يثب

سؤال للتفكير : الثورة السورية يتيمة … أم قاصرة ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني 

بعد أن تم التخلي دوليا عن شعار اسقاط النظام ، أصبح من الواجب طرح هذا السؤال : هل الثورة السورية يتيمة ؟ أم هي من ضيعت نسبها …؟؟؟ وهل المجتمع الدولي تآمر عليها فعلا ويريد سحقها … أم تشوشت مفاهيمها وتصوراتها عن نفسها والعالم فأصبحت من وجهة نظرها ضحية تآمر عالمي ؟؟؟

وهل تكفي البطولة النادرة التي تبديها الثورة السورية لنفي صفة القصور عنها ؟ بعد أن فشلت في استقطاب أغلبية قطاعات المجتمع بشكل متزامن وشامل ، مما أعطى للنظام فرصة الاستمرار واحداث انقسام اجتماعي كبير وخطير وتحويلها بالتالي لحرب أهلية تدور رحاها بين فقراء العرب السنة وبين بقية الأقليات والقطاعات … مما جعلها قاصرة عن الاعتماد على نفسها ، وبحاجة ماسة للدعم والتدخل الخارجي ، الذي بقيت تنتظره وتنتظره من دون جدوى ، حتى صارت تربة خصبة للتطرف الذي هب لنجدتها وتوظيفها … مما برر المزيد من التخلي عنها ، وانتهى بدعم بقاء النظام على حسابها ؟؟؟

بالفعل يشعر قسم كبير من السوريين بوجود مؤامرة عليهم تهدف لاعادة انتاج النظام الذي قتلهم وشردهم ، وهناك فعلا سوء تفاهم كبير قائم بين (الثورة السورية كتمرد بطولي يندر نظيره لفقراء العرب السنة في الأرياف ) و بين المجتمع الدولي الذي تخوف من هذه الثورة بعد أن أخذت طابعا جهاديا متشددا .

ويظهر من جهة أخرى بشكل جلي انقسام تناقضي داخل الثورة السورية يزداد حدة مع الزمن (بين المشروع الوطني السوري ، وبين الآيديولوجيا الجهادية الدينية )، التي بدأت بعض منظماتها تأخذ شكل قوات احتلال … ويظهر أيضا انقسام أقل حدة بين (عصابات النظام و عصابات ايران ) التي تحولت من داعم للنظام القائم على تحالف الأثرياء والأقليات إلى محتل يفرض ارادته على الجميع … وتظهر بالتالي بوادر تعاون وتشارك وتقاسم بين هذين المحتلين الذين يتفاوضان ويتنافسان على تقاسم الوطن ( أقصد المتطرفين والإيرانيين ) … في حين يشعر غالبية الشعب السوري في كلا الجهتين أنه الضحية الوحيدة لحالة الحرب والاحتلال المزدوج لداعش وأخواتها وعصابات ايران وصبيانها ، وأنه مستبعد عن القرار السياسي والعسكري في كل أطراف الصراع المتداخلة … ويعجز عن فهم واستيعاب هذه الحالة ، ذلك الوعي الضروري لرسم مسار يخرجه منها …. والكل يسأل ما هو الحل وماذا نفعل… والكل يصرخ ويحتاج فعلا للإغاثة والنجدة … التي أول عناصرها هو وعي واقعها .

وتتضح أكثر وأكثر ملامح الحل السياسي الدولي الذي قرر الابقاء على المناطق المأهولة في المدن الرئيسية بيد النظام ، ثم البدء بتغيير السلطة بالتدريج وهدوء خوفا من وقوعها بيد المجاهدين … وقرر أن يوحد جهوده للقضاء على الدولة والأمارة الاسلامية والايديولوجيا الجهادية العالمية . باستعمال كل الأدوات بما فيها التطرف الشيعي والنظام المجرم والتطرف الأقلوي القومي والديني ، وجيوش الدول الاقليمية …

لمقاربة هذا الموضوع الإشكالي الشائك أريد أن أطرح مجموعة من النقاط :

اليوم : نحن نسأل بمرارة لماذا تخلى العالم عن اسقاط النظام ، وتركوه يفعل ما يفعل… ونتصور أن العالم كله يكرهنا ويتآمر علينا ، وأنه راض جدا عن مذبحة الشعب السوري … وله موقف مسبق معاد للإسلام السني والعروبة … وداعم دائم لنظام القتل والإجرام ، ويسعى لتقويض وجودنا وإبادتنا كبشر وهوية ودين . … ثم نقوم تحت تأثير هول الجرائم برميهم بالشعارات العدائية وخطابات الكراهية التي تغذي آيديولوجيا الارهاب … فيتوحدوا ضدنا فعلا وعملا وينضم اليهم أغلب الدول (والشعوب) العربية الشقيقة !!! بما فيها مصر و فلسطين و الكويت وتونس … وبشكل غير مفهوم من قبلنا ؟؟؟ .

