الرب والإله والإنسان : ( التوحيد )

د. كمال اللبواني 

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

ها قد وصلنا في المقال الرابع للركن الأول من أركان العقيده وهو الإيمان بالله … لنؤسس لمنهج عقلي مختلف في فهم العقيدة متناسب مع تطور العقل والمعارف … تعمدت نشر هذه المقالات في هذا الزمن الصعب  لأرد فيها على مخطوط منتشر على النت ومتداول سرا  (عنوانه محنتي مع القرآن ) مؤلفه المذكور ؟(هو عباس عبد النور !! ) ، الذي يعبر عن وجود نقص كبير في معرفة مدلول أركان العقيدة  بدءا بالملائكة والقضاء والقدر ومرورا بالوحي والنبوة وصولا لله الذي نؤمن به ونشهد بوحدانيته … والذي يكشف أن الخطاب التقليدي المدرسي الذي تخرّج منه المؤلف أصبح غير قادر على التنافس في هذا العصر ويحتاج لتجديد عقلي جدي.

لقد تطور مفهوم  الرب الأب  السيد the LORD , خلال عملية ادراك النظام (الوجود  الصارم القوي الثابت الحاكم  للوجود )،  فهو سيد القضاء ،  وتطور مفهوم الاله  the GOD الابن , خلال ادراك التدخل الفاعل الإرادي الخلاق المتفاعل فهو  الإبن القدير المطيع للأب القاضي ، ومع ذلك القادر  على العمل والإبداع والتغيير ضمن الثابت، وتحقيق الغايات الحرة بواسطة التحكم  بالحركة ( الزمكان ) ، لذلك فهو مثيل ابن الإنسان الذي يعقل ويقدر ويعمل ، والذي نبحث عن وسائل كسب رضاه والاستعانة بقدراته ، الإله يحمل اضافة لصفاته التي تشبه ما عند البشر من عقل وادراك وقدره على العمل والفعل ، يحمل أيضا غايات وأخلاق ورغبات إنسانية اجتماعية أخلاقية متشاركة معها عبر عنها من خلال أنبيائه ورسالاته (حيث جرى المزج بين الاجتماعي البشري المقدس مع الإلهي القدير, حيث المجتمع هو الكائن الجامع للفرد البشري و هو الأرقى في المخلوقات بل المتميز فيها .. ) .

لقد  دخل الاجتماعي  في حالة وحدة وتشارك مع  الغايات الإلهية , التي يريدها القدير الإله الابن الشبيه بالإنسان القريب المتفاعل معه , وهكذا نشأت العلاقة التشاركية بين  الإلهي والاجتماعي وبين الابن الإله والإنسان الذي نفخ فيه من روح الله واستخلف بالأرض وسجدت له الملائكة .. إن كان هذا الإله في شكله المجتجب كالخضر التموز أو حتى بصورة انسان اعتبر وليه أو صورته: السيدة العذراء أو ابنها المسيح بن مريم ، أو حتى الحسين …

مفهوم الرب ناتج تطور وعي الإنسان للنظام والقانون الحاكم للطبيعة والوجود المادي المشهود , وصولاً  إلى مفهوم الرب الواحد الحاكم الأوحد لنظام الكون الثابت : القضاء . و مفهوم الاله الحاكم الفاعل  المغير الخلاق القيمي الذي يتمثل قيم البشر ، هو أيضاً ناتج تطور وعي الإنسان للظاهرة الاجتماعية ، المتكونة حول القيم التي تؤسس لوجودها ، أي بشكل رئيسي وعي الظاهرة الدينية فيها ، مندمجة مع وعي القدر الفاعل ،  أما التدين فهو تلمس وجود النظام في الكون ، والحكمة والغاية وراء الأحداث, واستشعار إمكانية التواصل مع الآلهة الحاكمة للكون ، وإقامة علاقة بين الضمير الفردي الإنساني وبين هذه الآلهة , وبين العقل وبين الأرباب , بحيث يتكون العقل كصورة عن نظام الكون ، والضمير كصورة عن ارادة القدير في هذا الكون والمنسجمة مع القيم والأخلاق المجتمعية ..

