يثب

الصداقة والمبادئ والثورة

الصداقة والمبادئ والثورة

د. كمال اللبواني

قامت الثورة لتحقيق الحلم بالحرية والديمقراطية ، وبسبب هذا الحلم دفع الناس الكثير الكثير … فمنهم من دفع حياته ومنهم من تشرد ومنهم من فقد من أسرته ، أو من جسده ……  وهام ملايين المواطنين على وجوههم يبحثون عن ملاذ ، يحملون معهم حلمهم بوطن آمن يعيشون فيه بحرية ، بينما صمد رجال ذو بأس في ساحة الوغى يتصدون للمجرمين والطغاة بما تيسر من عتاد وقوت .

أما نحن فيفترض بنا أن نكون أمينين في تمثيل هؤلاء ، وساعين لحمل حلمهم وتحويله لحقيقة ، ومتأكدين من سلامة الوسائل وصحة الطريق … إذا تكلمنا عن تمثيل ندعيه   ، ومبادئ نسير عليها .

عادة ..  الديكتاتورية تبدأ من شعارات وشخوص وأماكن مضللة (النصر التقدم الوحدة البناء التحرير ، ومن قبل ثوار وعسكريين ومثقفين ،  ومن قصور وأموال وفنادق ومنتجعات )، لكنها تنتهي لسجان في الفرع 215 يهوي على موقوفيه العشوائيين ببوري حديد ، حتى قبل أن يعرف أسماءهم فيحدث فيهم الكسور و النزوف والصدمات فيموت منهم من يموت على الفور أو بتعفن جروحه فيما بعد ، ويبقى على قيد الحياة من يكتب له الخروج ليروي الصورة الحقيقية للديكتاتورية ، فالصورة الجميلة للاستبداد التي تبدو في البداية . تنتهي ككل ابتسامة ليث بجريمة وكارثة ومجزرة جماعية .

أما الديمقراطية فتبدأ عادة بالجرأة على قول الحق ( النقد ) ، وبالشفافية أي نقل صورة ما يجري للرأي العام  ، ثم تمتد لتأطير الرأي العام ضمن نسق حزبية أيديولوجية ، لكي تنتهي بمجالس تمثيل شرعية منتخبة ، تنتج قوانين تخدم مصالح الشعب ، تطبقها سلطة تنفيذية مراقبة وخاضعة للحساب .

هل نحن  من ندعي تمثيل ثورة الحرية والديمقراطية نسير فعلا على الطريق الصحيح ؟ سؤال أستمر بطرحه ، لمتابعة العمل من أجل حلمي ومبادئي التي التزمت بها ، وبنيت عليها كل تحالفاتي وصداقاتي وعلاقاتي حتى الأسرية  …  ولهذا السبب دفعت من حياتي سنوات طويلة في السجون ، كسجين ضمير ورأي ، ثم تجاهلت مشاعر أقربائي الذين اختطف ذويهم للضغط علينا فانتهوا حيث لا ندري  في غياهب الفرع 215 ، الذي أنتجته ديمقراطية المادة الثامنة ، في دستور البعث الذى ادعى أنه يحتاجها لينجز التحرير ويبني المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.

البعث كان يقمع حرية التعبير … هل نحن نسمح بها عندما تطالنا ،

البعث كان يكره الشفافية ويعتبر كل شيء سر حربي و وكل منطقة عسكرية … هل نحن شفافين ، نصرح عن ثرواتنا وتاريخنا وطريقة عملنا  عندما نتنطح  للعمل العام ؟؟؟؟

البعث كان يعين ممثلي الشعب ، هل أعضاء ائتلافنا الموقر منتخبين ، أم معينين مثلهم .. ومن عينهم يا ترى ؟؟  الشعب ؟؟ أم  آخرين ؟ وما هي المعايير التي تم اختيارهم بناء عليها ، حتى التوسعة الملتبسة ؟؟؟ من هي الجهة التي اختارت وكيف اختارت  ولماذا ، إلى أي درجة  يا ترى تتحقق مصداقية التمثيل :  تمثيل ممثلي الأحزاب  لأحزابهم  إن وجدت ، وممثلي المجالس مجالسهم ، وممثلي الحراك حراكهم ،  وممثلي الجيش الحر  جيشهم …  وهكذا أسأل نفسي أيضا كوني مستقلا إلى أي مدى أمثل ضميري ، وإلى أي مدى أخونه ؟؟؟ وهل من واجبي تجاه صداقاتي وحسن علاقاتي أن أضحي بهذا الضمير على مذبح المجاملات ، في مؤسسة معنية بمصير شعب ووطن  ؟؟  ولماذا يعتبر كل شخص يستلم منصب أن أي نقد لأدائه ، هو اعتداء عليه وليس بسبب مسؤوليته المكلف بها .