سابقا: افترضت الثورة الاسلامية الشيعية في ايران أنها التجسيد الحقيقي لسلطة الله المتجسد في الولي الفقيه ، وأنها الحق الذي يقارع الشيطان العالمي الأكبر الذي يتربص بها ، و بنت وطورت شعاراتها على أساس هكذا تصور شيطاني للغرب … ( الموت لأمريكا )!!

كما سبق واتهم اليهود العالم كله بالعداء للسامية … والتآمر لإبادة الشعب اليهودي الذي فضله الله على كل البشر !!…

أيضا افترضت النزعة القومية الألمانية النازية عداء العالم وباقي الأمم لها بسبب تفوقها النوعي العنصري ، وشنت حربا عالمية عليهم جميعا ومعا !!…

السؤال الذي يطرح نفسه :

كيف استطاع اليهود التحول من عدو مكروه ومضطهد ومطرود في العالم المتحضر ، لشريك يحظى بدعم دولي ونفوذ واسع جدا ، وكيف تحولت ألمانيا بعد هزيمتها عسكريا لشريك فاعل يساهم في التعاون الدولي (مع ذات الأمم التي تصورت أنها تحقد عليها ) وأصبحت بعد هزيمتها العسكرية تقود وتساعد الأمم الأوروبية التي خاضت ضدها حربين عالميتين … وكيف استطاعت ايران أن تتحول من عدو للغرب يشكل محورا للشر إلى حليف له ، وصارت شريكا في محاربة الارهاب ، (وهي أصيلة في الإرهاب كدولة ونظام للحكم ) …

هل تغير العالم ؟ … أم تغيرت تصورات اليهود والألمان والشيعة عنه وعن أنفسهم ، فوجدوا فيه صديقا وشريكا ، بعكس تصوراتهم السابقة ؟

لنصل للنقطة الأهم … كيف فقدت ثورة الشعب السوري صفتها الحضارية والانسانية ، وفقدت تعاطف العالم وإعجابه بها ، وحُمّلت صفة التعصب والارهاب … وصارت عدوا للجميع وخطرا عليهم بمن فيهم الدول الحليفة كالأردن والسعودية وحتى تركيا … مما جعل المجتمع الدولي ينتظر من النظام أن يقضي عليها ، ويسعى لاعادة انتاجه بدل اسقاطه ؟ وهل من الممكن أن تسعيد هذه الثورة ما فقدته وما هي بحاجة اليه …

هل حالة الضعف والهزيمة والاحباط هي من تدفع لتضخيم الذات بشكل مصطنع على نحو عدائي متطرف ضد الآخر … أم أن العمل وفق هذا الافتراض العدائي المتطرف هو من يحوله لحقيقة وممارسة ، وفعل يستتبع رد الفعل …

كيف ننظر نحن للحرب في سوريا وكيف ينظرون هم … هل نتوقع هزيمتهم جميعا كأعداء مطلقين ، أم ننتظر منهم أن يتغيروا كأصدقاء محتملين ؟ وماذا نفعل لكي يحدث هذا التغيير ، هل نغير من تصوراتنا وسلوكنا أملا في تغير مواقفهم ، و نتحرك بشكل براغماتي لتغيير هذا الاستقطاب …… أم نستمر وراء شعارات العداء التاريخية وتراشق التهم والحرب حتى النهاية مع الجميع ، والتي لا تبدو أنها ستكون نهاية سعيدة بالنسبة لعشرات الملايين من سكان المنطقة الذين أصبحت حالهم بالويل ؟؟؟؟ …

في التحليل المنطقي :

هناك مجموعة من الأخطاء المنطقية التي تحرف وعينا عن فهم الواقع ، وتوقعنا في هذا الاستعصاء :

