يثب

الديمقراطية والدولة الاسلامية

الديمقراطية والدولة الاسلامية

سوء تفاهم !  أم تعارض  ؟

د. كمال اللبواني

فعلا لقد تم توظيف الديمقراطية في مكان الشيوعية والالحاد، وللقيام بدورها ،  بل في مكان  الاستبداد وبوظيفته ، وكل الأنظمة الحداثية في شعاراتها ، عملت بشكل نخبوي استعلائي استغلالي ، مضاد لجوهر الديمقراطية التي هي سلطة الغالبية من سواد الشعب ، بكامل هويته وعقيدته ودينه . فارتبطت كلها (كألوان لنظام نخبوي استبدادي ) بالغرب ، والاستعمار ، وما تبعه من سلطات عميلة،  وسيلتها القمع ، وثقافتها الاغتراب ، ودينها الفساد ، واشتهرت بممارسة القمع والظلم والافقار والتغريب ،ومحاربة الأصالة والقيم والهوية والدين …

وعليه صارت تواجه بشعارات مضادة لها شكلا ومضمونا ، فكان شعار الدولة الإسلامية الذي يعني أول ما يعني رفض سلطة النخب الفاسدة ، ورفض التخلي عن الهوية والموروث الديني والقيمي ، ورفض التبعية ، ورفض الذوبان والاندثار ، وهكذا وعليه فنحن قطعا مع الخيار الثاني ، وليس الأول ، مع الشعب وليس النخبة ، مع الوطنية وليس التبعية ، مع الهوية وليس الانحلال ، ومع الدولة الاسلامية التي تعني سلطة الشعب ، وليس الدولة الديمقراطية التي تعني سلطة الخبة المستغربة التي اختطفت السلطة المادية والمعنوية والثورة أيضا ، و تعمل لكي تنتهي بنا بضياع الهوية والاستقلال والتخلي عن الدين والقيم والتحلل و عن جوهر الديمقراطية بالتالي  .

لكننا نسأل  هل هذه المقاربة التوظيفية كافية وصحيحة نظريا ، أم هي ترى فقط كاصطفاف سياسي ، مما يتطلب العودة لحقيقة المعاني والمفاهيم ، لتصحيح دلالاتها و توظيفها ضمن الوعي الجمعي .

النظام الاسلامي كما هو وارد في النص والتجربة ، هو نظام يعتمد الشورى في الأمر والأمارة ، والبيعة في تشكيل السلطة بين أهل الحل والعقد ، وهذا لا يمكن ترجمته في الدول الحديثة ، إلا عبر نظام تفويض وتمثيل وانتخاب ، أي عبر الديمقراطية التمثيلية ، في تمثيل الرأي العام ، وتشكيل السلطة وعزلها ومراقبتها ، ولا أعتقد أنه يوجد تناقض في هذا المستوى بين الإسلام والنظام البرلماني ، بما فيه من حرية وتعدد اتجاهات الرأي العام وانقسامها على أحزاب سياسية مختلفة ، و حرية الرأي والانتقاد ، وتنظيم الانتخابات السياسية النزيهة ، مع ملاحظة أن هذه الانتخابات السياسية لا تجري على العقائد والكتب المقدسة ، بل على أفكار وآراء وأشخاص مجتهدين .

فكل نظام سياسي هو حكم بشري وأرضي ، أما تحكيم الله فهو ليس بممارسة سلطة قمع خارجية على الناس باسمها ومن أجلها ، إنه في النفس وعليها ، وليس في الواقع ، لأن حاكمية الله  حاصلة في الواقع وتتحقق شئنا أم أبينا  بملائكة شدادا ، وخياراتنا محصورة فقط في ساحة إرادتنا الحرة ، التي هي النفس ،والتي علينا أن نحكم الله فيها بإرادتنا الحرة الممتحنة ، فلا نختار إلا ما يرضي الله وهو التقوى ، أما القانون  والسلطة الأرضية ، فلا يحق لها أن تحاسب البشر سوى على أفعالهم ، وليس على نواياهم وقلوبهم ( أشققت على قلبه ) ، بل فقط على الأفعال التي تهدد السلم الاجتماعي ، والتي تستوجب حق الدفاع العنيف عن النفس والممتلكات ، فحدود القانون هي هذه ، وما عداها مباح أو مكروه ومرجأ وحسابه وجزاه على الله …

أما تدخل الدولة لأداء دور الملائكة في تنفيذ أوامر الله فهذا يشترط تواصلها مع القدر وعلمها بغاياته ، وهي هنا تفتري ، وتحول الحاكم لرب يسير الناس وفقا لأهوائه ، و تحول الشرطة لملائكة تراقبهم وتستعبدهم وتحرمهم من حرية الاختيار ، وخوض الامتحان المسؤول الذي وجد الخلق لأجله ، و تحول القضاة لحكام على تقواهم وعقائدهم .. وليس فقط على سلوكهم الذي يضر بالآخرين ( وهو حد العدالة الدنيوية ) ، إن في ذلك  تجاوز وغلو وافتراء على الله ، وطاغوت . فالسلطة دوما هي سلطة بشر أرضيين خطائين وأنفس أمارة ، وليس سلطة ملائكة معصومين ، والتشبه بالخلفاء ممكن ، لكن التشبه بالرسول غير وارد ، لأنه نبي ومعصوم وموحى إليه . فالحاكم لا يحكم باسم الله ولا نيابة عنه ولا هو مفوض منه بل بالبيعة بين الناس ، والله غني حميد عنه وعن كل البشر وكل أجهزة الآمن .

