يثب

الوجه الآخر لدعوة الجهاد

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يتميز العقل النقدي بقدرته على ابراز الوجوه المختلفة للموضوع المفكر فيه بشكل موضوعي، بينما يركز العقل المؤدلج على وجه انتقائي واحد للموضوع متعلق بمصلحة من يفكر فيه … وفي زمن الحرب يخبو صوت العقل النقدي ويسود العقل التحريضي الضدي، الذي تستخدمه أيضا الأنظمة المستبدة التي تعيش على الطوارئ وتعمل على توجيه الوعي وفرض الاستبداد والأحادية الشمولية ، مدعية دوما أنها في حالة حرب مع الشيطان تبرر بسببها كل أخطائها واستباحتها لحقوق مواطنيها، وهذا يشمل كل ألوان هذه الأنظمة ( قومية أو طبقية أو دينية ) .

واليوم تسيطر آيديولوجيا الجهاد لأن الجهاديين اليوم هم من يشكل رأس الحربة، بل الجسد العسكري للشعوب المسلمة في حرب الدفاع عن وجودهم، ودعوة الجهاد هي التي سترجح احتمالات النصر فيها … وهذا فضل يجب أن نعترف لهم به… فهم من يضحي بالنفس ويقاتل ، ويسطر البطولات التي تردع المعتدين والطغاة …

وجهاد الدفع ليس بحاجة لفتوى، فهو فرض عين، واجب الأداء على كل مسلم أن ينصر أخاه المسلم عندما يتعرض للعدوان . فالمسلمون كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، والدخول في دين الاسلام يعني الانضمام لحلف السلم بينهم ( المسلم أخو المسلم  لا يظلمه ولا يسلمه ) فهم أخوية تضامنية ( الإخوان المسلمين ) وهم كأي حلف سياسي يشمل  أيضا واجب الدفاع المشترك … كحلف الناتو وحلف وارسو وحلف الممانعة (أجلكم الله ومن دون تشبيه ).

والجهاد واجب لا يصح الاسلام من دونه ، فالإسلام ليس فقط في التوكل والدعاء بل في العمل أيضا ، ومن لم يجاهد أو تحدثه نفسه بالجهاد، مات على شعبة من النفاق ، فالحياة التي فطرت على الخير والشر لا بد لمن يعيشها أن يسعى للخير ويكافح ويصابر ويجاهد من أجله، وأصعب الجهاد هو جهاد النفس، وخيره هو الجهاد فيها الذي هو بوابة الجنة ، وأفضله هو قول الحق .

وعندما تستهدف دول وجيوش كبرى كالجيش الروسي  بلاد المسلمين وتشن الحرب عليها ، وتحاربهم لكونهم مسلمين .. فمن المنطقي أن يهب الجميع معا للدفاع عن أخوتهم، لأن التخاذل أمام العدوان سيعني التمادي فيه، ويعني أن الجميع قد يستهدف لمجرد هويته واعتقاده … فالفزعة والنصرة ودعوة الجهاد هي أمور منطقية معتادة في تاريخنا وفي الحياة الانسانية … وليست حدثا جديدا مستحدثا ، أو موضوعا اشكاليا يستوجب الفتوى من العلماء .

أما الجهاد خارج حدود دولة الاسلام  وخارج غرض الدفاع فهو ليس فرض عين، ويحتاج لشورى ، وهدفه تحرير البشر من سلطة الطواغيت التي لا تخلي بينهم وبين حرية اعتقادهم . فإن فعلت وعقدت معاهدة السلم ، بطل السيف وحل محله الدعوة لدين الله بالحكمة والموعظة التي هي أحسن ، لأنه لا يمكن فرض الدين بالقوة على أحد ، فالدين سلطة ضمير حر يجزي بها الله … وهكذا يكون جهاد الدفع مختلف عن جهاد الدعوة، أو الخروج على الحاكم الذي يحتاج هو الآخر لقرار من أهل الحل والعقد …

لكن المشكلة التي نراها في وجه آخر لهذه الدعوة هي كون الجهاديين غير موحدين في مرجعيتهم، فالهيئة الدينية الواحدة المفترض بها توجيه هذه الدعوة غير موجودة، ومعظم الهيئات الدينية المختلفة تعيش على موائد الحكام، لذلك تنطلق هذه الدعوات من مناطق مختلفة، ومن زعامات مختلفة، وتميل للتنازع والتصارع والاقتتال فيما بينها أيضا.

والمشكلة الأهم ليست فقط في تنازع الجهاديين، بل قبلها في اصطحاب نموذج للحياة والحكم يريدون فرضه يصعب كثيرا تطبيقه في هذا الزمان، تبعا لمفهومهم المتشدد عن الدين وحرفيتهم في تقليد الماضي، وعدم قدرتهم على تجاوز حرفية الشريعة لمقاصدها، لذلك سرعان ما يميلون لتكفير المجتمع، والانقضاض عليه قمعا وتشريدا عندما يعجز عن تنفيذ طلباتهم، فيستمرون في حالة الحرب خارجيا وداخليا كضرورة للبقاء. كما فعلت الثورة الاسلامية الشيعية في ايران، ثم تلتها النظم الثورية الاسلامية السنية في أفغانستان وفي الدولة الاسلامية داعش ، وبقية الإمارات قيد التكوين .