البعث كان يطلب الولاء مقابل المناصب والمنافع ، ونحن هل نستخدم المال السياسي لشراء الولاءات ، وكم عدد من صوتوا تبعا لضمائرهم ، وكم عدد من هم أحرار من تأثير المال . ليسأل كل واحد نفسه ، هل يجوز أن يستخدم المال في التصويت ؟؟ وهل ترك الأعضاء أحرارا أم صوتوا تحت ضغوط من عينهم وجاء بهم ويهددهم بالاستبدال . أي نتيجة نتوقع ؟ من هكذا ديمقراطية وهكذا تمثيل ، وهكذا شرعية . ربما حارب فريق الفريق الآخر بسلاحه ذاته ، لكن ذلك يؤكد شيوع الفساد السياسي لدرجة خطيرة ، ولا يمكن للطرف الفائز اكتساب الشرعية إذا لم ينقد ذاته ويصلح الخطأ في القائم في نظام المؤسسة .

ما هو المال الشخصي وما هو المال العام ، وكيف يكون مال وارد من دولة أو مؤسسة مالا شخصيا يصرفه شخص على هواه ، وفي سياق نشاطه السياسي العام ، وهو المفروض به أن يعلن عن ذمته المالية ومصادر دخله ومصاريفه كلها لتكون تحت عين الرقابة ، و ما معنى أن يأتي المال لشخص وليس لمؤسسة ، ليقوم بتوزيعه وصرفه بما يرضي ( الله ) ، ألا يعني ذلك فساده  هو أولا ، ثم جذب كل ما خلق الله من انتهازيين ، وذباب ليتجمع حوله فريق من حملة المناشف ، يصنع له هالة من القداسة تنتهي به للغرور والصمم والعمى عن الحق ، مهما كان فطنا ،  ولماذا عجزنا  عن ايجاد مؤسسه حصرية في تلقي الدعم ، إذا كنا ديمقراطيين وشفافين ، لكي يصرف وفق سياسة متفق عليها ، ومحاسبة قانونية ،  ولماذا نحول كل أصحاب الحاجات وما أكثرهم لمتسولين يطرقون باب الانتهازيين والمتسلقين المحيطين بمصادر الدعم ، ألا يعني هذا إضافة الذل للحاجة التي يعاني منها الشعب المنكوب . هل نحن نختلف بنظر هؤلاء عن النظام ؟؟ ، كيف يثق بنا وكيف يحبنا الشعب ولا يثرثر علينا بما كان وبما لم يكن ؟؟؟ ولماذا يمارس أي موزع للدعم ما يمارسه الأسد وشبيحته .

هل الدعم الذي يأتينا موجه لإسقاط النظام ،  أم هو مشروط ومبرمج لإعادة انتاج النظام ، إن كان عبر حل سياسي ؟ أو حتى الابقاء على المفاهيم والوسائل .

وهذا الدعم الذي يأتي للثورة – بالطريقة التي يأتي ويوزع بها – هل نفعه أكثر من ضرره ، أم هو كالخمر ظاهره دعم ومفعوله تخريب ، وهل من يدعم الثورة يريد لها أن تصل مبتغاها أم يريد السير بها بعيدا عن الديمقراطية التي يخشى امتدادها إليه ، وهل ما حدث بنتيجة هذا الدعم هو ما نريده وما يريده الشعب ؟؟؟

ما هو سبب الانقسامات والشرذمة وتفتت قوى الثورة ، أليس التنافس على الدعم الذي يوزع بطريقة مزاجية والمشروط بالولاء والتبعية ، وليس بالحاجة والضرورة ، والمحدود بحدود دنيا لا تثمن ولا تغني من جوع ،

وهل فعلا بسبب صرف النفوذ يأتي للمنصب من هو كفؤ وأهل ، أم من ترفعه رافعات المال والنفوذ المشروط بالتبعية …  بعد ذلك ماذا يتبقى من الحرية والسيادة والكرامة ؟؟

هل من مصلحة الثورة أن توجد في كل مفاصلها قيادات ضعيفة وشكلية وعاجزة وغير مستقلة القرار وتعاني من أزمة ثقة وأداء متهافت وتصر على عدم الافادة من خبرة الآخرين الذين يستبعدون  ؟؟؟؟؟؟