والحاكم ليس خليفة الله في الأرض ، بل هو أمير المؤمنين بمشورتهم ، والمفوض منهم والمقوم بسيوفهم إذا ضل وظلم . ولا قدسية إلا لله . والسلطة ليست مقدس ديني . فسلطة الدين تمارس في داخل  النفس من خلال الضمير ، وسلطة القانون تمارس من الخارج على الأفعال بواسطة الشرطة .

أما النظام القانوني المتبع في المحاكم ، فهو نظام وضعي ، يتناسب مع المستوى الحضاري الذي وصلت إليه التشكيلة الاجتماعية ومع خصوصيتها ، لكنه يستمد غاياته من الشريعة ومقاصدها ، وليس ملزما بحرفها وشكلها التطبيقي المتغير تبعا للظروف والشروط تغيرا في الشكل مع الاحتفاظ بالجوهر والأصل ، فشكل تطبيق الشريعة الذي يقع في حيز المتشابه والمثال الذي تستخرج منه العبرة والغاية ، فالكثير من العقوبات المنصوص عنها في الحدود ، يمكن تخفيفها أو استبدالها بعقوبة السجن والغرامة والتعزير ، اذا وجد المشرع أو القاضي مصلحة في ذلك ، فالخير هو الغاية واليسر مطلوب ، لكن ليس على حساب المبادئ والمقاصد ، التي لا تختلف عليها الثقافات ، لأنها أساس العقد الاجتماعي ، والتي كلما تغاضينا عنها تدهورنا نحو الوحشية من جديد .

إن تطور وسائل المراقبة والمعاقبة والاصلاح جعل من تطبيق الحدود كما هي ، ليس شرطا لتحقيق غاياتها ، التي قد تتحقق بشكل أفضل وأسهل بوسائل وأشكال أخرى . وعليه لن نجد أي تناقض بين غايات ومقاصد الشريعة وبين مصلحة وخير الجماعة التي يقصدها المشرع . وليس بالضرورة تطبيق شكل قديم مناسب لمرحلة ومستوى معين من الحضارة ، دوما بذاته وحرفه ،

وبالتالي لا نجد تناقضا بين من يريدون الدولة الإسلامية ، وبين من يريدون الدولة المدنية الديمقراطية ، إلا فقط عند المغالين من الطرفين ، أو المتمسكين بالشكل دون الجوهر ، ومنهم من يحمل فكرة الحرب على الاسلام مهما كان ويستخدم سلاح الدولة المدنية ، ومنهم الذين يحملون الفكر المتشدد والتكفيري  ويستخدمون شعار الدولة الاسلامية للتحكم بالبشر ، والمتشدد التكفيري لا يميز بين الكبيرة والصغيرة ، بين المجموع والجزء ، فكل معصية كفر ، ومرتكب الصغيرة عاص وكافر كمرتكب الكبيرة ، ولا تساهل في الدين ولا في الشريعة ، ولا العبادة ، ولا في أي تفصيل ،  ولا بد من تطبيقها كلها وبحرفها وبكامل سننها ومعا ودوما ، فخذوا الدين كله أو دعوه ، وكله تفهم هنا ليس بعمومه وجملته وكل خياراته المتنوعة ، بل كل جزء وتفصيل فيه ، الدين الذي يتحول لعدد كبير من القوانين يطبق كل منها على حدة ، وهو فهم يؤدي لتكفير أغلب الناس إلا المكفرين أنفسهم ، ويتناقض مع جوهر الدين الذي يقر بوجود الشر والشيطان ، وبقاءه إلى يوم الدين ، وعدم القدرة على هزيمته نهائيا وبشكل تام ، بل يقر   بالتوبة ، وبأن الحسنة تذهب السيئة ، فكل أمرئ خطاء ، و يحاسب على حصيلة مجمل عمل الإنسان ، فهي ما يحاسب عليه الله ، وهناك دوما مكان للتوبة ، وهناك حسنة مضاعفة وسيئة مغفورة ، وشفاعة ترتجى . وهكذا لا يجوز لأحد  استباق الحساب الإلهي بحساب أرضي ، فكل سلطة مكلفة فقط بإقامة العدل بين الناس ، ومنعهم من العودة للفوضى والوحشية . وكل تجاوز لتلك الصلاحيات سيجعل منها سلطة استبداد بشري يحقق غايات ونزوات ووساوس الشيطان .

نعم هناك تضارب سياسي كبير بين من يرفعون شعار الدولة المدنية ، ومن يرفعون شعار الدولة الاسلامية ، ونحن مع الثاني ، لكننا لا نرى فرقاً جوهرياً ، ولا تناقض بين الدولة المدنية الديمقراطية والدولة الاسلامية ، بمفهوم الاسلام الوسطي ، (والوسطي هنا لا يعني نصف اسلام بل أصله وميزانه وصراطه المستقيم ككل متكامل )، بل نستطيع أن نقول أنه لا فارق بين الديمقراطية والاسلام السياسي ، إلا اللهم في اللغة والتسميات ، لكن في الجوهر والصميم هما  بمضمون واحد ، وكفا اتهاما للإسلاميين بالتطرف والتشدد ، وبرفض الديمقراطية والدولة الحديثة ، والحريات العامة ،  فالإسلام أكثر حرية وعدالة ومدنية وحضارة وأخلاقا من نظم الغرب ، لكن هذا يتطلب مطبقين واعين لدينهم ودنياهم ، وهو ما نرجوه ، ونسعى إليه ….  وهذا اجتهادي والله أعلم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.