  • – القصور في وعي التشريح الطبقي للثورة : فاعتبارها ثورة اسلامية سنية يخفي ويموه حقيقة كونها ثورة طبقية مجتمعية أشعلها قسم من الطبقة الوسطى الذي انهار نتيجة سياسات الإفقار ، وهم من حمل شعاراتها الأولى ، ثم سار بها الريف الفقير المهمل ، في حين خذلتها المدن والطبقات المنعمة ، فاستخدمت بشكل متزايد خطابا طائفيا في مواجهة النظام الطائفي الهمجي ، لكي تستدرج بقية الأغلبية السنية للانخراط فيها ، فخسرت هويتها الطبقية وشعاراتها الديمقراطية ، وخسرت تعاطف الأقليات ولم تكسب الأثرياء السنة الذين فهموها ثورة عليهم فاستمروا مع النظام ( نموذجهم قسم هام من تجار دمشق وحلب ) ، أو فضلوا الفرار بعيدا عنها وعن بطش النظام الطائفي نحو الدول الغربية … وما حققته هذه الثورة فعلا هو تعميم الفقر والخراب على الجميع ( أي عدالة التدمير )
  • – غياب المشروع : نحن نقول أن الإرهاب هو رد فعل الضعيف ضد غطرسة القوي ، ولأن الغرب لم يساعد الثورة انحرفت للتطرف ، هم يقولون نحن لا نستطيع مساعدة شيء معاد وغير واضح ، الثورة لم تقدم خطابا عقلانيا ولم تقدم مشروعا واضحا لندعمها ، فهي موحدة فقط على اسقاط النظام ، ولكن البديل عنه لم يكن واضحا أو متفق عليه عندها ، بل ظهر جليا في داعش والقاعدة … هم يتجاهلون مسؤولياتهم في تطبيق القانون الدولي واحترام حقوق الانسان بانتظار ضمان مصالحهم ، ونحن نتجاهل أننا نحرص كل الحرص على أن نكون مشكلة للجميع وأننا نفتعل مشكلة مع الجميع ، و نعرف أنفسنا كأعداء للآخر وضحايا لعدوانيته … وعندما نلحظ مبادلته لنا هذا العداء ، نستنتج أن العالم يتآمر علينا ويعادينا … فنعاديه أكثر وأكثر ، ونقع معه في حلقة معيبة من العداء لا مخرج منها ، نعيش في وعينا حالة عداء مطلق وأسطوري جملة وبشكل نمطي للآخر كل الآخر ( الغرب الصليبي ، والصهيونية ، والصفوية … وبقية الديانات والقوميات والأقليات ، وحتى الدول العربية والقوى المجتمعية ، بل نمارس العداء بين بعضنا البعض داخل المكون الثوري الواحد ) أي أن ثورتنا تمارس كثورة تصريف للعنف والاضطهاد وليس كمشروع ، فالكل يدعي أنه الثورة ويريدها ثورته هو .
  • – التعصب والانغلاق على الذات : العرب والمسلمون بسبب حالة الضعف يعرّفون الاسلام كدين يعادي الآخر ويقاتله بالسيف ، فهو النقيض لكل العقائد وليس مكملها وخاتمها ، ال- (نحن ) صحيح والآخر ضال ، نفهم الاسلام ونستخدمه كأداة صراع ، نأخذ منه المشروعية في شن الحرب ، ونتماهى به فنصبح نحن الإسلام والرحمن ، وهم الشيطان … ثم نجد من السهل رمي كل مشاكلنا على مؤامرة كونية توحد العالم ضد هذا الاسلام ، وليس ضد سلوكنا العدائي ، و نجد كل الأدلة اللازمة لإثبات ذلك ، بعد أن نقوم باستعداء العالم كله علينا دون استثناء … ونهدده بالترهيب عندما نكتشف عجزنا عن التفوق عليه .
  • – طغيان الشمولية واستخدام العقل الضدي القائم على مبدأ مفهومي واحد هو التناقض … ( أبيض/ أسود ) إما أن تكون متطابق معي وتقاتل في خندقي ، أو فأنت عدوي .. وبدل فهم الثورة كثورة من أجل الحقوق والكرامة والحرية ، التي تجعل من كل فرد سيد حر مستقل متساوي مع الآخر ، فهمت الثورة كثورة تجعل من الفرد سيدا على الآخرين يكونهم بالقوة حسب ارادته … أي طغيان الشمولية ( التوتاليتارية ) وغياب القدرة على التعايش مع الحرية والتجاور والتعاون مع المختلف ( الليبرالية ) .
  • – عدم التمييز بين الغاية والوسيلة : الثورة السورية التي انطلقت عفويا ضد استبداد ووحشية النظام ، واستخدمت مصطلح الجهاد كوسيلة لشد أزرها في معركتها القاسية من أجل حريتها وكرامتها في وطنها … سرعان ما تحولت عن أهداف حربها الوطنية الحضارية ، وتحولت لحرب جهادية دينية من أجل الجهاد بذاته ولذاته ، فصارت التضحية بالوطن والشعب مباحا في سبيل قيام الإمارة الجهادية التي صارت غاية الثورة ، والتي تعلن المعركة على العالم كله ، وتجاوزت العداء للنظام ، إلى حرب ضد العالم لأنه لم يساهم في اسقاط هذا النظام لصالحها…
