يثب

رياح الثورات المضادة

من كان يعتقد أن الربيع العربي ليس سوى نزهة جميلة، أو فاصلاً، تتابع بعده الشعوب حياتها بالطريقة الجديدة التي اختارتها، أو على الأقل التي نفضلها، لا بد أنه اكتشف أن الأمور ليست على مستوى هذا الأمل، وربما لن تكون كذلك في وقت قريب. وقد يذهب به اليأس إلى حد الترحم على الأيام الخوالي، فهي بكل ما فيها من مظالم، إلا أن الناس كانت قد وصلت معها إلى وضعية التكيف، ورسمت خريطة تدبير شؤونها، تحت سقف تلك الأوضاع.

في كل بلدان الربيع العربي، يبدو هذا السؤال ملحاً، حتى أنه يفتح الباب أمام احتمال قيام ثورات مضادة، قد تعيد معها الأنظمة الحاكمة السابقة أو الأجزاء الفاعلة منها، في مؤشر على مدى وحجم الصعوبات التي تواجه الأنظمة المنبثقة عن الثورات، سواء لجهة قدرتها على إدارة وضبط الصراعات، أو لجهة إدارتها للموارد والثروات وطرائق توزيعها. والمشكلة أن هذه الوضعية أدت إلى تعطيل الحراكات العربية في بلدان كانت تتهيأ جادة للتغيير، كحالة الجزائر، التي يبدو أن إدراك النخبة الحاكمة فيها لوجود مثل هذا المزاج، دفعها إلى حد الاستهتار حتى تجاه بعض الإصلاحات البسيطة، التي كان من الممكن تقديمها للشارع المتململ.

ليس في الأمر نزهة. ذلك أن الأصل في ثورات الربيع العربي هو إنجاز عملية التصالح بين الشعب والسياسة مع الكيانات الوطنية نفسها والبيئة العالمية المتغيّرة. وتلك بلا شك، مهمة على بساطتها الظاهرية، إلا أنها في الواقع العربي مشوبة بأخطار كثيرة كما تقف في وجهها عدة عوائق:

حالة الانفصام الطويلة بين الشعوب والسياسة، ذلك أنه في هذه الكيانات تكون السياسة عملاً محرماً، وبالتالي فإن ممارستها عادة ما تتم بطرق سرية مخفية عن الأنظار. أما السياسة التي تصدّرها الأنظمة في هذه الحال فهي لا تعدو كونها نوع من سلوكيات الإستزلام، أو التنويع على وتر التبعية والولاء للحاكم بطرق لا تخلو في الغالب من ممارسات لا أخلاقية بين التابع والمتبوع.

نوع أو نمط المؤسسات التي تشكلها تلك الأنظمة والايدولوجيا التي تسيرها، ففي الغالب ترتبط تلك المؤسسات بالحاكم، ويكون هدف عملها وإنتاجها، سواء كان مادياً (إقتصادياً أو أمنياً وعسكرياً) أو ثقافياً وتعليمياً، تدعيم استمرارية وجود ذلك الحاكم، وتكريس رمزيته بوصفه هبة البلاد وإله العباد، بحيث يصبح كل شيء» فدا إجرو» أو كما كان يقول أنصار القذافي» مادامت مؤخرة معمر بخير الدنيا كلها بخير»!

الدولة العميقة، التي غالبا ما تتمظهر سواء على شكل أنماط إدارية، وطرائق في تسيير الشؤون الاجتماعية، أو من خلال الكوادر، والتي غالبا ما تكون من ضمن الدائرة الأيديولوجية للنظام. وهو ما حصل في بلدان كثيرة بسبب احترافيتهم الإدارية وخبرتهم في المؤسسات. وعادة ما يستغرق إيجاد بدائل لهم وقتاً طويلاً، وبالنظر لاحتياج القوى الجديدة لتسيير الأمور، حيث يكون كل شيء مدمراً أو شبه معطل، ونظراً لحاجة هذه القوى لإرضاء الشارع، الذي جاء بها، والظهور بمظهر الفاعل الجديد، فإنها تتغاضى مجبرة عن التدقيق في انتماءات الكادر الإداري، والذي غالبا ما يكون متضخماً بسبب الولاءات والانتماءات، التي على أساسها قام النظام السابق بتعيينهم.

بيئة الثورة أو الناس الذين تنطلق من بين ظهرانيهم الثورة، غالبا ما يكون هؤلاء من المهشمين الفقراء. فبالتأكيد هم ليسوا من كوادر النظام السابق ولا من الفئات والشرائح القريبة. وبالتالي، ما إن تنتهي الثورة حتى تكون هذه البيئات قد راكمت مقادير الإنهاك على جسدها، وتجاوزت حدود قدرتها على التحمل، في حين أن النظام الثوري الجديد لن يستطيع تغيير الأوضاع قبل مدة ليست قصيرة.

الثورات والمناخ الذي تشيعه، غالباً ما يشرع النوافذ أمام ظهور حالات الانقسام الوطني، وخصوصاً في حال الكيانات ذات التركيبة الديمغرافية المتنوعة، عرقياً ومذهبياً وجهوياً، والتي في الغالب تكون قد راكمت في عهد الأنظمة السابقة تهميشا وتمييزاً ضدها بسبب انتماءاتها تلك، وهنا يتسع معنى الثورة والحرية لقضيتها، التي تكون محقة في الغالب، فتذهب القوى المتطرفة فيها إلى حد رفع سقف مطالبها، ليشمل المطالبة بالتحرر من الالتزامات السابقة، وبخاصة على الصعيد الوطني.

ليست نزهة. تحتاج الثورات لجهود كبيرة، ليس فقط لإثبات نفسها، بل، وهو الأهم، للتخلص من عفن عقود طويلة، راكمتها أفعال قيادات المرحلة السابقة والتي تسلمت الحكم على مدار الفترة الزمنية الأكبر من تاريخ حياة تلك الكيانات. بالطبع، ليس المقصود من وراء ذلك التقليل من أهمية الثورات، ولا قدرتها على إنجاز التغيير، الأكيد أن هذه الثورات أنهت تاريخاً عبثياً من الموات، والأكيد أنها ستفتح الباب أمام تعبيرات وممكنات لحياة أفضل، طالما جرى تنويمها. لكن يتوجب الانتباه إلى حقيقة أن البلاد التي عاشت «فدا إجر القائد»، غالباً ما يأخذها ذلك القائد برجله وهو راحل.

غازي دحمان – المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.