أركان الايمان … قراءة ابيستمولوجية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

هنا سنحاول أن نؤسس لقراءة مختلفة للعقيدة متناسب مع تطور العقل والمعارف … وقد  تعمدت نشر هذه الدراسة في هذا الزمن الصعب  لأرد فيها على مخطوط منتشر على النت ومتداول سرا  (عنوانه محنتي مع القرآن ) مؤلفه المذكور ؟(هو عباس عبد النور !! ) ، الذي يعبر عن وجود نقص كبير في معرفة مدلول أركان العقيدة  بدءا بالملائكة والقضاء والقدر ومرورا بالوحي والنبوة وصولا لله الذي نؤمن به ونشهد بوحدانيته … و يكشف أن الخطاب التقليدي المدرسي الذي تخرّج منه المؤلف أصبح غير قادر على التنافس في هذا العصر ويحتاج لتجديد عقلي جدي.

الإيمان بالملائكة

كما يندر أن تجد جواباً مقنعاً على سؤالٍ بسيط  قد يسأله أي طفل : ما هي الملائكة؟  وإذا وجدت، سمعت كلاما عاما منقولا لا يطابق أي شيء مما تعرفه وتشعر به ويمكنك عقله، وبالتالي يتم بناء أحد أركان الإيمان على التصديق وليس اليقين، لأن اليقين يحتاج للّمس العقلي غير المباشر أو الحسي المباشر والأفضل كلاهما معا … الايمان بالملائكة هو البند الثاني من أركان الإيمان الاسلامي التي تختصر: ( بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله ،وباليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره). فما هي هذه الملائكة ؟…  وهل الإيمان بها أو ببقية أركان العقيدة يستند للتفكر والبحث عملا بقوله تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أم يستند للتصديق والاتباع فقط ! { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }

نقرأ في الويكيبيديا/ الموسوعة الحرة : ( المقصود من الإيمان بالملائكة هو الاعتقاد الجازم بأن الله خلق الملائكة من نور وهم موجودون، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله القيام بها.قال تعالى: في سورة البقرة:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ… })

أي بحسب موسوعة المعارف هو الإيمان بوجود فاعلين من طبيعه نورانية غير مادية ، قادرين منضبطين مطيعين لا يختارون بل ينفذون، يديمون عرش الرحمن الذي ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .

لذلك باختصار ومن دون أن ندخل في جدل بيزنطي عن جنس الملائكة (في زمن الحرب الأهلية والمذهبية الطاحنة). وبسبب تطور معارف اليوم نرى أن الحديث يتم عن القوانين الناظمة للوجود … فكلمة قانون العلمية الحديثة تطابق في مدلولها المعرفي كلمة ملاك الدينية. فالقانون هو نظام قوي دائم مضمر في الوجود من طبيعة غير (ماديه/ طاقة) لكنه موجود نلمسه ونعقله، وهو كائن افتراضي لا يملك حرية الاختيار كما تملك النفس التي هي أيضا من طبيعة غير مادية، فالنظام جزء لا يتجزأ من الوجود الذي لا يمكن أن يكون عبثا أو فوضى أو من طبيعة مادية فقط ، بل إن النظام  هو سبب الانتقال من حالة (العماء / الخلاء ) لحالة الوجود، الذي يتم بكميات ونوعيات محددة ( نظرية الكموم الطاقية المكونة نوعيا للمادة) .

فالإيمان بالملائكة يعني الإيمان بوجود النظام السابق والحافظ للوجود، النظام والكلمة كشيء  افتراضي/ غير مادي يسبق الشيء المادي وجودا ويحدد هويته ويديمه، أي هو اعتماد ديني للنظرية الفلسفية المثالية، مع العلم أن الفلسفة ليست المعرفة بالواقع ( التي هي مجال اختصاص العلوم ) بل هي معرفة هذه المعرفة : نظاما ومنطقا وتوظيفا … أما الدين فهو منظومة استنتاجات فلسفية متكاملة عن الوجود وعلاقتنا به . أي أن الدين تعريفا هو منظومة (معرفية – فلسفية – قيمية ) غير منقطعة عن سياق المعرفة والتفكر العقلي ، وعن الواقع بجانبيه الملموس والمحتجب / عالم الشهادة وعالم الغيب .

فإذا كان هذا الكون قد خلق بكلمات / نظام ثابت محكم سبقه وجودا وأدامه ما أدام الخالق هذا النظام ( نقصد هنا الإيمان بالملائكة الشداد  {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}) ، فهناك أيضا في هذا النظام عنصر الحركة والتغير والتبدل الذي يخضع أيضا لمشيئة  وكلمات وغايات منظمة مبدعة تختار وتغير وتتفاعل … لها أيضا ملائكتها التي تتحكم بحركة الأحداث والتغيّرات، فلا تغير نظام الكون الثابت بل تتحرك ضمن خياراته وتحول الأحداث فيه من مجرد صدفة  عبثية لاختيار حر وعمل مقصود  له نظامه أو غاياته ( الملائكة المقربة مثل ميكائيل وعزرائيل وجبرائيل ، وكذلك ابليس …  كنظم وقوانين للرزق والموت والمرض والوحي والشر …. {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } )

فذلك يقسّم وعي الوجود لمفهومين تحليليين أساسيين هما مفهوم عن الثابت في ناموس الكون ، ومفهوم عن المتحرك والمتغير فيه ، واحد سمي بالقضاء وآخر عرف بالقدر ( بالفلسفة يسمونهما الضرورة والصدفة ) … كما أن معرفة الخالق هي أيضا منقسمة فلسفيا كما قال أبو الأعلى المودودي بذات الطريقة : معرفة الله كرب خالق سيد حاكم ، وإله قريب مجيب مبدع ومتفاعل ، وهكذا …

