نهاية البداية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بعد نصره في معركة العلمين قال الجنرال مونتيغمري : إنها ليست النهاية ولا حتى بداية النهاية لكنها نهاية البداية … والثورة الشعبية التي أعقبت الانقلاب في تركيا قد اختصرت الربيع العربي بليلة تركية واحدة ، وأكدت تحوله لربيع اسلامي يغير هوية الشعوب من هويتها القومية لهويتها الدينية ، في زمن العولمة والتجمعات الثقافية الكبرى كمرحلة في طريق الاندماج العالمي … فنحن لن نصل مرحلة وحدة العالم من دون المرور بمراحل ، ومن هذه المراحل بعد تحطم الدول القومية وافلاسها هو المرور بالاتحادات الثقافية السياسية الكبرى ، والتي من أكبرها وأهمها الثقافات : الاسلامية والمسيحية والصينية .

في نهاية القرن الماضي كتب صموئيا هنغنتون كتابه صراع الحضارات الذي يتوقع فيه هيمنة صراعات حضارية كبرى بين هذه الثقافات الثلاث بعد تداعي الدول القومية وذوبان الحدود الاقتصادية ، بما للدين من أهمية في تكوين جينات الثقافة ، التي تقوم على منظومة معايير وقيم فلسفية معيارية تحدد هوية ونوعية العلاقات الانسانية والاجتماعية والسياسية في ثقافة ما وتعطيها هويتها .

فالطريق الذي تسلكه تركيا هو العودة لهويتها الطبيعية الشرقية الاسلامية ، ولعب دورها الأساسي كجامعة اسلامية بدل أن تكون جزءا من أوروبا تستعير ثقافتها منها وتخدمها عسكريا واقتصاديا ، وهو الخيار الذي تقوض بفشل الانقلاب ، الذي يعتبر نهاية لهذا الخيار وبداية لخيار ومسار آخر طويل هو المسار الاسلامي ، وليس غريبا على تركيا أن تلعب هذا الدور فقد سيطر العرب على الخلافة الاسلامية ستة قرون تبعهم الأتراك لمدة مساوية ، لذلك فدور تركيا لا يقل أهمية عن دور العرب في هذا المسار الحضاري الاسلامي الذي سيحكم الصراع في العقود القادمة بحسب توقع هنغنتون الأمريكي ذاته .

لقد كان واضحا أن الانقلاب هو آخر فرصة غربية لوقف مسار تحول هوية تركيا من دولة علمانية قومية تتبنى الثقافة الغربية لدولة شرقية اسلامية الهوية ، ولكن هذا الانقلاب كان أيضا بمثابة عودة بالتاريخ نحو الوراء نحو زمن مضى يحكم فيه العسكر ، أو نحو النظريات القومية المنغلقة ، وهذا بحد ذاته عنصر ضعفه ودليل ضعف من قاموا به وحركوه ودليل تخلفهم التاريخي ، مما جعل هذا الانقلاب عاملا يزيد من قوة واندفاعة تركيا نحو تغيير هويتها وبنيتها وعلاقاتها بشكل أسرع وأكثر حزما ووضوحا كما يفعل الربيع .

سوف تستفيد تركيا من الضعف والرجعية الغربية ، وسوف يتردد الغرب كثيرا قبل التفكير باشعال حرب أهلية في تركيا لأنها ستكون كارثة على المنطقة وعليهم ، وآثارها ستفوق كثيرا آثار الفوضى في سوريا ، بل سيكون الحدث السوري مزحة أما الحدث التركي فيما لو تزعزع استقرار تركيا … حيث ستعم الفوضى وانعدام الأمن في كامل المنظومة الأوروبية والروسية مما سيسرع في انهيارهما ، عبر فتحه الباب واسعا لنمو التطرف والتشدد الاسلامي الذي سيصبح النتيجة الطبيعية للوقوف في وجه التاريخ .

