يثب

المال و الآيديولوجيا … و متاع الحياة الدنيا

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

صحيح أن كارل ماركس قد قلب بشكل فج منطق هيغل الديالكتكي ليجعله متناسبا مع ماديته التاريخية ، لكنه قدم بالفعل فهما عميقا ومتميزا لعلاقة البنى الفوقية بالبنى التحتية، والاقتصاد بالسياسة …

وقد حاولت على مدى سنوات أن أبحث عن الاتجاه العام والمحرك الأساسي والعامل الحاسم في توليد السياسة وتوزع القوى السياسية وتوزع الناشطين عليها ( مع الإقرار بوجود أقلية مغايرة لكنها غير مؤثرة على المنحى العام ) … فوجدت أن كارل ماركس كان على حق .. إنه المال والمنافع المادية والمصالح … فحيث يتجه المال يتجه عموم السياسيين والناشطين والمقاتلين والمرتزقة سواء بسواء إلا من رحم ربي ، القلة فقط هي التي تعيش المفهوم والفكرة وتخلص لها حتى لو كانت ضد المصلحة ، وتنسحب من الواقع كرها أو طوعا نحو المعنى ( على طريقة الفناء الصوفي ) … أما الكثرة فتنجذب عفويا وتلقائيا بشكل ظاهر أو مموه نحو مصالحها الخاصة والمباشرة والتي هي في أغلبها مادية وليست روحية…. وما لفت نظري ليس تحول الكثيرين لثوريين ولدعاة ومشايخ حسب الموضة وحيث الرز بحليب ، أو حتى تحولهم لدواعش بسبب المال ( 400 دولار )… ولا تحول بعض منظمات الثورة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية لمرتزقة عند المال الإيراني ومشاركتهم بقتل الشعب السوري الذي نصرهم واستضافهم ، بل ما صدمني فعلا هو تحول بعض اللاجئين السوريين في لبنان للعمل مع حزب الله والقتال في سوريا تحت راياته ، ومنهم من كان من سكان حمص والقلمون قبل أن يهجر … والسبب هو فقط ال 800 دولار التي يدفعها الحزب …

استغربنا في البداية كيف كانت بعض الأموال التي ترسل لبعض الرموز في سوريا دعما للثورة يجري تقاسمها مع ضباط الأمن بتستر وكتمان ولا يدفع منها للثورة إلا ما يذر الرماد في العيون ويديم تدفقها … واستغربنا كيف أن جيش النظام يبيع العتاد والذخيرة للذين يحاصرهم ويقاتلونه و يصفهم بالارهابيين، واستغربنا كيف انقسم الائتلاف الوطني السوري بين التمويل القطري والتمويل السعودي … وكيف انحصرت المنافسة على رئاسته بين ( النفط والغاز) أي بين وكيل هذا المال وبين وكيل ذاك وبغض عن عن تاريخه وقدراته السياسية ناهيك عن الرأي الشعبي ، وكيف حسم التصويت بينهما مقدار كرم المال السياسي ، ثم كيف توزع رموز الحراك السياسي المعارض على الدول الممولة حتى تم اتهام هذه الدول زورا باعتماد وكلائها في هذه المجالس لسرقة قرار الثورة ، مع أن الواقع هو العكس أي أن قرار الثورة جرى بيعه بالمفرق والجملة للدول مقابل مكاسب شخصية للرموز التي تدعي القيادة السياسية ، واستغربنا كيف انقسمت المجموعات العسكرية وانقادت لمن يملك مصدرا للتمويل حتى لو كان أجبن الناس ، وكيف صار من السهل أن تصنع من أي شخص قائدا عسكريا أو زعيما سياسيا عبر مده بالمال فقط .

حتى بدا لي وكأن الأيديولوجيا ( كل آيديولوجيا علمانية أو دينية ) هي مجرد ريش منفوش ومظاهرة مطالبة ضمنا بالمال ، فإذا جاء المال من جهتها تعززت وطغت ولهث الجميع وراءها وسقط من أجله الشهداء ، وإذا جاء من طرف آخر هجرها المتظاهرون بلحظة واحدة. وظهرت حقيقة البحث عن السلطة والثروة كصنوان ، فالثروة تستخدم للسيطرة على السلطة، والسلطة تستخدم للهيمنة على الثروة . ووبدا لي أن السياسة هي بالإجمال مجرد عقد انتفاع ، أدواتها السطوة والقهر و هدفها المال وليس لها دين ولا مبدأ …