لا يمكن بناء إيمان حقيقي (ليس مجرد تصديق)  من دون ربط وثيق بينه وبين العقل والفلسفة، وبينهما وبين أساسهما أقصد المعارف والعلوم … فننفتح بوعينا بعد الاطلاع على التطور العلمي والمعرفي والفلسفي الهائل على وعي جديد وتفكير جديد في معاني كلمات مثل جبريل وابليس وعزائيل والكتاب والقرآن والوحي والتنزيل والقضاء والقدر و و … وكلها عناصر أساسية في الإيمان الديني السماوي عامة والاسلامي خاصة، لا يصلح ولا يكتمل من دونها. وهكذا ومع تطور العقول تتطور مدلولات النص المنزل من دون تغيير في حرفه ، وهو ما يجعله متكيفا مع تغير الأزمنة والعقول وهذا سره …

يتم عادة في مدارس الشريعة المرور بطريقة متسرعة فوق أركان الإيمان، والاعتماد فقط على النقل وحده والتركيز تعويضا على أركان الاسلام والشريعة من دون التفكير بالعقيدة ، وباعتماد التصديق المباشر المطلق بدل التفكر النقدي تجنبا لتهمة التكفير الجاهزة للانطلاق … مما يمهد لشيوع تدين شكلي من دون وجود يقين وضمير حقيقي ذاتي وازع هو أساس السلطة الدينية وامتحان الأنفس، ويؤسس لافتراق بين النظم المعرفية العلمية والفلسفية العقلية الحديثة، والنظم الايمانية التقليدية الموروثة ، والتي تصبح في مواجهة مع العقل والعلم والحداثة، ويؤسس لقصور فهم عام يشمل ما بعد أركان الإيمان أقصد  أركان الاسلام  و أحكام الشريعة و و…. وغيرها من تطبيقات هذا الإيمان التي عليها أن تتقيد به وتبنى عليه أولا وأساسا …     { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }

الضرورة والصدفة / القضاء والقدر

القضاء والقدر مفهومان مترابطان، لكنهما منفصلان غير مترادفين بالشكل الذي  يشيع استخدامه في الفقه الديني … وهما يُوصّفان الأفعال الإلهية التي تحكم كل حدث ، بما فيها أفعال الانسان الحر في مشيئته، فساحة الفعل هي ساحة اجبار ، وكل فعل مقهور لمشيئة فاعل وحيد هو الخالق المتحكم { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. }.. أما ساحة الحرية الوحيدة المتوفرة فهي ساحة النفس واختيارها ، وما يصدق تلك النية من سعي وعمل . والخالق قد أعطى العقل والحرية للانسان واستخلفه في الأرض وسيحاسبه لكنه أبقاه عبدا له ، ولو الغى ارادته الحرة لظلمه وكان مسؤولا عن كل خطايا البشر ، ولو ترك أفعاله حرة لأشركه في ملكوته … وبين هذا وذاك يقع فهمنا الفلسفي للقضاء والقدر وآلية اشتغالهما.

{اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}

فالنظر للأفعال التي ليس الانسان مسؤولا عنها على أنها قضاء وقدر، هو تبسيط بل تشويه ينم عن خلط وتناقض فلسفي بل فيه درجة من الشرك … لأن كل الأفعال والأحداث تقع ضمن القضاء وتحدث بالقدر، كائنا من كان الفاعل من المخلوقات فهو عبد في فعله ، أفعاله خاضعة للمشيئة شاء ذلك العبد أم أبى، { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } فلا يحدث أي فعل خارج ناموس الكون ، الذي ارتضاه الله ، حتى الله سبحانه ليس عابثا بما خلق ، ولا يجوز  البحث عن اثبات وجوده باثبات قدرته على العبث بالقضاء ( الخوارق ) ، { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } ، بل يجب أن يتم ذلك ، عبر اثبات قيامه بتوجيه القدر، فأي قضاء لا يحدث من دون فاعل يتحكم بالحركة وينظمها ، فالحركة صفة أصيلة من صفات الوجود، لكنها من دون نظام ستجعل منه فوضى وعماء ، فكل وجود وكل حدث فيه هو حالة من النظام يقوم بها خالق يعرف ما يريد ، من خلال تحكمه بالمحرك المحدث المتراكب خلقا بعد خلق:

