستحيل معها العودة للوراء  ، لذلك فالحل هو أن يستوعب الإسلام هذه القيم ويعتمدها ، لا أن نضعه على نقيضها ( فالديمقراطية المدنية هي الترجمة المعاصرة للشورى ) و الخلافة ليست أرقى شكل للدولة .

القوميون يعيشون في الشعارات التي تعبر عن الهوية ويضربون بها كل الواقع الذي صار بعيدا جدا عنها ، ويفشلون في انتاج السياسة والديمقراطية ، والاسلاميون يعجزون عن اجراء نقد مبدع لأن نقدهم محدود في القياس على النص والتراث الذي تكتمل فيه الحقيقة وينتهي به العلم ، بالرغم من تغير الأحوال وتطور الحضارة ، ولم نشهد أي نظام اسلامي ناجح حتى الآن من دون ليبرالية ودولة مدنية . وكل تجارب الحكم الشرعي ولّدت نوعا مرعبا من الاستبداد . وحده الحزب الشيوعي اباح النقد والنقد الذاتي رغم أنه حزب شمولي وقمعي يقدس القيادة التاريخية الملهمة ويقدس النمط الواحد …  وقد فشلت التجربة الشيوعية بسبب غياب الديمقراطية والسياسة والحرية . لذلك لن يقود مشروع السياسة إلا التيار الليبرالي الديمقراطي المدني الذي لا هوية له ، ولا يجيد لغة الحرب ، والذي عليه أن ينتظر كثيرا حتى تضع الحرب أوزارها ، ويكتشف الناس عقم الصراع على الهويات ، ليبدأ مرحلة البناء السياسي التي تستعيد الوحدة والتشارك والحضارة .

 ديمستورا الخبير الدولي المكلف اكتشف هو أيضا في تقريره الحاجة الماسة لتوليد السياسة بين مكونات الشعب ، ودعا لحوار بين أفراده ومجموعاته الذين ينغمسون في صراع إلغاء على أساس الهوية…  لكن ! أي حوار يجرى على صوت المدافع ورائحة اللحم المحترق … هو ينظر للأمور نظرة مدرسية تقليدية وسطحية وغير مدركة لديناميات التحول والتكون لكل عناصر الصراع السياسية الوجودية، وآليات انزياحها وتبادلها … كما أنه لم يفهم سياق الصراع وتحولاته وصيرورته ، فالحل بنظره يبدأ من السياسة وهذا صحيح ، لكن كيف نوقف الحرب لنفسح للسياسة ، وكيف نطور الوعي بمفهوم السياسة ، وهل تتغير الثقافة ببيان رئاسي من مجلس الأمن ، وهل يتوقف المتصارعون بمجرد خروج هذا البيان … على ديمستورا أن يستمر عدة سنوات أخرى لكي يكتشف العيب الثقافي ، ثم سنوات أخرى ليوجد ألية تغيير الثقافة إذا وجد طريق آخر غير تجربة الشعوب ،

واجبه يحتم  عليه أن يبحث عن آلية انهاء الحرب بطريقة أخرى ، لا تعتمد ولا تنتظر تقدم وعي المتقاتلين والتنظير عليهم ، لأن الحرب تدفعهم أكثر وأكثر نحو الهمجية والانغلاق وليس الحوار … ديمستورا لا يعرف علوم المجتمع و أدبيات السياسة والحرب ، وليس مؤهلا لحل النزاعات وصراعات الوجود … ولا يعرف المنطقة ، ولا يفهم حيثيات الصراع السوري …. فكيف سيحل مشاكلنا … الاهتمام به وحصر المهمة به يوحي بأن مهمة ديمستورا هي اطالة الأزمة وانتظار فناء سوريا … فما هي الآليات التي يعتمد عليها ديمستورا لوقف الحرب وتوليد السياسة غير دعوة المتقاتلين للحوار ، وأي حوار تحت القصف والخطف والتهجير والتطهير ……. فهل هو اكتشف الماء عندما اكتشف غياب السياسة … ولماذا غابت تلك السياسة وكيف تستعاد ؟ … وأي حل سياسي من دون وجود سياسة أصلا ؟؟؟….. لن يعوض عن غياب السياسة  بمشاوراته التي يجريها مع هذا وذاك من المتسلقين ، لأنه بعد عدة أعوام قد يتعلم شيئا عن سوريا ، لكن شعب سوريا يكون خلالها قد تعلم من تجاربه ما يعلم به الشعوب الأخرى ، أو يكون قد فني عن الوجود إذا لم يتعلم من تجربته المريرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.