… وبدت الأمور بسيطة جدا : فالمسألة ليست في صياغة الورق وتقديم المشاريع ، ولا في تواجد الرجال والمتطوعين الذين يدعون تطوعهم للخدمة ، فكل ذلك سهل وممكن ، لكنه لا يستمر ولا يدوم إلا إذا توفر المال وأشبعت المصالح الخاصة … أي أن السياسة لا تبدأ من الفكرة التي تجمع المؤمنين بها الذين يموّلون نشاطهم الجمعي ، بل تبدأ من مصالحهم الخاصة التي تبحث عن وسيلة تحققها عبر السياسة أو غيرها … أي ببساطة هات المال تصنع السياسة والأحزاب والحركات والمنظمات …. هات المال المصلح .. تصلح الثورة ، هات المال المفسد تفسد الثورة ، هات المال الطائفي تندلع الحرب بين الطوائف ، هات المال السلفي … تتأسلم الثورة ، هات مال قطري تتقطر الثورة ، هات مال سعودي … حتى الثورة المصرية بيعت بالمال وبالمال وحده … و حتى الهجرة الجرادية للسوريين نحو أوروبا هي بهدف المال وليست كما يقال هربا من الموت والذي يمكن تحقيقه في مناطق وطرق أخرى ، ومن بقي في الداخل أيضا قد بقي خوفا على ماله ، ومن استمر يعمل مع النظام استمر خوفا على معاشه ، ومن شبح معه أيضا فبدافع مصالحه وامتيازاته ، ومن انشق عنه فأملا في ركوب الموجة أو جبنا وخوفا من عقاب قد يطاله ، ومن وصل لكرسي في الائتلاف سيتمسك به لأن امتيازاته الفندقية الترفية هي غاية السياسي والسياسة الواقعية ، ومن يحتج عليه فلأنه يشعربالجوع و بالغبن ويريد حصته ، وغالبا ما ينتهي اعتراضه بإيجاد أي كرسي أو سلطة أو مورد في ركبه … ومن جنح للتطرف والتشدد فلأنه أخرج خارج لعبة المصالح وتقاسم الكعك … وصار عليه استخدام الترهيب والابتزاز … وتوجه مباشرة نحو الموارد والمال والمستودعات والنفط … الغير منصوص عنها في الشعائر الاسلامية . طبعا هذا ينطبق على الكثرة وهو القاعدة مع وجود القلة والاستثناء …

وهكذا رأيت أن الأيديولوجيا هي على العموم مجرد ريش ينبت على جسد المصالح المادية المباشرة والخاصة ، وأن الآيديولوجيات هي كالنساء تتباين بالشكل وتتماثل في الوظيفة والمضمون ، وأن المال طاحون وكل الأيديولوجيات تؤدي لهذا الطاحون … ورأيت أن أي سياسي سيكون غبيا جدا إذا صدق شكل الأيديولوجيا أو الميتولوجيا أو آمن بها واتكل على هذا الإيمان …. وكما قال د. غسان سلامة يوما … عندما كانت الحرب الأهلية اللبنانية مستعرة : ( هات دولار وخود استقرار )… وهكذا وجد نفسه غارقا في خندق رفيق الحريري الذي أعاد استقرار لبنان بالريال السعودي وليس بالآيديولوجيا الثورية ولا بالميليشيات الطائفية ، فجمع المختلف وآلف المتضاد بالمال وبالمال وحده ، واستعاد به فقط (كذبة) اسمها الوطن اللبناني الكبير ماتت باستشهاده .

كذلك حال الصراع الدائر حاليا في سوريا (التي قامت على كذبة وطنية أكبر ) فهو صراع طبقي اقتصادي على الثروة والسلطة ، وكفى نفخا في القرب الطائفية والدينية والجهادية والقومية والوطنية فكلها فقاعات سرعان ما تزول … وغدا وبعد غد ستسير الأحداث في سوريا حسب توزيع المال وتبعا لادارته … وستتغير الأيديولوجيات والشعارات تبعا لها … وعندما يتأمن المال اللازم سيقوم الحل السياسي بواسطته وبإدارته ، ولا حاجة للحوار أو ديمستورا ولا جنيف ولا غيره ، وسيصبح المتخاصمون والطائفيون أشقاء وإخوان يتقاسمون المنافع بقدرة قادر ، وسيصبح قادة المجتمع هم أولئك الذين يتحكمون بالمال … وكل سياسة وكل ديمقراطية هي لذلك وكذلك بذاتها ولذاتها …   وما هذا بدليل فساد وانحطاط خاص بنا بل هو دليل آخر على تفاهة الحياة الدنيا وسخفها ، وهو ما أشار اليه الشيخ محي الدين بن عربي ، وفيه فوق ذلك تصديق للآية الكريمة : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع …. )

…. وسلامتكم والرحمة لشهدائكم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.