  • – فهي تفترض أن العالم يجب أن يعمل معها ومن أجلها ، وإذا لم يفعل فهذا يعني أنه شريك في الدم السوري …. فهو من أوجد النظام ودعمه وهو من أوجد داعش والتطرف ، وهو من حرك الأكراد والأقليات ، وهو من افسد المعارضة …. حتى النظام السوري المقاوم يفترضون أنه صنيعة الأجنبي ، وليس صنيعة المجتمع السوري الذي يتحول بنظرهم لكائن مشلول سلبي ومطية لأي كان !!! ألا يكفي أن هذا المجتمع قد فشل في بناء نظامه السياسي المعبر عنه والمحصن ضد الاختراقات ، وتهرب من كل مسؤولياته السياسية وتركها ليقررها من يركب الدبابة أو يتعامل مع جهاز استخبارات أجنبي … وتخلى كل مواطن عن مسؤولياته السياسية ودوره في صناعتها لصالح القائد الفذ الملهم الذي يختصر الشعب بذاته … وقد استمر هذا حتى بعد الثورة وتجسد في قيادة المعارضة وفي حكم المناطق المحررة … حيث فهمت الثورية كمشروع ذاتي للتحول إلى قائد … ولم تمارس السياسة ، كمشاركة في صناعة السلطة واتخاذ القرار التشاركي التوافقي على أرضية المساواة .
  • – تغييب التسلسل الزمني والسببي : نظر أحد المتفلسفين لجدول المياه الطبيعي الذي يسقي الغابة ، وقال أنظروا هذه المعجزة كيف تسير المياه لكل شجرة وتسقيها … طبعا هو لا يدرك أن الشجر قد نما قرب السواقي التي توزعت حسب التضاريس وليس العكس الذي افترضه ، أي السواقي غيرت مجراها تبعا لتوزع الأشجار … فالتبديل بين السبب والنتيجة هو أحد أهم الأخطاء المنطقية التي توصلنا لحالة من التفكير العجائبي الذي منه تولد التصورات الاضطهادية عن موقف الآخر الذي هو رد فعل وليس فعل ، وهذا ينطبق على الغرب أيضا الذي يعاني من فوبيا الإسلام .
  • – الحاجة للشيطان : فالعالم الصليبي كله يصبح أداة طيعة بيد اليهود يوجهونه ، وايران الفارسية التاريخية أصبحت صنيعة الصهيونية ، مع أن قورش هو من أعاد اليهود من سبيهم في بابل قبل 2500 سنة وسمح لهم باستعادة وجودهم السياسي … والديني … ومع ذلك في وعينا نعتقد أن حفنة من اليهود يسيطرون على العالم والحكام ويصنعون المعجزات التي تقف أمامها مليارات البشر عاجزة ومشلولة … وهكذا تركيز للشر وتجسيده في رأس شيطاني خبيث هو ضرورة أساسية لبناء العقل الدوغمائي الذي يغذي نظرية المؤامرة ، بدلا من الاعتراف بالفشل ونقد الذات وتغييرها . فالصهاينة وليس أغنياء سوريا وملاكها هم من يمدون بعمر النظام ويديمونه ويريدون تجديده حفاظا على مصالحهم وخوفا من محاسبتهم ومقاسمتهم…
  • – عدم التمييز بين نظام الدولة و بين السلطة الحاكمة فيها : بين العقد الوطني المدني والنظام السياسي للدولة ، وبين نظام الحكم الذي هو مجموعة الأشخاص الذين يتسلمون السلطة ويديرونها كفريق له هوية وآيديولوجيا وبرنامج حزبي … فاعادة انتاج النظام والحفاظ على الدولة … نفهمه استمرارا للسلطة المجرمة . وسبب ذلك الخلل في وعي المفاهيم السياسية ناتج عن ترجمة كلمة ( system و regime ) كمترادفتين .
  • – عدم التمييز بين فشل الشخص ، وفشل المؤسسة : فالمجلس الوطني والائتلاف مثلا هو فاشل بنيويا ووظيفيا كمؤسسة بينما يجري اتهام الأشخاص فيه فقط ، وتستعر الحرب على تغييرهم ، فلا يتغير شيء مع تبديل الأشخاص ويجري تكرار ذات نموذجهم … بينما يتم أيضا التركيز على تغيير شخصيات في النظام دون التطرق لمواضع الخلل البنيوي في هذا النظام الذي يتيح للفساد والاستبداد السيطرة عليه .
  • – القصور في فهم أركان العقيدة الاسلامية : بشكل خاص عدم التمييز بين السلطة السياسية والقانونية التي تفرض على الأفراد من خارجهم ورغما عنهم عبر مؤسسات الدولة ، وبين السلطة الطوعية للضمير والوازع الديني التي تعمل من داخل النفس الحرة حيث تقوم العلاقة بين الانسان وربه … والتي يجري تمديدها لتشمل العلاقة بين الانسان والسلطة لتصبح علاقة عبودية وقداسة ، وبدل أن تكون سلطة الدولة تعاقدية بشرية تتكون بالشورى ككل سلطة أمر ونهي … تتنزه سلطة البشر وتصبح هي سلطة الله وحكمه ، بينما تتجسد سلطة الله سبحانه في بشر خطائين … وهو ما يتناقض مع الإيمان بالقضاء والقدر والملائكة التي يحكم الله بها كل مخلوقاته … تاركا للبشر حريتهم كشرط للمسؤولية والحساب . فالله لا يمارس سلطته على مخلوقاته عبر كسر ارادة العباد ، بل بقدرته على قهر أفعالهم التي تنبع عن ارادتهم الحرة … أي أن الحرية لا تتناقض مع حاكمية الله لكل الخلق وكل الحوادث والأفعال ، والتي لا تحتاج لمن يحول البشر لعبيد بالقوة والقهر … لأنهم عبيد الله سبحانه طوعا وكرها .