وهل الثورة شخص أو جهة أو حتى حزب مهما كان ذكيا وقويا ، وما هي نتيجة احتكاره للسلطة والقرار والدعم وتغييب شركائه في المراكز الأخرى  والغاء المؤسسات والعمل المؤسسي؟؟

ما هو العامل الذي  يغذي تلك الانقسامات وتلك الشائعات التي تطال كل ما له علاقة بالثورة والثوار ؟؟  هل السبب هو الحرية بذاتها ، أم ‍أنها تحتاج لتوأمها وهو الشفافية ، وهل الحرية من دون شفافية تنتج غير الشتائم والفراق ، أي من دون فتح الأدراج وإضاءة الممرات ، ومن دون آلية تقوم بفرز الحقيقي عن الافترائي والصادق عن الكاذب . وكيف نميز بينها من دون مصارحة وشفافية ؟ و من دون مؤسسات رقابة تمارس عملها على كل المستويات وتبدأ من الذات ومن قمة الهرم .

نحن نعلم أن الغالبية قد تورطت بممارسة الاستبداد والفساد خلال النظام القديم ، لذلك علينا أن نبدأ من المكاشفة ، وليس الكذب ، فأصل التوبة هو الاعتراف ، وأول الثورة هو على الذات ، لكن التستر سرعان ما يفتح باب الإشاعة ويفتح باب الافتراء ، أما ادعاء النزاهة و الثورجية فسرعان ما سينهار تحت مفعول التسريبات

ومن يخشى … عليه أن يخشى الله فلا يقوم بعمل يخجل من أن يراه الناس ، فالله يسمع ويرى والله أحق أن نخجل ونخشى . .. أم نخشى الناس أكثر ، ونلوم ليس من فعل بل من تكلم . حتى لو تكلم بهدف المعرفة والمنفعة والتصويب .

من دون الإيمان بالديمقراطية ، ومن دون اتباع مناهجها ، هل سننتج شيء آخر غير الاستبداد ، ونحن الذين نريد اسقاط النظام ، هل نعيد انتاج نظام آخر مشابه بشكل ورموز جديدة ( استبداد ديني ، أو سلطاني ، أو عسكري ، أو بمزيج منهم ؟؟ ). وهل ستستطيع ثورة الحرية الخروج من حالة الفوضى من دون رؤية واضحة ووسائل صحيه أن ترسم مسار اعادة بناء الدولة بشكل صحيح ومستقر ، بحيث لا تنهار مجددا علينا كل فترة ، فنجد أنفسنا مضطرين لهدمها فوق رؤوسنا ورؤوس غيرنا .

ما أراه أننا ما نزال نحتاج لقيم الثورة ولممارستها ضمن الثورة ، وضد النظام الجديد الذي وضعناه نحن ، أو فرض علينا كثوار ، ثوار يسعون بوطنهم نحو الديمقراطية ، التي هي ضرورة لا بد منها لعودة الاستقرار والسلم الاجتماعي  .

لذلك أعتذر من أصدقائي الذين يمزجون بين  الصداقة والسياسة معا ، أو  الذين يفهمون الصداقة كشيء فوق المبادئ ، ويمزجون بين العمل العام المفروض أنه متجرد ومنزه ، نزاهة القاضي ، مع الشأن الخاص والمصالح الخاصة  ، وتسير بهم مبتعدين عن المشروع العام شكلا ومضمونا ، الذي يجب أن نضع أنفسنا كلنا في خدمته ونتوزع المهام كل حسب مقدراته ، ونقدم أنفسنا كخدم مؤقتين له ، سرعان ما نستبدل عندما يضعف أداؤنا ….  لكن يبدو لي أننا ما نزال نحمل ذات المفاهيم الديكتاتورية عن القيادة والمنصب والمسؤولية كملكية خاصة . وبالرغم من انتمائنا للشعب حاليا ، لكن سرعان ما سنكتشف أننا ابتعدنا كثيرا عنه ،

أعتذر من أصدقائي لأنني أسمع صوت بكاء الأطفال ونحيب الثكالى أعلى من كل صوت آخر ….كما أحب أن تكون هذه آخر مرة يُطلَب مني أن أضع صداقتي فوق مبادئي ، لأنني بعدها سأعود إلى رصيف الخبز والأمواج  وأنتمي للأزرق .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.