و بسبب وحدة الكون واتساق نظامه المتعدد السويات ، يصبح منطقيا توحيد الأرباب المتعددة في رب واحد.. والآلهة في إله واحد , ثم توحيد مفهومي الرب والإله في مفهوم واحد جامع , يشكل وجوداً مثالياً وذاتاً وروحاً فاعلة خالقة وحاكمة هي أصل الوجود … , مع ذلك فإن هذا المفهوم لن يشمل كل الوجود , بل يغطي عالم الكلمة والنظام والعقل (العالم  المثالي) ، ويبقى إلى جواره عالم الوجود المادي الطاقة الحركة القوة ، فالوجود الذي يتركب عقلنا بناء على معرفته , يرينا الكلمة والطاقة مندمجتين وجودياً ومعاً ومن دون تناقض ، ويعلمنا كيف نفعل ونحول الفكرة إلى واقع وتجسيدها .. ويرينا أن الوجود الفيزيائي لا يصبح محسوساً من دون احتوائه على الوجود الميتافيزيائي، ومن دون قوة الفعل الذي يجسد الكلمة في عالم الطاقة والحركة. فعالم الطاقة من دون الكلمة  خلاء /عدم  عماء ، وجود غير مميز ولا ملموس .. لهذا نصل إلى مفهوم موحد أشمل ، يغطي كل الوجود بكل أشكاله موحدا كاملاً مفرداً  هو الله :

(الرب الاله / الكلمة الروح ) + ( الطاقة الحركة الزمكان   ) + (  القوة الفاعلة الواعية ) =  الله  ( الكل الواحد الحي الدائم  رب العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة ) ..

 أو بطريقة أخرى  حسب الثيولوجيا المسيحية : ابن + آب + روح قدس = الله   .

الوجود الطاقي الزمكاني المشهود المتجسد بالكلمة أو الخالي منها ( الخلاء الذي هو حركة عشواء غير منظمة زمان ومكان وطاقة فقط ) + النظام غير الملموس الحاكم له  ( رب) + روح القدس ( الكلمة ) +( الإله الفاعل ) = (كل الوجود ) = الله

كلهم جميعاً موحدين  معاً   هم الكل ..  وبذات الوقت الواحد ..  فالكل المطلق دوماً واحد  , بينما المتعدد ليس كلّاً مطلقا , بل هو كل لنوع معين أي لجزء وبالتالي هو (كل الجزء) ، وليس (كل الأجزاء)لنظام مة زمان ومكان فقط  ) = هوته وتجسدهسجدت له الملائكة ؤلفه المذكور هو عباس  أيضا  ..  الكل الواحد الله ليس شيئا ، بل كل شيء من فيضه وأجزائه , منه كل شيء وإليه كل شيء وهو كل شيء … لا يدرك من الجزء إلا تصوراً من خلال مقارنة أجزائه ، لأنه هو  الأول والآخر والظاهر والباطن , وهو بكل شيء عليم … هو الله جل جلاله ..الذي لا نرى شيئاً إلا ورأيناه فيه ، ورأيناه قبله , ورأيناه بعده . فالوجود بكله هو الله ، ولا ضرورة لافتراض وجود العدم قبله ، لأنه لا يمكن تصور هذا العدم المطلق ولا يعقل أن نشترطه سابقا للوجود ، بل إن هذا الوجود الحي الدائم هو الأصل المطلق ، أما العدم فهو نسبي وهو عدم الجزء فيه ، لذلك هذا الكل الواحد الحي ليس بمخلوق، متحرك أول بذاته ولذاته هو مبدأ الوجود كما افترض أرسطو .

