يثب

باي باي روسيا … باي باي سوريا – الانسحاب الروسي و ” إعلان التقسيم “

 

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

سبق التدخل الروسي زيارة اسرائيلية عاجلة ، وسيتبع الانسحاب زيارة عاجلة أيضا … والسبب هو خطورة التطورات التي تمر بها المنطقة … التي تحولت لما يشبه البركان … فالدم السوري الذي سفح لسنوات بأبشع الطرق وأكثرها همجية تحول إلى لعنة يحاول الجميع الهروب منها …

كانت روسيا تتجه للتخلي عن الأسد لولا تدخل ايران ووعدها بمساعدته بعد أن وقعت اتفاقها النووي وأطلقت يدها في المنطقة . لكن لم يغب عن بال موسكو عندما قررت التدخل عسكريا في سوريا ذكرياتها في أفغانستان … لذلك قررت أن يكون تدخلها جويا فقط، لكن الغطاء الجوي الكثيف والمكلف لم يرافقه تقدم حقيقي جذري على الأرض كما وعد قاسم سليماني، فهشاشة جيش النظام واعتماد ايران على الميليشيات، ومقاومة الشعب السوري المستمرة والعنيدة تسببت كلها بحالة من اليأس والخيبة عند الروس الذين صعّدوا من همجية هجومهم بغرض الضغط لتحصيل مكسب سياسي يبرر ايقاف عمليتهم التي ورطهم الإيراني فيها …

لم تحظ العملية الروسية بدعم وحماسة شعبية روسية تلهي الشعب عن مشاكله الداخلية رغم الحشد والترويج الديني المقدس لها ، ولم تفلح محاولة الحكومة في تأجيج الرأي العام عندما وضعت روسيا على شفا حرب مع تركيا الخصم التاريخي اللدود الذي اقتلع الامبراطورية البيزنطية واحتل عاصمتها القسطنطينية وحولها لمدينة اسلامية بالكامل (استانبول) ، ولا التخويف من تمدد الخطر الجهادي وعودته للشيشان وبقية المناطق الاسلامية المحتلة من الروس والتي لم تهدأ بعد … بل نجح التدخل في مفاقمة الأزمة الاقتصادية الروسية التي صارت تهدد النظام ، وتزايد التطرف والتشدد ، وفي زيادة نقمة خمس سكان روسيا المسلمين. وفي زيادة التعاون الإسلامي السني الذي تطور نوعيا بشكل غير مسبوق .

وفيما عدا اسقاط الطائرة الروسية تعاملت تركيا ببرود مع الاستفزاز الروسي، وتحملت المجموعات الاسلامية الحليفة لتركيا العبء الأكبر في صد الهجوم الروسي الإيراني، ولم ينجح الكرد في تطوير هجومهم لمحاصرة حلب وعزل تركيا عن الساحة السورية بالرغم من الجسر الجوي الذي حمل لهم السلاح من روسيا وأمريكا ومن النظام وايران أيضا … ولم تبذل روسيا أي جهد عسكري ضد داعش كما ادعت وبررت هجومها بل تابعت سياسة التدمير والتهجير التي يتبعها النظام باتجاه المناطق المعتدلة والحواضن السكانية، فكما توضح عملياتيا فإن داعش والنظام وايران وروسيا هم فريق واحد له عدو واحد هو الشعب السوري.

وفشلت روسيا في الوفاء بتعهدها للغرب والعرب بتقليص النفوذ الإيراني بل زادت من توسعه وامتداده ، وزادت من غطرسة النظام ، وتشدده تجاه الحل السياسي المتفق عليه مع الأمريكان نظريا، بل ارتكبت هي بجيشها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية جرى توثيقها وتقديمها للمحافل الدولية ، وهي العضو الدائم في مجلس الأمن … وترك الأمريكان روسيا تغوص في المستنقع السوري وتستنزف اندفاعها في مواجهة العالم الاسلامي كله الذي بدأ يشكل قوته العسكرية الموحدة التي أقلقت الجميع،

وتفاقم سوء الوضع الاقتصادي الروسي بسبب العقوبات الأوروبية وبسبب تكاليف الحرب. وصارت روسيا مستعدة لتخفيض سقف مطالبها أكثر وأكثر بسبب الامساك بالورقة السورية التي تحولت لورقة استنزاف لها بدل أن تكون ورقة ابتزاز بيدها … وهكذا قبلت بما لم تكن ترضى به وقبلت بمجرد تفاهمات سرية مع أمريكا على سوريا وأوكرانيا، بمعزل عن أوروبا التي خرجت خاسرة في كل من سوريا وأوكرانيا معا … حيث تزايد بشكل فوري وحاسم النفوذ التركي والسعودي والايراني في سوريا بغياب الدب الروسي الذي تفرغ لأوربا، مما يزعج  أوروبا ويشعرها بالخطر ، في حين غاب الدعم الأمريكي لأوكرانيا . ولم تعد هناك آلية حقيقية فاعلة قادرة على الانتصار على المنظمات الجهادية التي أصبحت أوراق بيد الدول الاقليمية تقاتل بها ونيابة عنها والتي تمتد وتنتشر في طول العالم العربي والاسلامي …

