يثب

فيدرالية !… أم محاصصة طائفية  وتقاسم نفوذ ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

هناك دولة لا مركزية تعطي للإدارة المحلية صلاحيات واسعة، وهناك دولة مدنية متعددة الثقافات والانتماءات العرقية والدينية، وهناك اتحاد فيدرالي بين ولايات تتمتع كل منها بسلطة قانون ونظام مختلف تجمعها أمور عامة فقط  كالجيش والخارجية …  فأي فيدرالية يقصدون … هل أكراد دمشق سيتمتعون بحقوقهم أم سيصبحوا لاجئين ومقيمين ، وهل عرب القامشلو سيصبحوا لاجئين غرباء لا يستطيعوا التكلم بلسانهم، وهل سيطلب من سنة الساحل العودة لدولتهم في الصحراء ، وماذا عن الأقليات الصغيرة … هل سيخسرون حقوقهم كمواطنين …  وهل تستطيع الحسكة أن تعيش من دون حلب ودمشق …  ؟؟؟ لنفكر جميعا بأن صيغ التقسيم المقترحة لن تحل أي من مشاكل سوريا ، بل صيغ الوحدة التي تحترم الحقوق والتنوع هي من تضع سوريا على أبواب الحضارة والتقدم في زمن لا مكان فيه للانغلاق والتقوقع على الذات …

الفيدرالية مصطلح جميل يوحي بالحرية ويعبر عن ليبرالية ثقافية واسعه … فالمجتمع تعاقد بين أحرار ، والدولة هي أيضا اتحاد بين مكونات قد تكون متمايزة … فالتناغم والتحاكي بين الفيدرالية والليبرالية والديموقراطية قائم وغالبا ما يضعهم في سياق واحد … لكن المقصود بالفيدرالية في سوريا هو شيء آخر غير هذا … هو الغاء لهوية الدولة ووحدتها ، وبناء نظام المحاصصة الطائفية فيها  وتقاسم النفوذ عليها بين الدول … فهي ليست فيدرالية قومية تربط بين قوميتين شقيقتين وتمنعهما من الانقسام ، ولكل منهما أرضه الخاصة به، أي فيدرالية سياسية بالمعنى الحرفي، بل هي فيدرالية تقسم الواحد المتداخل تاريخيا بطريقة غريبة عجيبة، مرة على أساس قومي مبالغ به ، ومرة على أساس ديني تزمتي، ومرة طائفي حاقد ، ومرة جغرافي ومرة سياسي حزبي … فيدرالية تحول الوطن لدولة فاشلة بشكل دائم تخضع لنفوذ أجنبي يتقاسمها … فلكي لا يقولوا أنهم قسموا سوريا وخلدوا فشلها وحولوها لامارت حرب، يجرى استعارة كلمات مطربة مثل الفيدرالية دون أن يحددوا بين من ومن ، وما هي حدود كل طرف أو مكون على الأرض التي ضاقت بسكانها فهجّرتهم وشردتهم ، وهل ستقوم هذه الفيدرالية على جرائم حرب وتهجير وتطهير ؟ من سيرسم حدودها وأين تلك الحدود ؟…

الفيدرالية المطروحة في سوريا هي البديل عن الاستقلال والعقد الوطني والعدالة والمساواة أمام القانون … فالمواطن في هكذا فيدرالية يحتاج للمرور عبر مرحلة أولى من الانتماء القسري الطائفي والعنصري لكي يرتبط بالدولة … التي تصبح مجرد جامعة هشة لمجموعة امارات تحكمها عصابات ، فلا تقوم بأي من وظائفها المدنية الحديثة … إنه التقسيم والتفتيت السياسي والمجتمعي وتكريس صيغة الدولة المتخلفة. واستعادة لدور الدين والطائفة في الحياة السياسية بل تكريس لها، وهي بذلك أيضا تقوض أسس العلمنة والمدنية وأسس الديمقراطية، وتهيء الأرضية لفساد واستبداد نعرفه تاريخيا، وتكرس وتديم صراعات بينية لا تنتهي … وترسخ النفوذ الأجنبي على كل قسم منها.

صحيح أن كل سوري يحب الزعامة وأن زيادة عدد الكراسي والمناصب سيزيد من رضا السوريين النازعين بشكل عفوي للتنازع والاختلاف، فهم يحبون سوريا لكنهم يتنافسون عليها بطريقة غير شريفة، و يفتقروا لحب بعضهم الذي تجلى في الحرب الأهلية الهمجية الأخيرة … لكن مع ذلك فالفيدرالية المبنية على أساس طائفي، ليست هي الحل للخروج من هذه الحرب بل هي وسيلة تخليدها … فمتى كانت الشعوب تتشكل على وحدة الدين والمذهب الذي يفترض أنه انتماء حر ، ومتى كانت الطوائف (شعوبا)  صالحة لتشكيل الدول من دون وحدة الأرض …

فلو كانت فيدرالية دستورية تحفظ التنوع وتكرس حالة السلم والحرية والديمقراطية فهذا لن يضر، بل سيساهم في توحيد دول المنطقة . لكن فيدرالية سياسية جغرافية على أساس طائفي ستكون عودة بعكس التاريخ لعصور الانحطاط والاستبداد .. واستدامة للصراع الأهلي وشكل من أشكال تخليد الحرب الأهلية ولبنان خير شاهد على ما نقول .

سوريا يجب أن تمثل بطريقتين ومجلسين : مجلس للمجتمع المدني ( نواب ) ومجلس للمجتمع الأهلي ( شيوخ ) ويجب أن ينص دستورها على التنوع الثقافي ويحترمه ويحترم حرية الاعتقاد ولا يمزج بين الدين والسياسة .. سوريا ليست هي الوطن النهائي للسوريين بل هي بهذا الشكل مرحلة في مسيرة توحيد المنطقة بشكل سلمي وحضاري يحقق طموحات كل الشعوب والقوميات ، ويرسخ مبادئ التعايش والتسامح بين الديانات والطوائف … سوريا يجب أن تكون النموذج الذي يعيد تكوين الشرق الأوسط الذي لا يمكن أن يستقر ويزدهر الا بمشروع اتحادي بين اربع قوميات رئيسية هي العربية والكردية والفارسية والتركية … وعلى تعايش كل الديانات لتدخل العولمة الانسانية من بوابة الاخاء والتعاون وتصبح رافعة لكل الشرق الأوسط الكبير الذي يتجه نحو الفوضى والفشل من دون اعتماد قيم ونظم اجتماع سياسي جديدة متناسبة مع منطق وقيم العصر ،ولا تتنكر للتراث والهوية ولدور الدين…

تقسيم سوريا لن يكون الا مشروع تقاسم نفوذ ومشروع حرب سرعان ما سينتشر في كل دول المنطقة ، بينما اعادة بنائها على اسس وقيم جديدة سيساهم في توحيد المنطقة على اساس فيدرالي ، يشبه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، يحل كل مشاكلها ويتجاوز عثراتها وصراعاتها … وعلى الشعوب أن تتعلم كيف تبني صداقاتها وليس عليها أن تجدد وتخلد صراعاتها ، عملا بقوله تعالى :

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.