ولفهم وجهة نظر الغرب يجب أن نسأل أنفسنا :

هل نتوقع من الغرب أن يساعد الثورة التي تقترب أكثر فأكثر من فكر القاعدة … المبني على ضرب الغرب وتدميره في عقر داره … هل نتوقع منه أن يساعد عدوه الذي يتوعده ليل نهار … أم يترك عدو عدوه يقاتل دفاعا عنه … ولماذا لا يكون سعيدا في توريط حزب الله والحرس الثوري ، في قتالهم ضد القاعدة وداعش …. والتطرف السني .

لماذا تصر المعارضة السورية المسلحة على تسويق نفسها (كثورة جهادية اسلامية ضد الغرب الصليبي النجس المتحالف مع الصهيونية والصفوية الأنجس منه ، والمعادي بشكل مطلق ودائم للاسلام الطاهر النقي ). مما يجعل من دعم الأقليات استثمارا رابحا ومغريا للغرب الذي وجد من يقاتل دفاعا عنه ضد الاسلام الجهادي في عقر داره ، و يجد من يتعاون معه من المسلمين أنفسهم الذين يفصلون الدين على قدر تجارتهم ، مع العلم أن ما نسميه الاسلام لا يعني بالضرورة حصرية تمثيله بالجماعات الجهادية التي ترفعه كراية قتالية ، بعد اقحامها الدين في السياسة وتحويله لآيديولوجيا قتالية تكفيرية …

وإذا كانت هذه الفرضية العدائية حقيقة تثبتها الأحداث، وكل ما يقال عن التشدد والارهاب في الغرب هو مجرد ذريعة … فما هي الخطط العسكرية والاستراتيجية لقتال كل هؤلاء الأعداء معا … هل يكفي رفع الشعارات والشتم والنشاط على النت والاعلام ، والمسرحيات الترهيبية هنا وهناك ؟ … ألسنا بهذه الطريقة نزج بشعبنا في معركة لا قبل له بها ، تكون نتيجتها الدمار والقتل والتهجير … ثم نتباكى على الخسارة ونختنق بحقدنا …

اليست القيادة الحكيمة للأسد هي من دمرت البلاد ، وهل القيادة الحكيمة للثورة الممثلة بالائتلاف أو أمراء الجهاد الذين ينافسونه تستطيع استعادتها وتأمين الاستقرار والعيش لشعبها وأن تعيد بناء الدولة … وأي مشروع بديل عن الأسد تطرحه المعارضة … استبدال فاسد ومستبد بفاسد ومستبد آخر ، أهبل بمجنون ، تافه بسفيه ؟… أم مجرم معربد بأمير متطرف يمارس كل نزواته المتوحشة وعقده النفسية ؟…