عادة تُعتمد النتيجة العلمية الحديثة كحقيقة عندما تكون قابلة للتجريب والتحقق صنعيا ومخبريا ، لذلك فكل نظام ثابت أساسي في هذا الكون يمكن اكتشافه وتجريبه وتدوينه في كتب العلوم، أي عقله والاحاطة بشروطه وطريقة تنفيذه بواسطة العمل، وبالتالي تكون ساحة اشتغال العقل العلمي هي فقط ساحة الثابت من النظم ( الضرورة / القضاء ) ، لذلك لا تستطيع العلوم بمنطقها التجريبي هذا دخول عالم المتغير أو المبدع ، ولا ادراك الفاعل الحر لأنه غير قابل للتجريب ، بل إن معرفته تخضع لوسائل معرفية حدسية  وعرفانية قلبية،  وهذا ما لا يقع في باب (العلم المادي الحديث )… وهكذا انقسم تفسير حدوث كل حدث من الأحداث فلسفيا لقسمين : واحد هو خضوعه للقوانين المعروفة تجريبيا ويسمونها الضرورة ، وقسم آخر يتعلق بتحريك العوامل المكونة لفعل حدوثه ، والتي لا يمكن عقلها وفقا لنمط العقل التجريبي العلمي لذلك تسمى صدفة … فالصدفة بغياب الفاعل المعروف هي من تتحكم بحركية العناصر التي يجب أن تجتمع في ذات المكان والزمان لتحدث الواقعة . والكون المبني على النظام ( القضاء / الضرورة ) ، يُغَيّب عنه هذا النظام فجأة عندما نصل للفاعل المحرك / القدر ، وهكذا وبتغييب الفاعل المحتجب ( الإله القدير ) يصبح الكون مجرد عبث وصدف مادية، ليس فيه من العقلانية والغائية سوى العمل الانساني، بينما الإيمان بالإله يجعل الوجود بأحداثه عملية خلق مستمر بفعل فاعل وتقدير حكيم.

لذلك نرى أنه من القصور فلسفيا حصر مفهوم العقل بالعقل العلمي، ( الفلسفة المادية) … فقد نجح الفلاسفة المثاليون في دراسة حالات التغير والفوضى كما يسميها العقل العلمي وبدؤوا باستنتاج نظم خاصة تحكمها … قوانين تخص المتغير والمتطور ( قوانين الديالكتيك ) …. وكان الدين قد سبقهم لشرح آلية وطريقة معرفة الله الخالق المبدع ذاته من خلال استعماله لمفهوم القدر الذي يختلف عن مفهوم القضاء .. فإذا كان القضاء هو تحقق القوانين الراسخة وخضوع الأحداث لها … فإن القدر هو المحرك الذي يتحكم بحركة العناصر والعوامل لجعل هذا القانون وليس غيره يتحقق وفي هذا المكان والزمان ، فالتحكم بالحركة وبالزمن يلعب دورا أساسيا في حدوث الحدث الذي لا تشكل الضرورة إلا مجرد خياراته … {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ . وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

القانون العلمي عادة شيء مجرد ، هو صورة تحليلية متجردة عن الفعل والفاعل ، هو ليس الواقع بحركيته بل هو مشتق هذا الواقع بعد حذف الزمن والحركة والمحرك الفاعل منه فيقول العلم مثلا: ( يتفاعل الحمض مع المعادن ويشكل الملح ويطلق غاز الهيدروجين ) لكن متى وبأي كمية سيجتمع الحمض ومع أي معدن ليتحقق الحدث، من سيقوم بهذا العمل ، القضاء لوحده غير كاف لتفسير وقوع حدث بعينه بزمان ومكان ، من دون فاعل وقدر محرك ، وهذا القدر لا يغير القضاء بل يختار منه وفيه … وهذا ليس خاضعا للصدفة العمياء كما يفترض الماديون الذين يعتبرون المادة هي أصل الوجود والوعي نتيجة وصفة ملحقة بها نشأت مع الانسان الواعي المسحور بذاته … بل خاضع للقدر  كفاعل قادر له مشيئة حاكمة له غايات متفاعله مع النفس الانسانية المتصلة بها ، وهذا يقع ضمن باب العلم الإيماني الروحي الذي تميز بشكل كبير ومنفصل عند الصوفية، فالتدرب على الاحساس بالقدير ولمس أفعاله واستنتاج غاياته ثم التواصل معه والعيش في حضرته، هي تجربة عرفانية خاصة تحتاج للتمرين والتعلم والتجربة …

{قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

كل شيء يحدث هو قضاء وقدر {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، والإنسان مستخلف كذات حرة عاقلة فاعلة ، يعقل القضاء ويقدر لنفسه بعمله ، لكن امكانياته محدودة جدا ، لذلك كل افعاله مقهورة بمشيئة الخالق { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }، من دون أن يتدخل سبحانه في قهر ارادة النفس التي تبقى مسؤولة عن خياراتها … فالحرية المعطاة تكريما كامتحان وتجربة ، لا تعني ترك الكون للعابثين والخطائين، لكن هذه الدار الفانية هي ذاتها تقوم على نظم فيها الخير والشر ، السلم والحرب إنها دار خسر وألم وصراع … وليست دار قرار … {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

بقي في هذا الخصوص أن نعرج على كلمة كتاب ومكتوب … الشائع أن يقال عن الرزق والعمر وغيره بأنه مكتوب أي (محدد سلفا بكم ووقت ) … وهذه أيضا من المفاهيم الشائعة المتناقضة مع جوهر العقيدة فلسفيا … فالقدر مبدع وله غايات ومتفاعل محكوم بمشيئة حره تتحكم بالزمن ولا تخضع له ،{ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}… فالله خارج الزمان والمكان الذين نشعر بانفصالهما ، وهما متحدان بعنصر واحد هو الحركة الدائمة ( النظرية النسبية، وحدة الزمكان، اينشتاين ) والكلمة هي النظام ، والكتاب هو مجموعة الكلمات والمكتوب هو النظام المكون ومنه قوانين الحياة والرزق .

