في الذكرى الثالثة للثورة السورية الثورة المقهورة

(إلى فائق المير وسميرة الخليل ورزان زيتونة وفاتن رجب فواز، والكثيرين الكثيرين ممن يستحقون الحرية)

لم يتخيّل أحد من السوريين، قبل ثلاث سنوات، أن تمر الذكرى الرابعة لإندلاع الثورة وهي لا تزال مستمرة. اليوم، بوسع الكثيرين تفنيد الأسباب التي منعت الانتصار، ومنها عدم تقدير القوة الحقيقية للنظام، أي أن استعجال النصر كان خاطئاً في الأصل، إن لم يكن في مرتبة الوهم. ذلك يعني فيما يعنيه ألا نكون مع أوهام جديدة عن انتصار آتٍ، وأن نسلّم بأن الثورة في سبيلها إلى الانكسار وفق موازين القوى الحالية، وربما يكون استرجاعنا لذكرى الثورة نوعاً من الحنين إلى زمن الأوهام الجميلة، أو وقوفاً على أطلال ما تبقى من أناس وبلد، أتت عليهما معاً وحشية لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر. عدد القتلى وحده لا يعطي صورة واضحة عما حل بسوريا، إذا لم يكن مصحوباً بحجم الدمار، وبالتحطيم المنهجي الكامل لمقومات الحياة. وهذه حالة تعرض لها بعض المدن في التاريخ البعيد والقريب، لكن لم يتعرض لها بلد بأكمله. وبالتأكيد، لم يتعرض لها بلد من سلطته الحاكمة مهما بلغ استبدادها. على الأقل، من هذه الجهة، ليس بوسعنا الزعم بأن الثورة بخير ما دام البلد برمته ليس كذلك.

لقد أرادها النظام منذ ثلاث سنوات حرب وجود، بكل ما لها من معنى. وأيضاً، بأسوأ معانيها. وينبغي الاعتراف بأن الصراع الحالي بات أقرب إلى المفهوم الذي أراده النظام. نحن لم نعد أمام ثورة وفق الصورة التقليدية عن الثورات، بل أمام صراع يخص وجود السوريين على النحو الذي وجدوا فيه في أرضهم عبر مئات أو آلاف السنين، الصراع لم يعد صراعاً حول رؤيتين مختلفتين كلياً في السياسة، بل أصبح صراعاً حول الوطن، فإما أن تتكرس ملكيته باسم زمرة حاكمة، وأن نقرّ باستحالة عودة ملايين النازحين السوريين مع فتح الباب لملايين إضافية أخرى، أو أن يتملك السوريون وطنهم وقدرتهم على حكم أنفسهم معاً. كل الافتراضات التي يجري ترويجها عن حل سياسي في سوريا، لن يكون ممكناً تحققها إلا ضمن أحد هذين الحدين، لأن سوريا الموحدة لن تكون قابلة للقسمة بين النظام الحالي والسوريين؛ التقسيم شأن آخر لا يبدو مطروحاً الآن.

ثمة أوهام مقابلة تُروّج في الآونة الأخيرة عن انتصار النظام وإعادة تأهيله للبقاء، أوهام تستمد قوتها من الدعم الخارجي اللامحدود، الذي تتلقاه آلة القمع، وثمة رغبة جلية عند البعض في اعتبار الثورة وكأنها لم تكن، أو بعدّها حدثاً عارضاً في حياة السوريين. يترافق مع تلك الأوهام والرغبات، تمنيات صريحة أو مضمرة، بأن يتمكن النظام من تجاوز استعصائه الداخلي على التغيير، الاستعصاء الذي كشف عنه تعاطيه مع الثورة منذ يومها الأول. لكن المؤكد حتى الآن أن الثورة، رغم عدم تمكنها من النصر، منعت عن النظام فرصة حكم البلد على النحو الذي ساد لخمسة عقود؛ لا عودة إلى الوراء أبداً، العودة إلى ما قبل الثورة وهم كبير يراود أنصار النظام الظاهرين والمتخفين. المراهنة أيضاً على التضحية ببعض رموز النظام بغية الإبقاء عليه، قائمة على جهل بواقع السلطة السورية. فما تفهمه القوى الدولية الفاعلة محقةً، وهو الذي أعاق انتصار الثورة حتى الآن، هو أن تنحية رموز النظام ستكون مدخلاً لانهياره التام. الأمر لا يقتصر على حلفاء النظام وحسب، بل يشمل أيضاً القوى المحسوبة على أصدقاء الثورة، والتي تبرر تقاعسها عن حماية السوريين بالكلفة الباهظة لانهيار النظام.