يوم حصل حادث حرق السفارة الأمريكية في ليبيا … قال لنا السفير فورد أنتم لا تستحقون المساعدة . لقد منعنا القذافي من فعل ما يفعله الأسد وقاتلناه عندما كاد أن يستعيد بنغازي ويخمد الثورة ، فماذا كانت النتيجة … قتلتم سفير الدولة التي قاتلت معكم … كل الناس عندنا حتى جاري في المنزل طلب مني أن أتوقف عن مساعدة المعارضة … كي لا ألقى ذات المصير الذي لقيه زميلي … منذ الآن لا تتوقعوا من أمريكا أي مساعدة … إذا أردتم شيئا فعليكم الذهاب لموسكو … نحن سننسحب ونترك لهم هذا الملف إذا تعهدوا لنا بحفظ مصالحنا ومحاربة من يهددنا … نحن اكتشفنا أنه ليس لدينا أصدقاء فعليين في سوريا ، والمعركة فيها تجري بين عدوين لنا … عدو نعرفه هو النظام وعدو لا نعرفه بعد ولا نعلم أين سيصل في عدائه معنا هو المعارضة … !!!!

طبعا هناك من يلقي باللوم على الآخرين ويتهمهم ، وهناك من يلقي باللوم على المعارضة السياسية ، لكننا لا نرى نقد ذاتي فعال وحقيقي … يقول المثل الغربي : العامل السيء يلقي باللوم على أدواته … فهل نحن نستخدم الأدوات الصحيحة ونبذل الجهد اللازم لتحقيق النصر … وما هو هذا النصر … هل هو انتصار الانسان . أم انتصار الشعار … أم سلطة الأمير …

ألا تلاحظون أن هناك قيادات تتنطح للسلطة لا تقل سوءا عن شخصيات النظام ، وأن هناك تعارض جدي بين الفكر الجهادي الذي هيمن على الثورة وبين المشروع الوطني … وأن البعض يضحي بالوطن لصالح الإمارة والأيديولوجيا التي تجعله زعيما … وأن المقاتلين الذين خرجوا بسلاحهم للدفاع عن المدنيين صاروا أحيانا يضحون بالمدنيين حفاظا على أماراتهم وامتيازاتهم …

هل الديمقراطية عدو للدين واستبدال لشرعة الله بشريعة البشر ، أليست القضية الوطنية قضية دينية أيضا ، أم أن حياة الناس في أوطانهم شيء تافه بالمقارنة مع آيديولوجيا قتال العالم الكافر .

الكل يشتم النظام ، والكل يشتم الائتلاف ، وهم الإثنان في طريقهم للتفاهم معا على تشكيل سلطة انتقالية تحكمنا بدعم دولي … ولا من يجيب : لماذا يعجز أي شعب (الشعب السوري نموذجا) عن انتاج قيادته الوطنية التي تعبر عنه … هل فعلا العامل الخارجي أقوى من ارادة شعب … أم هناك خلل في ثقافة هذا الشعب تجعله مطية سلهة للانتهازيين والوكلاء والعملاء …. وعاجز عن تكوين المجتمع السياسي الذي يعبر عنه … من منعنا من تنظيم شؤوننا المالية والخدمية والعسكرية والاغاثية … أليس عدم نضوج وعينا بأهمية المؤسسة كضرورة لاستمرار الحياة المجتمعية الحضرية .

الجواب على السؤال الإشكالي الكبير هذا : بحسب ما نرى أن ما يجري الآن ليس مؤامرة خارجية ، بل هو تسديد لدين قديم ، على فاتورة التخلف السياسي والحضاري والثقافي الهائل الذي عشناه ، والآيديولوجيات والنظم البديلة عن النظام المطروحة عمليا اليوم ، هي تعبير عن هذا التخلف ، وتقهقر وتراجع نحو الوراء ، بل نكوص نحو البربرية والهمجية أحيانا … عندها من الطبيعي لأي خبير أو مبعوث أن يفكر في اعادة انتاج النظام السياسي للدولة الراهنة بدلا من التقهقر نحو الوحشية … هل لدينا نموذج في كل المناطق المحررة نقدمه كمثال عن دولة سوريا المستقبل … من يمنع مواطني أي منطقة من تنظيم شؤونهم … أليس الفشل السياسي المطلق المعبر عن الفشل الثقافي الذي ينتج عن تعطل العقل ، هو من يجعل السوريين عاجزين عن انتاج المجتمع السياسي والدولة وسلطة القانون … وهل النفوذ الغربي يستعمر كل الأنفس عند كل الناس ويحركهم حتى في الثورات المسلحة … أم أن هذه الأنفس غير واعية لما حولها ، وغير قادرة على ايجاد المشترك وصيغ التعاون ، لذلك تتوهم نتيجة عدم وعيها أنها ضحية مؤامرة في حين أنها هي من ترمي بنفسها للتهلكة …