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فعندما يقوم القدر بتجميع أسباب الموت يحدث الموت ، لكن ككل قضاء يحتاج لفاعل قدير ، وعليه فقرار الموت كأي حدث هو قرار القدير الحر ، طالما أن كل ما يحدث هو قدر محكوم بالقضاء يختار منه ويتحرك فيه … فيمد القدير بأسباب الحياة أو يبعد أسباب الموت حتى يستكمل مشيئته الغالبة { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.}.. وفهمنا المألوف للعمر والرزق المكتوب فهم سطحي رغم النتيجة الواحدة وهي أنه لا شيء يحدث من دون مشيئة ، لكن أن تكون هذه المشيئة محددة سلفا وملزمة للقدير ولا أمل ولا طريقة لتغييرها، فهذا ما يولّد نوعا من السلبية تسمى القدرية ، التي تبطل العمل وتبطل السعي بالأسباب بما فيها الدعاء كوسيلة للتأثير على القدير والتفاعل معه، ونحن أصلا لا ندري قبل تمام الحدث إن كان سيتم أم لا، وبالتالي نتوقع أن يكون لسعينا نتيجة كالعادة، فدعاء الأم والصدقة كما هو الاعتناء بالصحة قد تكون من أسباب طول العمر إنشاء الله (أي عندما يجد استجابة عند القدير القريب المجيب)، فلا يجوز اخضاع القدير لما هو مطوي في يمينه من مكان وزمان وأسباب وليس مضطرا لإلزام ذاته مسبقا وليس محكوما بالصبر والانتظار كما هو الانسان المحكوم بالزمن …

كلمة الله نظام للخلق ، تختلف عن كلمة الانسان التي هي صوت يرمز لاسم ذو دلاله ، ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والمسيح كلمة من الله … { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }  … الله إذا نطق خلق ، والكتابة هي تدوين لهذه الكلمات في عالم الوجود المشهود ( الطاقة والزمكان ) فهي خلق ونظام موجد ٌ للوجود، ففعل كتب عندما يكون فاعله الله هو بمعنى أوجد النظام كقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، وكذلك كتابة السعي { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } فهي من سنن الكون ، إنها نظم وليست كلمات أو أوامر مكتوبة نسمعها أو لا نعيرها اهتماما، إنها حقائق وجودية ، وكتاب الله المسطور هو الكون ذاته المكون من كلماته التي صارت مخلوقاته، { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } ، والتي تحفظ كلها في اللوح المحفوظ في عالم الغيب، كوجود افتراضي محتجب أما وجودها المشهود فهو في دفتر الطبيعة كمخلوقات ونظم حاكمة، مستدامة بفعل الخلق المستدام .

فلكل أجل كتاب لا تعني تحديد مسبق بالوقت بل تعني تحديد بالأسباب ، وأنه لا يحدث موت من دون سبب فعلي منطقي منصوص عنه في القضاء يمكن عقله … وأن السعي يجب أن يتجه لمنع الأسباب ، وهذا لا يلغي العقل والعمل ولا يبطله ، كما أن الإيمان بالقدر لا يبطل التوكل والدعاء ، وقدرة الله على كل شيء لا تلغي نظام الكون ولا ارادة الله في استخلاف الانسان واعطائه الحرية وتحميله المسؤولية … فالقدر حر مبدع متفاعل مع ما نقدره لأنفسنا ، وليس قضاءً وأحكام مسبقة محددة كما يُظن ( هنا المشكلة في عدم فهم الفارق بين القضاء والقدر وعدم التمييز بينهما وعدم ادراك طريقة ارتباطهما ) ، ومنه نصل للحديث المأثور عنه صلى الله عليه وسلم ( اعقل وتوكل ) اعقل القضاء واعمل بأسبابه ، وتوكل بالقدر الفاعل الذي لا سلطة لك عليه لكن تتصل به عبر قلبك الذي هو داخل نفسك التي تنتمي لعالم آخر ستستمر فيه بعد وفاتها وتتصل فيه أثناء حياتها : في صلاتها وتأملها وتفكرها والتي هي أيضا نظم مكتوبة كوسيلة تواصل وتفاعل بين المخلوق والقدر الخالق … { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

الوحي والتنزيل ، الكتب والرسل

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

هل التنزيل هو انتقال مكاني يتم من الأعلى / السماء التي فيها العرش، إلى الأسفل/ الأرض التي يعيش عليها البشر ؟ وهل التواصل بين الآلهة والبشر يعبر المكان المشهود؟ أم هو تواصل بين العالم الآخر المحتجب وبين عالم الشهادة، والتنزيل نقل عبر سويات الخلق و طبقاته السبع وصولا للسماء الدنيا التي فيها النجوم والكواكب ، ونقل للمدلول من شكل حامل في عالم الغيب لشكل حامل آخر مشهود… وكذلك هل الصلاة التي هي دعاء وصلة بالخالق تتم عبر الكلام الملفوظ المسموع ، أم يتم  في داخل النفس … هل مفاهيم التنزيل والمعراج تعبر عن آلية تبادل وصلة بين عالم النفس ( القلب ) وبين عالم الغيب ، عبر ملاك ( كتاب/ نظام ) هو الوحي …

هل نعتبر الله كائن في الوجود أم هو محيط جامع موجود في كل شيء ، بل هو كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء ، وأننا نعيش في عالم الشهادة المتداخل ضمن عالم الغيب الأوسع والأبقى الذي تنتمي له الأنفس، وأن كلمات الله غير كلمات البشر ، وليس له فم كفم البشر ولا يتنفس الهواء ولا يستخدم اللغة العربية القرشية ، ونعتبر كل  ذلك مفارق للتنزيه  ولا يقبل إلا مجازا كتشبيه ، يقصد منه تجنب التجريد التام الغير قابل للإدراك .