وهو الواحد  الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .. هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض ،  يحيط بكل شيء ,  ولا يحتويه مكان ولا يسبقه زمان ..  وهو ليس شيئاً في الوجود ولا يتقاسم الوجود مع أي شيء ، ولا يوجد ما قبله أو ما بعده أو ما يحيط به أو ما يحده ، وكل شيء منه وإليه وفيه وتحت أمره … وهو الوجود وما قبله وما أحاط به وما بعده ، وكل شيء موجود فيه هو , وكل جزء أو مؤقت فان فيه ومولود منه … ولا يبقى  سوى وجهه الكلي  الواحد المطلق السرمدي سبحانه ..  حيث يغيب كل شيء سواه وعداه ..  فكل شيء هالك إلا وجهه …

{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } (سورة طه 111)

الله ليس الوعي الذي يوظف الطاقة ويتحكم بالزمن ( القدر ) ..  هذا مفهوم الإله فقط ، الله  ليس النظام الأصيل الثابت في الوجود (  القضاء ) أو  الطاقة الخالدة التي لا تنضب .. إنه مفهوم  الرب فقط ..  الله هو  الكل الواحد الذي يجمع الذكاء والنظام والطاقة والزمكان , وهو المتحرك الفاعل العاقل الخلاق المبدع ..  ولأنه كل شيء ، هو لا يشبه أي جزء منه ، ويعجز  الجميع عن تصوره .. فكل تصور أو ادراك لا بد أن يقوم على التصنيف والمقارنة , لذلك معرفة الله بالنسبة لنا هي دوماً استنتاج عقلي تحليلي تركيبي تشبيهي , تقريبي تجميعي ذهني مجرد ,  أو حدسي حسي مبهم، يقوم عقلنا بتقسيم ضدي للوجود بين خالق سرمدي ومخلوقات تحيى وتموت، لكنها لا تشكل ندا للخالق بل هي كلماته. فوجودنا يشبه وجود الأفكار في الذهن … كما هي معرفتنا بالآلهة ، واقعنا افتراضي بالنسبة للخالق ، والافتراضي بالنسبة لنا هو الواقع الحقيقي المحتجب .

كل وجود وأي وجود هو داخل هذا الحق الخالق منه واليه، كل الصفات له  ولا صفة تحدده ،..  وإذا استخدمنا مفاهيمنا نحن  عن  الزمان  والمكان ، والداخل والخارج . والقبل والبعد، والعدم والوجود، فإن هذه المفاهيم محدودة ونسبية ولا تصلح ولا تعمل في عالم المطلق وفيما هو خارج عن حدود ذاتيتها النسبية …  التي تحددها هذه المفاهيم لذاتها ، كمفاهيم خاصة بعالم الشهادة…

هنا تظهر محدودية العقل وموته في ضباب معرفة المطلق ، وعجزه عن رؤية الله الذي إذا تجلى لأي شيء جعله دكاً , مدمراً في تجليه كل قدرة على مشاهدته من هذا العالم الذي نعيش ، مما يستوجب تقلّص و تلاشي مصطلحات ومفاهيم العقل بالضرورة كلما اقتربنا أكثر من الكل الواحد .. الذي ينفي وحدانيته في الجزئي والمتعدد، بما يحتويه من تنوع وتعارض وتناقض وتغير وشر وخطيئة  .. لأنه بتناقضه وتنازعه الذي يخالف هوية الواحد الحي الأزل، لكن بذات الوقت يوحي بوجوده ضمن هذا المتعدد وخلفه وتحكمه فيه من خلال  وحدة المتناقضات وانسجام الوجود رغم تنوعه وتغيره وانتصار الحق رغم كل الشر الموجود ،  ثم  يستعيد هذا الواحد ذاته المطلقة بنفي كل ذات جزئية ، الذي يتم بانسجامها وطاعتها ( تسبيحها ) أو باستعادتها وسحب كلماتها و ضمها للواحد المطلق الكل ( أي بوفاتها ) .

{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } (سورة فصلت 11 – 12)

قد يصعب ادراك الواحد الكلي من الوجود الجزئي ، لكن عندما يهلك كل شيء تظهر وحدانيته المطلقة

{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

  • { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.}
  • { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) }
  • { اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
  • { هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }.

المقالات السابقة  التي تحدثت عن أركان الايمان في الاسلام  :

الوحي والتنزيل.. الكتب والرسل

الضرورة والصدفة..القضاء والقدر

الإيمان بالملائكة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.