هل فرض الله القتال من أجل الدين . أم ضد الظلم ودفاعا عن الناس والحقوق و الحرية بما فيها حرية الاعتقاد ليخلى بين الناس ودينهم ، حيث لا إكراه في الدين ، لأن كل إكراه ينتج عنه نفاق وليس تدين …

لذلك لا يمكننا إزالة التناقض المفتعل بين المشروع الوطني والمشروع الجهادي الديني ، إلا بتوضيح هذا واعتبار الدفاع عن وطن ودولة وحرية المسلمين هو جهاد ذا طابع ديني ، وعدم فهم الجهاد الديني مقاتلة الديانات الأخرى والآخر والأقليات ، فكل عنف غير دفاعي هو مناهض للدين جوهرا … ومشروعية العنف هي سياسية وحقوقية وليس دينية ، فالدول والشعوب تتنافس وتتحارب ، بينما الديانات تتنافس بالحجة والبيان لكونها إيمان وقناعة ذاتية . ولا تتورط بالعنف إلا بمقدار تسييسها .

الخروج من العقدة الاضطهادية ونظرية الحرب الدائمة ، والبحث بعقلانية عن لغة المصالح التي تكون السياسة … هو من جعل المانيا واليهود وايران شركاء في التعاون الدولي ، وكما تفعل ايران وحزب الله وغدا حماس لا يمكننا البحث عن انهاء حالة الحرب وعودة السلام والاستقرار لربوعنا ، إلا من خلال مشروع اقليمي تعاوني لا يقوم ولا يستند على مبدأ العداء التاريخي المطلق مع أحد ، بل على أسس سياسية .

المسار الحالي (كما يبدو ) أن الغرب والعالم سيستمر في ممارسة سياسة الاحتواء المزدوج ، واستنزاف قوى التشدد ، وضربها ببعضها البعض ، ويستمر الشعب السوري بالمعاناة وتتعمق جراحه ، بينما يتجه المجتمع الدولي لتقوية النظام ومساعدته للحفاظ على مناطقه ثم سيسعى لاعادة انتاجه كنظام مدني منسجم مع المصالح الاقليمية والدولية ، ومعبر كما كان عن مصالح الأثرياء ، لكن بسلطة جديدة ، وتستمر الحرب على التطرف بواسطته ، وتستمر سياسة الافقار والاستغلال بشكل متكالب أكثر ….

لذلك ليس من الصواب أن تضع ثورة الشعب السوري بيضها في سلة المجاهدين العالميين ، وتربط مصيرها بمصير الحركات المتشددة ، لأن ذلك يعني خسارتها لمشروعها الوطني ، دون أمل في انتصار الحركات الجهادية عسكريا … بل يجب التعاون مع المجاهدين باتجاه اعادة انتاج الصيغة الوطنية بشكل يحظى بقبول العالم ، والسعي لاحتواء الحركات المتشددة ضمن السياق السياسي الوطني ، والتركيز على مبادئ العدالة والحقوق والديمقراطية وتكافؤ الفرص ومنع الفساد والاستغلال ، وليس على نظريات المؤامرة والحرب المطلقة التي لن نربحها الا رمزيا (كمباراة رياضية )، فنقول لقد قاتلنا أفضل منهم ، بينما نكون قد خسرنا الحرب التي خضناها ، وخسرنا أهدافها السياسية ، حصلنا على شرف التفوق ، وخسرنا شروط العيش والوطن … هذه النظرية الاستشهادية لا يمكنها أن تكون سياسة مجتمع يسعى للبقاء والاستمرار … بهويته وتاريخيه .