إذا كان جبريل ملك من الملائكة فهذا يعني أنه نظام من أنظمة الكون، يتم عبره التواصل بين الخالق والمخلوق (ويشمل آليات التنزيل والإلهام والمعراج والدعاء ) ، بين عالم الغيب و دواخل الأنفس ، وليس عبر المكان الظاهر المعروف ، فقلب المؤمن هو عرش الرحمن ، ولا صلاة بلا معراج. فالتدين علاقة تواصل بين النفس وبين عالم الغيب المحتجب الذي هو عالم الخلود، ونظام الوحي هذا موجود دوما ومتاح للجميع ، وليس حكرا على الرسل والأنبياء، أما درجاته فتتعلق بدرجة التعبد والاستجابة … يبدأ الوحي بإلهام الحيوان والإنسان، وتقليب الأفئدة ، وينتهي بتحميل الرسالات السماوية التي تحولت لكتب مقدسة :

{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }

أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}

{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}

وعليه يصبح القرآن الذي تنزل على محمد ، هو ما نطق به الرسول باسم الله وبأمر منه ، تبعا لما أوحي اليه من جبريل ، فهو لم يقرأ من كتاب مسطور بلغة البشر ، بل من أفكار موحاة إليه في لحظة اتصال، بعد أن تم تفويضه بالقراءة باسم الله ، وهذا هو اصل اسم القرآن وهو المعنى الحرفي للسورة الأولى فيه ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فكلمات الله هي مخلوقاته ، والله إذا نطق خلق ، بينما أنت ستقرأ للبشر كلمات بشرية يفهونها باسمه ، فهذا الكتاب هدى للناس ورسالة للعباد بلغة العرب…أمر محمد بقراءته لهم ، وذلك باسم الله وتوكيلا منه ، وبما يتطابق مع الفكر الذي حمله جبريل…

{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}

منذ القديم هناك وجهتي نظر واحدة تعتبر أن القرآن هو قول الله أو كلامه شخصيا و أن الله قد كتبه حرفا حرفا ، وواحدة تعتبر ذلك من باب المجاز ، أي هو كلام الله الذي جرى تنزيله من سوية لسوية ، ونقله من شكل إلهي لشكل بشري، لأن كلمات الله بأصلها هي مخلوقات وليست ألفاظاً صوتية بلغة عربية وقواعد بشرية … الأولى تضطر لتقدس اللغة العربية واعتبارها لغة إلهية ، وهذا يتناقض مع تاريخية اللغات وتطورها ومع مبدأ التنزيه أيضا وفقا لحجج الثانية، التي تعتبر أن مثل هذا المجاز قد استعمل أيضا في وحي موسى { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي… } ، فكل مؤمن يخاطب ربه في نفسه ، ويشعر أن الله معه ، يسمعه ويهديه . لكن الله ليس له فم ولا يتنفس الهواء ويطلق الاهتزازت الصوتية … فذلك عبارة عن تشبيه مجازي …

{ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }… فالله ليس كمثله شيء … { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } وضمير المتكلم الطاغي في القرآن هو ناطق يقع بين الله وبين محمد ، يتحدث عن الله بضمير الهو  { هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، و يخاطب محمد والبشر بأنت وهم { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}

القرآن بعد تدوينه (من ناحية الشكل ) هو مخطوط  مكتوب بلغة عربية متداولة، و (فلسفيا)  ليس كتابا بمعنى قانون أو نظام  مكون للخلق ، هو رسالة بلغة البشر وليس الآلهة ، مكون من آيات وسور ، جمعت ثم دونت ورتبت في كتاب مسطور ليس تبعا لا لتراتب النزول ولا لأسبابه ولا حتى بحسب الموضوع ، وصارت ما نعرفه بالقرآن الكريم (بالشكل العثماني، الذي جرى تنقيط حروفه وضبط حركتها فيما بعد ) ، يحتوي كلمات عربية ذات دلاله وقواعد ، ما تم تنزيله من سوية لسوية هو هذه الدلالات ، التي انتقلت من شكل لشكل عبر ملاك هو الوحي، ظاهر القرآن بشري منطوق بلسان عربي نطق به محمد ، ومحتواه سماوي موحى عن طريق جبريل ، نقل عبر آلية ( التنزيل ) من الغيب الذي يحتوي المعرفة  إلى نفس محمد ، وأصبح بعد أن اكتمل نزوله وتدوينه وجمعه  كتابا نقوم بقراءته وتلاوته وتجويده وترتيله … … لكننا نذكر في كل مرة قبل البدء بتلاوة آياته أنها باسم الله وبتوكيل منه للنبي ص . فهي لم تعرض على الرسول ككتاب ونص ليقوم بقراءته مثلما نفعل نحن، لأنه قد استهجن طلب إقرأ ….عندما قال ما أنا بقارئ ؟ ..

الذي بين أيدينا هو كتاب دونت فيه السور والآيات التي جاءت بلغة بشرية عربية ، وبمنطق وعقل انساني، فيه بعض الكلمات المتداولة من غير لغات وبعض الرموز اللغوية الآرامية ( ألم ، آلر … آمين ) ، كما أن اسلوبه يتغير شكلا تبعا لظروف الرسول ومكان اقامته ( مكية ومدنية ) وفيه بعض التكرار ، وفيه حالات انفعال بشري الصفة ( غضب وتوعد وتهديد، وتأمل ) وفيه الصور والقصص والحكمة، وفيه المتشابه والمحكم … وفيه البلاغة والنظم الذي يشبه السجع ، وفيه المجاز والتشبيه … والاستعارة واللحن … ظاهره منطوق يفهمه البشر ويجوّدوه ، ومحتواه متصل دوما بالحق في نظام الكون المخلوق من كلمات الله ، { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}

بالفعل هذه كانت موضوعات النقاش منذ انطلاق الرسالات وستبقى على ما يبدو :

{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}  هنا الشخص المقصود قد أخذه الشكل بدلا عن المضمون ، وبنى عليه تفكيره … منطقيا يتوقع أن تكون كلمات الله غير بشرية ومفارقة لها في كل شيء ، فشتان بين الانسان وبين الإله ، حدث له هذا بشكل معاكس لماحدث مع عمر بن الخطاب يوم اسلامه … وعدم وضوح فكرة التنزيل لديه هو ما يتسبب في هذا النوع من الانكار الذي يبدوا للبعض كأنه منطقي .