قد تكون مصيبة السوريين، بخلاف ما حدث في دول عربية أخرى، أنهم أُجبروا على الفعل الأكثر جذرية، مع التبعات الباهظة لقطيعة من هذا القبيل. عمليات ترويض الثورة التي قامت بها مختلف القوى خلال ثلاث سنوات لم تؤدّ عملياً إلا إلى زيادة راديكاليتها (التطرف الإسلامي ليس سوى مظهر واحد من مظاهر التطرف)، لأن محاولات ترويض الثورة لم يقابلها في الجانب الآخر محاولات لردع النظام. ما حدث بالأحرى كان بمثابة تقوية للنظام على السوريين، ولعل الأخير لم يكن في بعض الأحيان أكثر من هراوة تُضرب بها الثورة، لتقبل ما لا تستطيع القبول به. ولعلنا لا نجافي الحقيقة بالقول إن الانتصار لم يُمنع تماماً عن الثورة، لأن الانتصار الأول قد حدث بمجرد انطلاقها، وبات معلوماً بعد عدة أشهر من البداية أن النظام غير قادر على إيقافها. لذا، بدءاً من العام الثاني تآزرت القوى الخارجية على إيقاف الانتصار، أو تفريغه من مضمونه على الأقل.

حرمان الثورة من أحقيتها بالنصر النهائي هو أعتى سلاح استُخدم ضدها حتى الآن، وقد تكون آثاره أمضى من الأسلحة المباشرة التي استخدمها النظام، لأن القهر الذي يولده الحرمان لن يتوقف عن الطرق على أبواب الحاضر والمستقبل. صحيح أنها ليست المرة الأولى في التاريخ التي تقُهر فيها ثورة، لكنها المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي يحدث فيها تدمير بلد وشعب بهذه الوحشية لكسر إرادته. أي أن الجميع يعلم استحالة قهر الثورة من دون قهر الغالبية العظمى من السوريين؛ على وجه الدقة، الجميع يعلم استحالة قهر الثورة من دون تدمير أهلها دماراً كاملاً. لقد صار وراءنا القول بأن السوريين وحيدون في معركتهم مع النظام، فالأصح القول إنهم وحيدون في معركتهم مع كافة القوى التي لا ترغب في انتصارهم، ومن ضمنها النظام وحلفائه. الثورة صارت أشبه بأمثولة سيزيف، صارت أن يدحرج السوريون الصخرة إلى الأعلى ثم تتكالب القوى عليهم لدحرجتها إلى الأسفل. لكن ذلك لم يمنعهم حتى الآن من معاودة المحاولة، مهما بدا الوصول إلى القمة مستحيلاً.

كان من الإنصاف أن ينزل السوريون في مثل هذه الأيام إلى الساحات للاحتفال بذكرى نصرهم، وكان من الإنصاف أن تغصّ الساحات بمئات الآلاف من أولئك الذين قُتلوا أو لا زالوا قيد الاعتقال. عدم حدوث ذلك حتى الآن، وعلى رغم كل العوامل المحيطة والمحبطة، لا يعني أنه لن يحدث فيما بعد. لقد مرّ السوريون بأوقات حالكة عديدة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وفي كل مرة منها وضعوا أيديهم على قلوبهم خشية انتصار نهائي للنظام، إلا أن الأمل كان دائماً يأتي؛ صحيح أنه كان أملاً ناقصاً، وأحياناً بالكاد يكفي من أجل البقاء على قيد الثورة، إلا أنه برهن على قدرة السوريين على الاستمرار بأدنى الإمكانيات. هكذا هو حال الثورات عندما تتحول إلى صراع من أجل الوجود، ينعدم فيها ترف تعدد الخيارات، ويصبح التفاؤل واجباً إزاء الحياة نفسها، لا مزاجاً شخصياً أو جماعياً؛ في الواقع، أي خيار آخر سوى الإبقاء على الشعلة الصغيرة للأمل سيكون بمثابة قرار بالانتحار الجماعي. القرار الذي يُستبعد أن يُقدم عليه شعب مهما تعرض للقهر.

الآن، ربما لا تكون لحظة مناسبة للاحتفال، بل على الأرجح، الطرف الذي بوسعه الاحتفال هو النظام، لأنه صمد لثلاث سنوات كاملة. سيان بالنسبة له أنه صمد أولاً على جماجم مؤيديه ومرتزقته من الخارج. كل الدمار الذي لحق بالبلد هو دمار أُلحِق بالثورة، ولن يعوّضه سوى نصر نهائي كامل، كل الذين قتلهم النظام هم موتى بانتظار قيامتهم لحظة النصر.

عمر قدور –  المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.