تلخيص واستنتاج :

  • – لا بد من التخلي عن نظرية المؤامرة وعن إعلان الحرب على الجميع ، والكف عن تصوير الحرب كحرب دينية ، والتعامل مع الدول كممثل لمصالح الشعوب ، وليس ممثل للعقائد ، فمعظم الدول علمانية ولا تقيم اعتبارا للدين في بنيانها السياسي حتى الاسلامية منها إلا بشكل مسرحي ومصطنع فالدولة أداة ضبط وتنظيم تعاقدية تقوم على المصالح ولا دين لها .
  • – لا بد من طرح الخلاف مع النظام كخلاف سياسي حقوقي قضائي واقتصادي وسياسي وليس خلاف طائفي ومذهبي وديني ، وليس خلاف نمطي مع مكونات مجتمعية…
  • – لا بد من السعي لانتاج نظام للدولة يحقق الحرية والعدالة ويحفظ صيغ العيش ، من دون وجود عصابة الإجرام في السلطة ولا داعميها من آغنياء التشبيح والفساد ، وهذا هو مفهوم الثورة عن الحل السياسي .
  • – لا أمل في انتصار الثورة على الاستبداد والفساد والجريمة ، وهي تحمل أعلام العقيدة الجهادية السنية التي ألصقت فيها تهمة الإرهاب وتحالف العالم كله لحربها ، فهذا في الواقع يبدو خيارا انتحاريا … في حين أن استخدام الشعارات الوطنية والحقوقية المدنية يحقق الكثير من غايات الثورة ويبقي على دور الدين كسلطة على الضمير الذي لابد أن يجد تعبيره وتمثيله عبر صندوق الاقتراع بطريقة غير مباشرة… فالإسلام ليس في خطر . بل هم المسلمون الفقراء .
  • – لا بد من الانخراط الفاعل في الجهد الدولي لإيجاد حل سياسي واعادة انتاج العقد الوطني المدني والنظام السياسي الديمقراطي العادل … مع السعي لمنع القفز فوق العدالة … ولا بد من استيعاب الحركات الجهادية وتليين موقفها واحتوائها ضمن السياق الوطني والسلم الاجتماعي .
  • – لابد من تغيير أدوات الثورة تبعا للظروف الجديدة ومتابعتها من خلال معطيات الحل السياسي الذي تطرحه الدول . وهنا تصبح العودة للعمل السلمي ممكنة ومفيدة بمجرد لجم السلوك القمعي للسلطة الانتقالية .
  • – في غياب هذه العقلانية ستستمر سياسة المجتمع الدولي في إطالة زمن الحرب كوسيلة استنزاف حتى يتم القضاء على كل التنظيمات والإمارات الجهادية المتشددة ولا مانع عندهم من استمرار المعركة لسنوات أخرى طالما تتم على أرض الغير وتحرقه هو …
  • – لا يجب اعتبار هذه السياسة العالمية عداء نمطيا لنا ، بل شكل من الدفاع عن النفس تقوم به الدول المعنية بأمنها ومصالح شعوبها … فالآخر لن يساعدنا إلا بمقدار انتفاعه .
  • – ولا يجب اعتبار الابقاء على هيكل النظام نهاية للثورة وفشل لها ، بل فرصة لتصحيح مسارها الوطني وأدواتها ، وبرامجها بعد أن سقطت بيد المتشددين والانتهازيين الفاسدين المؤتلفين …
  • – الثورة تعاني المزيد والمزيد من التشرذم وضياع الرؤية ، وهي عمليا بلا قيادة ولا نظرية ولا رأس ، والوطن يتحول لأمارات حرب ومناطق نفوذ اقليمي متصارعة ، وليس هناك أفق للحل من دون الاعتماد على الجهد الدولي ، وهو الوحيد القادر على إخراج سوريا من حالة الصوملة التي دخلت فيها … وهذا لن يتم الا في سياق تعاوني اقليمي ودولي يستند لمبدأ السلام والاستقرار والشرعية الدولية … وهو ما يتناقض جذريا مع ايديولوجيا الجهاد العالمي ونظرية المؤامرة الكونية . فمن نعتقد أنه عدونا وقاتلنا ، هو بكل أسف الوحيد القادر على انقاذنا من أنفسنا وصراعنا الأهلي الذي شمل كل شيء وحولنا لمتوحشين بربريين … فهل نغير اعتقادنا وتصورنا عن أنفسنا والعالم … أم نستمر بالمسير نحو حتفنا جميعا كسوريين .

ملاحظة أخيرة : أكتب كل هذا المقال التحليلي الطويل لأقول لإخوتي في الثورة ، الذين سبق لهم وانتقلوا من موقع لموقع ومن أداة لأداة ، تستطيعون تقدير الموقف ، وتغيير مواقعكم وأدواتكم بذكاء وحكمة ، وأن تحتفظوا بعقيدتكم وأهدافكم … فالثورة مستمرة طالما استمر الشعب ، وطالما بقي الظلم الذي ولدها …

(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.