إن النقاش الفلسفي حول الفارق الكبير بين العبد والرب وبين صفات أفعالهم، مثل قرأ وكتب ونطق وكلمة نزّل وأوحى ، تم حسمه بطريقة قمعية في عهد أبناء الرشيد الأمين والمأمون … لصالح منهج تقديس النص بشكله ولفظه حتى لو تعطلت عملية التفكر والقراءه التي تستنبط من القرآن حلولا لما يستجد من أمور تبعا لتطور حياة ومعارف البشر … {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ومنذ ذلك الحين ركز الفقه الاسلامي الرسمي على النقل والاتباع والتقليد فقط ، وقمعت أي نزعة فكرية أخرى تحت باب الزندقة ، باعتبار أن القرآن هو كتاب الله وخاتمة الرسالات وهو الكافي وفيه كل شيء ، والواجب حفظه وترداده وتنفيذ أوامره حرفيا وليس التفكر فيه وفي الخلق . إنه ختام الرسالات … بعد الرسول لا نبوة  ولن يكلف الله شخصا بعد محمد أن يقرأ باسمه … فقد بطل التنبؤ واكتملت العقيدة ، لكن الوحي مستمر والاتصال بين البشر وربهم قائم ليل نهار … والمعارف تتطور وأمور الدنيا تزداد تعقيدا ، كذلك أسلوب صناعة المقدس والوصول اليه قد أصبح مختلفا ويعتمد على تراكم التجارب الجمعية للمفكرين والصالحين والمجتهدين والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء … لن يتوقف العقل والتفكر ولا الوحي والإلهام ولا التجديد والتطور بعد القرآن .  فالقرآن ليس نهاية العلم والمعرفة … إنه منارتها وليس سجنها إنه منهج للعقل المبدع. كما تتطور قراءاته بتطور علوم الكلام وعلوم الدلالات ومعارفنا عنها .

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

الإفراط في التقديس والتعظيم التقليدي الرسمي الذي تحدثنا عنه رغم كونه تعبيرا عن الإيمان والطاعة، فهو ينتهي بتقديس الشكل وأسطرة الأشخاص ، و يهدد بالانحراف عن الدلالة والانحراف عن ميزان العقل { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ }…  وهذا ما نبهت اليه الحركة الوهابية التي أرادت تجريف القشور التي غطت جسد الإيمان الحقيقي الصافي الخالص المنزه عن الشكل والتزيين… هذا الافراط هو منهج عقلي ينتج عنه تقديس الرسول وأسطرة الصحابة وحتى الفقهاء وتقديس القبور والمقامات ، ويستمر كنزعة مبالغة وغلو قد تشوه الوعي وتحرف التفسير لدرجة قد ينتج عنها التكفير والترهيب  والتشدد والتزمت . خاصة عندما يصبح هذا التقديس والتبجيل منهجا عقليا شاملا يجري فرضه على الآخرين ، بشكل مخالف لجوهر الدين الذي يعتمد العقل والمنطق وسيلة للايمان ، دين يعتمد الفطرة الانسانية ومخصص لحياة الانسان العادي البسيط الذي يولد  في عالم الشهادة منتظرا عودة نفسه إلى عالم الغيب حاملة معها تجربتها ، لا يحد من حرية عقيدته ومسؤوليته ، لكي لا نتناقض مع قوله تعالى

{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ،

أحيانا يصبح تقديس الشكل غطاء لتغييب المضمون … و قد يحول الدين من ايمان وقناعة ذاتية عقلية حرة لتقليد أعمى موروث كهوية … وينقل التقديس من المدلول للشكل الذي يحتويه ، ويتحول تقديسا للورق والحبر والحجارة والخشب … بينما يعتبر آخرون أنه حتى لو اعتدى جاهل على هذا الكتاب أو دنسه ، فهو لا يمكنه أن يطال المضمون المحفوظ الذي هو مطهر وغير قابل للدنس ، فالمضمون لا يدرك بالتقديس بل بالعلم والعقل والتفكر والترتيل …

أما من يعبد الشكل ويتغنى بالألفاظ ويعتمد الأحاسيس والعاطفة من دون تدبر عقلي للمعنى، فهو أيضا لم يفهم عمق الرسالة بعد، رغم تقديسه للكتاب المخطوط وتجويده له ليل نهار … بل ربما ما يزال يحمل في اسلوبه درجة من الوثنية تتجلى بعبادة الرمز المادي كمقدس بحد ذاته ، فالله له كل الأسماء الحسنى والمعاني والدلالات التي عرف بها لكنه ليس له صنم مادي معبود ، بما في ذلك كتابه ورسله و حجارة قبور أوليائه … فقيمتها الرمزية والتاريخية لا يمكن أن تضيفها للمقدس ولا أن تستبدله بها .

