الوحي والتنزيل ، الكتب والرسل

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

هل التنزيل هو انتقال مكاني يتم من الأعلى / السماء التي فيها العرش، إلى الأسفل/ الأرض التي يعيش عليها البشر ؟ وهل التواصل بين الآلهة والبشر يعبر المكان المشهود؟ أم هو تواصل بين العالم الآخر المحتجب وبين عالم الشهادة، والتنزيل نقل عبر سويات الخلق و طبقاته السبع وصولا للسماء الدنيا التي فيها النجوم والكواكب ، ونقل للمدلول من شكل حامل في عالم الغيب لشكل حامل آخر مشهود… وكذلك هل الصلاة التي هي دعاء وصلة بالخالق تتم عبر الكلام الملفوظ المسموع ، أم يتم  في داخل النفس … هل مفاهيم التنزيل والمعراج تعبر عن آلية تبادل وصلة بين عالم النفس ( القلب ) وبين عالم الغيب ، عبر ملاك ( كتاب/ نظام ) هو الوحي …

هل نعتبر الله كائن في الوجود أم هو محيط جامع موجود في كل شيء ، بل هو كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء ، وأننا نعيش في عالم الشهادة المتداخل ضمن عالم الغيب الأوسع والأبقى الذي تنتمي له الأنفس، وأن كلمات الله غير كلمات البشر ، وليس له فم كفم البشر ولا يتنفس الهواء ولا يستخدم اللغة العربية القرشية ، ونعتبر كل  ذلك مفارق للتنزيه  ولا يقبل إلا مجازا كتشبيه ، يقصد منه تجنب التجريد التام الغير قابل للإدراك .

إذا كان جبريل ملك من الملائكة فهذا يعني أنه نظام من أنظمة الكون، يتم عبره التواصل بين الخالق والمخلوق (ويشمل آليات التنزيل والإلهام والمعراج والدعاء ) ، بين عالم الغيب و دواخل الأنفس ، وليس عبر المكان الظاهر المعروف ، فقلب المؤمن هو عرش الرحمن ، ولا صلاة بلا معراج. فالتدين علاقة تواصل بين النفس وبين عالم الغيب المحتجب الذي هو عالم الخلود، ونظام الوحي هذا موجود دوما ومتاح للجميع ، وليس حكرا على الرسل والأنبياء، أما درجاته فتتعلق بدرجة التعبد والاستجابة … يبدأ الوحي بإلهام الحيوان والإنسان، وتقليب الأفئدة ، وينتهي بتحميل الرسالات السماوية التي تحولت لكتب مقدسة :

{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }

أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}

{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}

وعليه يصبح القرآن الذي تنزل على محمد ، هو ما نطق به الرسول باسم الله وبأمر منه ، تبعا لما أوحي اليه من جبريل ، فهو لم يقرأ من كتاب مسطور بلغة البشر ، بل من أفكار موحاة إليه في لحظة اتصال، بعد أن تم تفويضه بالقراءة باسم الله ، وهذا هو اصل اسم القرآن وهو المعنى الحرفي للسورة الأولى فيه ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فكلمات الله هي مخلوقاته ، والله إذا نطق خلق ، بينما أنت ستقرأ للبشر كلمات بشرية يفهونها باسمه ، فهذا الكتاب هدى للناس ورسالة للعباد بلغة العرب…أمر محمد بقراءته لهم ، وذلك باسم الله وتوكيلا منه ، وبما يتطابق مع الفكر الذي حمله جبريل…

{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

منذ القديم هناك وجهتي نظر واحدة تعتبر أن القرآن هو قول الله أو كلامه شخصيا و أن الله قد كتبه حرفا حرفا ، وواحدة تعتبر ذلك من باب المجاز ، أي هو كلام الله الذي جرى تنزيله من سوية لسوية ، ونقله من شكل إلهي لشكل بشري، لأن كلمات الله بأصلها هي مخلوقات وليست ألفاظاً صوتية بلغة عربية وقواعد بشرية … الأولى تضطر لتقدس اللغة العربية واعتبارها لغة إلهية ، وهذا يتناقض مع تاريخية اللغات وتطورها ومع مبدأ التنزيه أيضا وفقا لحجج الثانية، التي تعتبر أن مثل هذا المجاز قد استعمل أيضا في وحي موسى { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي… } ، فكل مؤمن يخاطب ربه في نفسه ، ويشعر أن الله معه ، يسمعه ويهديه . لكن الله ليس له فم ولا يتنفس الهواء ويطلق الاهتزازت الصوتية … فذلك عبارة عن تشبيه مجازي …

{ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }… فالله ليس كمثله شيء … { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } وضمير المتكلم الطاغي في القرآن هو ناطق يقع بين الله وبين محمد ، يتحدث عن الله بضمير الهو  { هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، و يخاطب محمد والبشر بأنت وهم { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}

القرآن بعد تدوينه (من ناحية الشكل ) هو مخطوط  مكتوب بلغة عربية متداولة، و (فلسفيا)  ليس كتابا بمعنى قانون أو نظام  مكون للخلق ، هو رسالة بلغة البشر وليس الآلهة ، مكون من آيات وسور ، جمعت ثم دونت ورتبت في كتاب مسطور ليس تبعا لا لتراتب النزول ولا لأسبابه ولا حتى بحسب الموضوع ، وصارت ما نعرفه بالقرآن الكريم (بالشكل العثماني، الذي جرى تنقيط حروفه وضبط حركتها فيما بعد ) ، يحتوي كلمات عربية ذات دلاله وقواعد ، ما تم تنزيله من سوية لسوية هو هذه الدلالات ، التي انتقلت من شكل لشكل عبر ملاك هو الوحي، ظاهر القرآن بشري منطوق بلسان عربي نطق به محمد ، ومحتواه سماوي موحى عن طريق جبريل ، نقل عبر آلية ( التنزيل ) من الغيب الذي يحتوي المعرفة  إلى نفس محمد ، وأصبح بعد أن اكتمل نزوله وتدوينه وجمعه  كتابا نقوم بقراءته وتلاوته وتجويده وترتيله … … لكننا نذكر في كل مرة قبل البدء بتلاوة آياته أنها باسم الله وبتوكيل منه للنبي ص . فهي لم تعرض على الرسول ككتاب ونص ليقوم بقراءته مثلما نفعل نحن، لأنه قد استهجن طلب إقرأ ….عندما قال ما أنا بقارئ ؟ ..

الذي بين أيدينا هو كتاب دونت فيه السور والآيات التي جاءت بلغة بشرية عربية ، وبمنطق وعقل انساني، فيه بعض الكلمات المتداولة من غير لغات وبعض الرموز اللغوية الآرامية ( ألم ، آلر … آمين ) ، كما أن اسلوبه يتغير شكلا تبعا لظروف الرسول ومكان اقامته ( مكية ومدنية ) وفيه بعض التكرار ، وفيه حالات انفعال بشري الصفة ( غضب وتوعد وتهديد، وتأمل ) وفيه الصور والقصص والحكمة، وفيه المتشابه والمحكم … وفيه البلاغة والنظم الذي يشبه السجع ، وفيه المجاز والتشبيه … والاستعارة واللحن … ظاهره منطوق يفهمه البشر ويجوّدوه ، ومحتواه متصل دوما بالحق في نظام الكون المخلوق من كلمات الله ، { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}

بالفعل هذه كانت موضوعات النقاش منذ انطلاق الرسالات وستبقى على ما يبدو :

{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}  هنا الشخص المقصود قد أخذه الشكل بدلا عن المضمون ، وبنى عليه تفكيره … منطقيا يتوقع أن تكون كلمات الله غير بشرية ومفارقة لها في كل شيء ، فشتان بين الانسان وبين الإله ، حدث له هذا بشكل معاكس لماحدث مع عمر بن الخطاب يوم اسلامه … وعدم وضوح فكرة التنزيل لديه هو ما يتسبب في هذا النوع من الانكار الذي يبدوا للبعض كأنه منطقي .