المشكلة أن تلبية فريضة الدفع لا تتم من قبل عموم المسلمين، بل يندر فعلا تقديم المساعدات للمنكوبين، بل هم القلة فقط من يستجيب، ونسبة غالبة ممن يهب فعلا لتلبية فريضة جهاد الدفع، هم نوعية خاصة جدا من المتطوعين، منهم وليس كلهم من لا يأتي لمساعدة المظلومين بقدر ما يستغل هذا الفرض لتلبية دوافع ذاتية خاصة، وأحيانا تصريف عقد سلطوية ونفسية وجنسية، قاصدا التحكم بالبشر والسيطرة عليهم واخضاعهم لسلطانه … وهنا يظهر الوجه الآخر السلبي للجهاد الذي يجري تضخيمه وتعميمه، والذي يستنفر عند الآخرين دوافع الرفض، ويُستغل عند الدول الخبيثة لإلصاق صفة الارهاب به، وإعلان الحرب على الجهاد كل الجهاد، لنزع هذا السلاح من يد الاسلام .

فعندما لا يكتفي المجاهدون بواجب الدفاع عن الناس، ولا يكتفون بأجر الآخرة، بل ينتقلون مباشرة لطلب السلطة والسلطان والأمارة والتحكم بالثروة، وينفذون ما لا يجوز فعله في من يخالفهم  ولا يطيعهم، ويمارسون بحق الأقليات الكثير من الانتهاكات … بل يسارعون لتكفير ليس الأقليات فقط، بل معظم العامة واعتبارهم مرتدين، وينسوا أن مبرر قدومهم هو نصرة هؤلاء الذين ظلموا، لكنهم يستمروا مظلومين، ويصبح عليهم أن يتخلوا عن حريتهم لعبودية جديدة تحكمهم باسم الدين والمقدس والشريعة التي لا تطبق إلا بهدف ترهيبي، وبطريقة السقوط من شاهق أو ذبح بالسكين أو تقطيع أيدي و رؤوس أو رجم بالحجارة أو تحريق بالنار …

وهكذا تستخدم دعوى الجهاد لتبرير استبداد من نوع آخر ، كما أن دعوى محاربة التطرف والتشدد تستخدم لخدمة الاحتلال وسرقة الثروات من قبل الدول الخارجية… وهكذا فالحرب الحالية البشعة ليست حربا مقدسة بين خير وشر كما يصفها كل طرف … مع أننا نرحب دوما بكل جهاد خالص لوجه الله تعالى يسأله وحده الجزاء … لكن ما نشاهده أحيانا من ممارسات فعلية في مناطق سيطرة الجهاديين العالميين يجعلنا نكتفي بالدعاء بالهدى لنا ولهم … وما نخشاه من اطلاق دعوة الجهاد أن يصيبنا ما أصاب من جلب الدب الروسي لكرمه …

فمن عارض ليقال عنه معارض فقد قيل، ومن جاهد ليصنع إمارة فقد صنع، ومن قصد السلطة والتحكم بالناس، فالأمر والملك هو لله وحده، أما من يعطي ويقدم ويجاهد لوجه الله تعالى زاهدا في هذه الدنيا فالله وليه وهو من يجزيه … وهكذا كل هدف سياسي سلطوي لدعوة الجهاد هو بوابة لفسادها وخروجها عن مقصدها الشرعي وهو الدفاع  … فإقامة الخلافة وتأسيس الدول شيء مختلف عن جهاد الدفع ، إنه دعوة رشد ونصح ولا يجوز فيها استخدام العنف والإكراه، لأن الأمر والأمارة هي شورى بين الناس …

هكذا نرى أن الإنتماء للعقل النقدي الموضوعي يتطلب أن نؤيد الاسلاميين طالما أنهم يدافعون عن حقوق شعوبهم، ونؤيد الديمقراطي العلماني عندما يتجاوزون هذا الهدف لطلب السلطة وممارسة القمع ضد شعوبهم التي خلقها الله حرة، فمن شاء أن يؤمن ومن شاء فليكفر. فالانسان قد خلقه الله حرا ليختار ويتحمل المسؤولية وقد أباحت له الشرائع استخدام القوة في الدفاع ضد العدوان، لكنها وضعت خطوطا واضحة تفصل بين عنف الدفاع المشروع وعنف الاعتداء على حقوق الغير واستعباده …

في النهاية الحياة تجربة صعبة وامتحان لا يصح إلا بالحرية المقيدة بعدم التجاوز على الآخرين، أي من دون تجاوز وغلو حتى لو كان تحت شعارات اسلاميه جهادية مبررة بدماء الشهداء، خاصة عندما يستخدم في غير محله ، ويتم تحويله نحو بناء السلطة. فإقامة شرع الله ليس من اختصاص الجهاد، إنما هو تكليف يخص كل المجتمع وأهل الحل والعقد الممثلين له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.