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

الرب والإله والإنسان: ( التوحيد )

لقد تطور مفهوم  الرب الأب  السيد the LORD , خلال عملية ادراك النظام (الوجود  الصارم القوي الثابت الحاكم  للوجود )،  فهو سيد القضاء ،  وتطور مفهوم الاله  the GOD الابن , خلال ادراك التدخل الفاعل الإرادي الخلاق المتفاعل فهو  الإبن القدير المطيع للأب القاضي ، ومع ذلك القادر  على العمل والإبداع والتغيير ضمن الثابت، وتحقيق الغايات الحرة بواسطة التحكم  بالحركة ( الزمكان ) ، لذلك فهو مثيل ابن الإنسان الذي يعقل ويقدر ويعمل ، والذي نبحث عن وسائل كسب رضاه والاستعانة بقدراته ، الإله يحمل اضافة لصفاته التي تشبه ما عند البشر من عقل وادراك وقدره على العمل والفعل ، يحمل أيضا غايات وأخلاق ورغبات إنسانية اجتماعية أخلاقية متشاركة معها عبر عنها من خلال أنبيائه ورسالاته (حيث جرى المزج بين الاجتماعي البشري المقدس مع الإلهي القدير, حيث المجتمع هو الكائن الجامع للفرد البشري و هو الأرقى في المخلوقات بل المتميز فيها .. ) .

لقد  دخل الاجتماعي  في حالة وحدة وتشارك مع  الغايات الإلهية , التي يريدها القدير الإله الابن الشبيه بالإنسان القريب المتفاعل معه , وهكذا نشأت العلاقة التشاركية بين  الإلهي والاجتماعي وبين الابن الإله والإنسان الذي نفخ فيه من روح الله واستخلف بالأرض وسجدت له الملائكة .. إن كان هذا الإله في شكله المجتجب كالخضر التموز أو حتى بصورة انسان اعتبر وليه أو صورته: السيدة العذراء أو ابنها المسيح بن مريم ، أو حتى الحسين …

مفهوم الرب ناتج تطور وعي الإنسان للنظام والقانون الحاكم للطبيعة والوجود المادي المشهود , وصولاً  إلى مفهوم الرب الواحد الحاكم الأوحد لنظام الكون الثابت : القضاء . و مفهوم الاله الحاكم الفاعل  المغير الخلاق القيمي الذي يتمثل قيم البشر ، هو أيضاً ناتج تطور وعي الإنسان للظاهرة الاجتماعية ، المتكونة حول القيم التي تؤسس لوجودها ، أي بشكل رئيسي وعي الظاهرة الدينية فيها ، مندمجة مع وعي القدر الفاعل ،  أما التدين فهو تلمس وجود النظام في الكون ، والحكمة والغاية وراء الأحداث, واستشعار إمكانية التواصل مع الآلهة الحاكمة للكون ، وإقامة علاقة بين الضمير الفردي الإنساني وبين هذه الآلهة , وبين العقل وبين الأرباب , بحيث يتكون العقل كصورة عن نظام الكون ، والضمير كصورة عن ارادة القدير في هذا الكون والمنسجمة مع القيم والأخلاق المجتمعية ..

و بسبب وحدة الكون واتساق نظامه المتعدد السويات ، يصبح منطقيا توحيد الأرباب المتعددة في رب واحد.. والآلهة في إله واحد , ثم توحيد مفهومي الرب والإله في مفهوم واحد جامع , يشكل وجوداً مثالياً وذاتاً وروحاً فاعلة خالقة وحاكمة هي أصل الوجود … , مع ذلك فإن هذا المفهوم لن يشمل كل الوجود , بل يغطي عالم الكلمة والنظام والعقل (العالم  المثالي) ، ويبقى إلى جواره عالم الوجود المادي الطاقة الحركة القوة ، فالوجود الذي يتركب عقلنا بناء على معرفته , يرينا الكلمة والطاقة مندمجتين وجودياً ومعاً ومن دون تناقض ، ويعلمنا كيف نفعل ونحول الفكرة إلى واقع وتجسيدها .. ويرينا أن الوجود الفيزيائي لا يصبح محسوساً من دون احتوائه على الوجود الميتافيزيائي، ومن دون قوة الفعل الذي يجسد الكلمة في عالم الطاقة والحركة. فعالم الطاقة من دون الكلمة  خلاء /عدم  عماء ، وجود غير مميز ولا ملموس .. لهذا نصل إلى مفهوم موحد أشمل ، يغطي كل الوجود بكل أشكاله موحدا كاملاً مفرداً  هو الله :

(الرب الاله / الكلمة الروح ) + ( الطاقة الحركة الزمكان   ) + (  القوة الفاعلة الواعية ) =  الله  ( الكل الواحد الحي الدائم  رب العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة ) ..

 أو بطريقة أخرى  حسب الثيولوجيا المسيحية : ابن + آب + روح قدس = الله   .