لكن روسيا لم تخرج نهائيا من سوريا وهي تستطيع العودة في حال سار مشروع التقسيم لتقتطع دويلة علوية فقط ، بدل أن تدافع عن النظام السوري الحالي … الذي تجري محاولة انقاذه عبر مفاوضات جنيف التي تتجه للفشل التام … لكي تبقى المنطقة مرشحة لحرب اقليمية لتقليص النفوذ الإيراني وقصقصة ذيول ايران في سوريا ولبنان عبر القضاء على حزب الله الذي دخل مرحلة جديدة من التسلح الغير تقليدي، والذي صار بهذه الحال قادرا على ابتزاز الغرب عبر تهديد اسرائيل … فحزم الشمال الذي أصبح هو الخيار الوحيد سيستهدف كل المنظمات الارهابية وفي رأسها حزب الله ، مما سيدفع ايران لشن هجوم مباشر على السعودية وباتجاه دول الخليج الأقرب، وهو ما سيدخل المنطقة كلها في أتون صراع سني شيعي طويل المدى، وجدت روسيا أيضا مصلحة لها في افساح المجال له.

لكن ماذا سيكون مصير الاندفاع الكردي نحو الاستقلال مع توقع خذلان الأمريكي له كعادته مع كل حلفائه ، خاصة بعد تورط (الحركة الانفصالية الكردية ) في صراع دموي مع أشقائها وفتح جرح عميق في جسد الأخوة التاريخية مع العرب والترك … فخذلان تركيا وخذلان أوروبا وخذلان السعودية وخذلان حتى اسرائيل هي سياسة أوباما الجديدة التي أطاحت بكل صداقات أمريكا وحولت خطوطها الحمراء لمياه شفافة سرعان ما تجف ولا يبق لها أثر … هل يتوقع الكرد من أوباما أن يفعل ما فعله بوش في شمال العراق؟ … أعتقد أن الحلم الكردي المقتول هو أيضا قد تضرر كثيرا من الانسحاب الروسي الذي تركهم وحيدين في مواجهة تركيا التي ستتفرغ لقتالهم ، وعندما يتعمق الجرح أكثر وأكثر تصبح تركيا أيضا عرضة للانقسام … في زمن تنشغل فيه السعودية بقتال ايران بينما العالم يتفرج ويبيع السلاح …

الخاسر الأكبر من الانسحاب الروسي هو بشار الأسد شخصيا الذي توهم أنه شيء مرغوب به، ونادر واستثنائي يريد الكثيرون الاحتفاظ به ، ولم ينتبه لقذارته التي تزكم الأنوف … والمرشح الثاني للخسارة هو حزب الله إذا تكاملت الجهود الاسلامية لشن حرب عليه بعد تصنيفه كمنظمة ارهابية اسوة بداعش … والرابح الأكبر هو الجماعات الاسلامية المتشددة في الشمال السوري التي ستتجه لإعلان إمارتها لتكرس انفصال الشمال عن الجنوب الذي سيخضع للتنافس الإيراني السعودي، في حين تتشكل دولة كردية ودولة علوية ودولة صحراوية تنتظر أن تنضم لدويلة السنة في العراق … وبذلك يمكن اعتبار الانسحاب الروسي، مع الانسحاب الأمريكي المعلن ، هو اشارة البدء في مشروع تقسيم سوريا، بل ايعاز للبدء في حرب اقليمية واسعة حيث تركت القوى المتصارعة بحالة اشتباك صميمي مغطى بهدنة سطحية هشة لن تدوم … من دون توافق اقليمي حقيقي على حل سياسي .

الانسحاب الروسي حصل بعد فقدان الأمل في الابقاء على نظام الأسد، فأصبح القرار الدولي الذي ينص على وحدة سوريا من دون سند مادي عسكري قادر على فرض تنفيذه، لذلك سيعود ديمستورا لمجلس الأمن ، لكي يعاد النظر هناك بوضع سوريا كدولة، وينظر اليها كما نظر ليوغوسلافيا السابقة . بينما تغوص المنطقة كلها في حروب طائفية وقومية لا يخرج منها الا كل عاقل وحكيم …

فلكي لا يكون هذا هو المستقبل القريب ، على دول المنطقة أن تجلس معا وتعيد ترتيب أوراقها، ويكف النظام الايراني وزعرانه عن اشعال الحرائق وارتكاب المجازر … وتعاد الحقوق لأهلها فاتباع الحق هو المخرج من التهلكة ، والطغيان هو بوابتها …

في النتيجة نقول باي باي روسيا … باي باي سوريا أيضا، باي باي المنطقة كلها … التي تشبه البركان .

إن أكثر ما يقلق اسرائيل هو أنها لا تستطيع الانسحاب هي أيضا بعد انسحاب أمريكا وانسحاب روسيا …. قلت لهم في زيارتي الأخيرة وأمام مؤتمر رؤساء الجمعيات اليهودية : من يقول أنه له حق تاريخي في هذه الأرض عليه أن يتحمل تبعات ذلك … وأن يتذكر أنه عليه أيضا واجبات تجاه شركائه التاريخيين فيها ، فكل حق يستوجب واجبات… تلك هي الحياة ، والمثل عندنا يقول إذا جارك بخير أنت بخير … أو الجار قبل الدار … فماذا أنتم فاعلون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.