أما الحقائق الاستراتيجية الكبرى التي تحكم هذا التحول التاريخي وتدعونا للتفاؤل فهي :

  • التحول التركي هو بمثابة بداية لتشكيل حلف اسلامي ( عثمانية جديدة نجح أردوغان في إطلاقها وتلقفتها الشعوب الإسلامية في كل مكان ) فالربيع التركي هو استكمال وتتويج للربيع العربي .
  • الغرب أصبح مضاداً للتاريخ ومتخلفا عنه ، بقاءه يشترط توقف التاريخ بل عودته للوراء وهذا مؤشر انهيار …
  • الغرب فقد قدرته على الاستمرار في قيادة الحضارة اقتصاديا وأخلاقيا وسياسيا وبدأ التحول لمجرد قطب فيها ، ولديه من المشاكل الاقتصادية ما يكفي لزعزعة استقراره السياسي ، واصابته بعدوى الانقلابات والتمردات والحروب الداخلية .
  • الغرب فقد أيضا هويته القومية وهويته الجامعة نتيجة تنكره للدين ودور القيم ، وظهرت فيه نزعة يمينية عنصرية عمياء حضاريا متداخلة مع نزعة دينية مسيحية متعصبة منغلقة ، وصار يعرف نفسه بأعدائه كما يفعل الضعفاء الذين تضيع هويتهم . هنا لا نقصد الحكومات التي تخلو من السياسين القديرين المحترمين ، بل نقصد الشعوب ذاتها التي تستشعر خطر عودة التنافس مع العالم الاسلامي الذي قاد الحضارة سابقا طيلة القرون الوسطى ، والذي ما يزال يتذكر الجيوش العثمانية وهي تتوغل في قلب أوروبا ، ويربطه بتمدد العنف الاسلامي داخل مجتمعاته .
  • وبينما تستمر الصين في تحطيم اقتصاد الغرب واضعافه ، فهي بنفسها عرضة لتقوّض هويتها ذاتها و فقدان الجامعة الثقافية الحقيقية التي تجمعها ( حيث يقوم نظام شيوعي ملحد معدوم القيم في قيادة تبلورها الثقافي ) .
  • أمام هذا المشهد يقع على عاتق الثقافة الاسلامية والعالم الاسلامي مهام عالمية وانسانية وحضارية كبرى خاصة وأنهم مؤهلون تاريخيا وأخلاقيا وجغرافيا للقيام بها في العقود القادمة ، فهم المنافس الأقدر في صراع الحضارات الثلاث الذي سيحدد هوية العولمة الواحدة وقيمها .
  • هذا يتطلب من المسلمين أمرين أساسيين أولهما التعالي على الانقسام المذهبي وبشكل خاص السني الشيعي الذي يراهن الغرب على تسعيره ، والثاني هو الوقوف بحزم ضد التشدد والتطرف والترهيب الذي هو سلوك الضعفاء والمهزومين . وابراز الجانب الانساني والحضاري والأخلاقي للدين والثقافة الاسلامية .

نتيجة :  الغرب أراد تفتيت دول المنطقة لفيدراليات ، فتحولت الفيدراليات من عامل تفتيت لعامل توحيد بين شعوبها ودولها ، وظهر دور الاسلام كجامعة ثقافية فيدرالية قادرة على القفز فوق الصراعات وتوحيد المنطقة …   ما حدث في استانبول ليلة 15 – 16 تموز  استبدل هوية تركيا  بل هوية الربيع ، الذي بدأ سياسيا عربيا وصار ربيعا ثقافيا اسلاميا … ماحدث ليس النهاية ولا حتى بداية النهاية بل هو نهاية البداية  لمشروع عودة الحضارة الاسلامية وبناء نظامها الاتحادي ، الذي ما تزال تقف أمامه صعوبات وعقبات خارجية كثيرة ، لكن الأهم منها هو العقبات الداخلية التي لا يمكن تجاوزها من دون إعادة قراءة التراث والنصوص الاسلامية ، و تجديد الصيغ التطبيقية لها بما يتناسب مع ظروف العصر ومستواه الحضاري، والذي لا يسمح لمن يقوده بالعودة به للوراء  …

قد يبدو هذا كحلم من ذاق مرارة الواقع المذل الذي وصلنا إليه … لكنه يتحول لهدف يعززه أن ما يحدث لا يمكن تفسيره من دون الإحساس بالتدخل الإلهي .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.