الوجود الطاقي الزمكاني المشهود المتجسد بالكلمة أو الخالي منها ( الخلاء الذي هو حركة عشواء غير منظمة زمان ومكان وطاقة فقط ) + النظام غير الملموس الحاكم له  ( رب) + روح القدس ( الكلمة ) +( الإله الفاعل ) = (كل الوجود ) = الله

كلهم جميعاً موحدين  معاً   هم الكل ..  وبذات الوقت الواحد ..  فالكل المطلق دوماً واحد  , بينما المتعدد ليس كلّاً مطلقا , بل هو كل لنوع معين أي لجزء وبالتالي هو (كل الجزء) ، وليس (كل الأجزاء)لنظام مة زمان ومكان فقط  ) = هوته وتجسدهسجدت له الملائكة ؤلفه المذكور هو عباس  أيضا  ..  الكل الواحد الله ليس شيئا ، بل كل شيء من فيضه وأجزائه , منه كل شيء وإليه كل شيء وهو كل شيء … لا يدرك من الجزء إلا تصوراً من خلال مقارنة أجزائه ، لأنه هو  الأول والآخر والظاهر والباطن , وهو بكل شيء عليم … هو الله جل جلاله ..الذي لا نرى شيئاً إلا ورأيناه فيه ، ورأيناه قبله , ورأيناه بعده . فالوجود بكله هو الله ، ولا ضرورة لافتراض وجود العدم قبله ، لأنه لا يمكن تصور هذا العدم المطلق ولا يعقل أن نشترطه سابقا للوجود ، بل إن هذا الوجود الحي الدائم هو الأصل المطلق ، أما العدم فهو نسبي وهو عدم الجزء فيه ، لذلك هذا الكل الواحد الحي ليس بمخلوق، متحرك أول بذاته ولذاته هو مبدأ الوجود كما افترض أرسطو .

وهو الواحد  الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .. هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض ،  يحيط بكل شيء ,  ولا يحتويه مكان ولا يسبقه زمان ..  وهو ليس شيئاً في الوجود ولا يتقاسم الوجود مع أي شيء ، ولا يوجد ما قبله أو ما بعده أو ما يحيط به أو ما يحده ، وكل شيء منه وإليه وفيه وتحت أمره … وهو الوجود وما قبله وما أحاط به وما بعده ، وكل شيء موجود فيه هو , وكل جزء أو مؤقت فان فيه ومولود منه … ولا يبقى  سوى وجهه الكلي  الواحد المطلق السرمدي سبحانه ..  حيث يغيب كل شيء سواه وعداه ..  فكل شيء هالك إلا وجهه …

{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } (سورة طه 111)

الله ليس الوعي الذي يوظف الطاقة ويتحكم بالزمن ( القدر ) ..  هذا مفهوم الإله فقط ، الله  ليس النظام الأصيل الثابت في الوجود (  القضاء ) أو  الطاقة الخالدة التي لا تنضب .. إنه مفهوم  الرب فقط ..  الله هو  الكل الواحد الذي يجمع الذكاء والنظام والطاقة والزمكان , وهو المتحرك الفاعل العاقل الخلاق المبدع ..  ولأنه كل شيء ، هو لا يشبه أي جزء منه ، ويعجز  الجميع عن تصوره .. فكل تصور أو ادراك لا بد أن يقوم على التصنيف والمقارنة , لذلك معرفة الله بالنسبة لنا هي دوماً استنتاج عقلي تحليلي تركيبي تشبيهي , تقريبي تجميعي ذهني مجرد ,  أو حدسي حسي مبهم، يقوم عقلنا بتقسيم ضدي للوجود بين خالق سرمدي ومخلوقات تحيى وتموت، لكنها لا تشكل ندا للخالق بل هي كلماته. فوجودنا يشبه وجود الأفكار في الذهن … كما هي معرفتنا بالآلهة ، واقعنا افتراضي بالنسبة للخالق ، والافتراضي بالنسبة لنا هو الواقع الحقيقي المحتجب .

كل وجود وأي وجود هو داخل هذا الحق الخالق منه واليه، كل الصفات له  ولا صفة تحدده ،..  وإذا استخدمنا مفاهيمنا نحن  عن  الزمان  والمكان ، والداخل والخارج . والقبل والبعد، والعدم والوجود، فإن هذه المفاهيم محدودة ونسبية ولا تصلح ولا تعمل في عالم المطلق وفيما هو خارج عن حدود ذاتيتها النسبية …  التي تحددها هذه المفاهيم لذاتها ، كمفاهيم خاصة بعالم الشهادة…

هنا تظهر محدودية العقل وموته في ضباب معرفة المطلق ، وعجزه عن رؤية الله الذي إذا تجلى لأي شيء جعله دكاً , مدمراً في تجليه كل قدرة على مشاهدته من هذا العالم الذي نعيش ، مما يستوجب تقلّص و تلاشي مصطلحات ومفاهيم العقل بالضرورة كلما اقتربنا أكثر من الكل الواحد .. الذي ينفي وحدانيته في الجزئي والمتعدد، بما يحتويه من تنوع وتعارض وتناقض وتغير وشر وخطيئة  .. لأنه بتناقضه وتنازعه يخالف هوية الواحد الحي الأزل، لكن بذات الوقت يوحي بوجوده ضمن هذا المتعدد وخلفه وتحكمه فيه من خلال  وحدة المتناقضات وانسجام الوجود رغم تنوعه وتغيره وانتصار الحق رغم كل الشر الموجود ،  ثم  يستعيد هذا الواحد ذاته المطلقة بنفي كل ذات جزئية ، الذي يتم بانسجامها وطاعتها ( تسبيحها ) أو باستعادتها وسحب كلماتها و ضمها للواحد المطلق الكل ( أي بوفاتها ) .

{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } (سورة فصلت 11 – 12)

قد يصعب ادراك الواحد الكلي من الوجود الجزئي ، لكن عندما يهلك كل شيء تظهر وحدانيته المطلقة

{ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

  • { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.}
  • { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) }
  • { اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
  • { هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }.

معهد دمشق للدرسات و البحوث 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.