إن النقاش الفلسفي حول الفارق الكبير بين العبد والرب وبين صفات أفعالهم، مثل قرأ وكتب ونطق وكلمة نزّل وأوحى ، تم حسمه بطريقة قمعية في عهد أبناء الرشيد الأمين والمأمون … لصالح منهج تقديس النص بشكله ولفظه حتى لو تعطلت عملية التفكر والقراءه التي تستنبط من القرآن حلولا لما يستجد من أمور تبعا لتطور حياة ومعارف البشر … {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ومنذ ذلك الحين ركز الفقه الاسلامي الرسمي على النقل والاتباع والتقليد فقط ، وقمعت أي نزعة فكرية أخرى تحت باب الزندقة ، باعتبار أن القرآن هو كتاب الله وخاتمة الرسالات وهو الكافي وفيه كل شيء ، والواجب حفظه وترداده وتنفيذ أوامره حرفيا وليس التفكر فيه وفي الخلق . إنه ختام الرسالات … بعد الرسول لا نبوة  ولن يكلف الله شخصا بعد محمد أن يقرأ باسمه … فقد بطل التنبؤ واكتملت العقيدة ، لكن الوحي مستمر والاتصال بين البشر وربهم قائم ليل نهار … والمعارف تتطور وأمور الدنيا تزداد تعقيدا ، كذلك أسلوب صناعة المقدس والوصول اليه قد أصبح مختلفا ويعتمد على تراكم التجارب الجمعية للمفكرين والصالحين والمجتهدين والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء … لن يتوقف العقل والتفكر ولا الوحي والإلهام ولا التجديد والتطور بعد القرآن .  فالقرآن ليس نهاية العلم والمعرفة … إنه منارتها وليس سجنها إنه منهج للعقل المبدع. كما تتطور قراءاته بتطور علوم الكلام وعلوم الدلالات ومعارفنا عنها .

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

الإفراط في التقديس والتعظيم التقليدي الرسمي الذي تحدثنا عنه رغم كونه تعبيرا عن الإيمان والطاعة، فهو ينتهي بتقديس الشكل وأسطرة الأشخاص ، و يهدد بالانحراف عن الدلالة والانحراف عن ميزان العقل { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ }…  وهذا ما نبهت اليه الحركة الوهابية التي أرادت تجريف القشور التي غطت جسد الإيمان الحقيقي الصافي الخالص المنزه عن الشكل والتزيين… هذا الافراط هو منهج عقلي ينتج عنه تقديس الرسول وأسطرة الصحابة وحتى الفقهاء وتقديس القبور والمقامات ، ويستمر كنزعة مبالغة وغلو قد تشوه الوعي وتحرف التفسير لدرجة قد ينتج عنها التكفير والترهيب  والتشدد والتزمت . خاصة عندما يصبح هذا التقديس والتبجيل منهجا عقليا شاملا يجري فرضه على الآخرين ، بشكل مخالف لجوهر الدين الذي يعتمد العقل والمنطق وسيلة للايمان ، دين يعتمد الفطرة الانسانية ومخصص لحياة الانسان العادي البسيط الذي يولد  في عالم الشهادة منتظرا عودة نفسه إلى عالم الغيب حاملة معها تجربتها ، لا يحد من حرية عقيدته ومسؤوليته ، لكي لا نتناقض مع قوله تعالى { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ،

أحيانا يصبح تقديس الشكل غطاء لتغييب المضمون … و قد يحول الدين من ايمان وقناعة ذاتية عقلية حرة لتقليد أعمى موروث كهوية … وينقل التقديس من المدلول للشكل الذي يحتويه ، ويتحول تقديسا للورق والحبر والحجارة والخشب … بينما يعتبر آخرون أنه حتى لو اعتدى جاهل على هذا الكتاب أو دنسه ، فهو لا يمكنه أن يطال المضمون المحفوظ الذي هو مطهر وغير قابل للدنس ، فالمضمون لا يدرك بالتقديس بل بالعلم والعقل والتفكر والترتيل …

{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

أما من يعبد الشكل ويتغنى بالألفاظ ويعتمد الأحاسيس والعاطفة من دون تدبر عقلي للمعنى، فهو أيضا لم يفهم عمق الرسالة بعد، رغم تقديسه للكتاب المخطوط وتجويده له ليل نهار … بل ربما ما يزال يحمل في اسلوبه درجة من الوثنية تتجلى بعبادة الرمز المادي كمقدس بحد ذاته ، فالله له كل الأسماء الحسنى والمعاني والدلالات التي عرف بها لكنه ليس له صنم مادي معبود ، بما في ذلك كتابه ورسله و حجارة قبور أوليائه … فقيمتها الرمزية والتاريخية لا يمكن أن تضيفها للمقدس ولا أن تستبدله بها .

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

يتبع …. الرب، الإله، الإنسان،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.