حجاب العقل في المذاهب الأربعة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

كما حمل عرب الصحراء متاعهم في ترحالهم ، وكما صاغوا ثقافتهم وتاريخهم وهويتهم في أبيات بليغة (الشعر ديوان العرب ) ، أخذوا القرآن شفاهة وبلاغة وحملوه جملة كوجدان في ضمائرهم … لكن الفقهاء وأولهم أبو حنيفة جاهدوا لاستنباط أحكام شرعية تطبيقية من هذا القرآن ، وصاغوا منه شريعة كانت ضرورية لاستتباب الحكم الاسلامي بعد فتح الأمصار وبروز الحاجة لتأسيس الدولة الجديدة التي هويتها الإسلام . وهكذا تم إعمال العقل وإعادة كتابة النص الوجداني المقدس على شكل نص فقهي دنيوي يطبق كدستور دولة ونظام اجتماع … وهذا ما أنزله من صعيده المقدس المتعالي الممنوع التفكير فيه، لصعيد المفكر به العملي القابل للشك والتجريب والمراجعة ، يتم تصنيعه كفقه جدالي ينتجه البشر ، يقترب من المدنس الدنيوي ، ويهبط من تعاليه بصفته كلام الله.

إن أول محاولة جدية لاستخراج العقلاني من الدين وتوظيفه في دولة مستقرة غير بدوية ( ليست عربية الهوى صحراوية الهوية ) هو المذهب الحنفي الذي قام بتبويب الفقه وأصوله ، وبدأ بصياغة فلسفة إسلامية عقلية (( أصول الفقه )) فبدأ كأي فيلسوف يستعمل العقل والمنطق في قراءة القرآن ، انطلق من الكليات وانتهى بالأحكام  والاستنتاج والاستدلال والقياس والإجماع والاجتهاد ، وبهذا السعي المختلف عن أي شاعر يعيش المشاعر الوجدانية  ويستخدم الموسيقى والعاطفة والفن والجمال ، ويعيش شكل النص وأنغامه وتلون دلالاته شعوريا، أنتج فقها عقلياً ومعرفياً وتوظيفياً في الواقع الحقيقي الذي يجب عليه العمل فيه …

من الكليات المطلقة المقدسة المتعالية الساحرة الخلابة توالدت الاستنتاجات والمماحكات والتفسيرات والشروح  الجدالية ، و استطاع كمفكر وفيلسوف التقاط المقاصد العملانية الكلية للتشريع والهدف منها  … ركز كثيراً على الجوهر وخرج إلى حد ما عن الرغبة في فهم النص الممتزج شكلا ومضمونا كما هو ، أو كمكون وجداني بلاغي فني دلالي ساحر ومتعالي ، نازلا من استخدامه الحسي الحدسي  نحو استخدامه  العقلاني العملاني في الحياة الدنيا و وفي مؤسسات السلطة كنص دستوري، هبط به من عليائه وجرده من سحره وترفعه وتساميه و روحيته , وصنّعه فقهاً توظيفياً موازياً للنص الروحاني , لكنه فقير بالروح والفن ، متماسك بالعقل الذي هدفه النجاح في الوظيفة والواقع والتطبيق .. ليطبق على الناس في الحياة العملية ويؤسس لنظام حياتهم ودولتهم الدنيوية بمقدار تنازله عن قداسته وتنزيهه ، التي ستنتقل  بدورها للسلطة التي ترتفع بمكانتها نحو المتعالي والمقدس بمقدار قدرتها على ادعاء تطبيقه ( وهنا المدخل للّعبة ) .

أما الشافعي فهو شاعر عربي امتهن الفقه وعاد به إلى الشعر ، وصاغه شعراً من جديد ، وصار فيما بعد بسبب ذلك صاحب مذهب ، ولكونه شاعراً  كان بالطبع يحترم النص كما هو ، وينزع دوماً للعودة إلى الحالة العروبية الوجدانية التي تقدس شكل النص وقراءته البلاغية الشعرية وليس العقلية التطبيقية .. فتراجع عما انتهى إليه الحنفي من الأخذ بالرأي والاستحسان والقياس…

أما مالك فهو أستاذ الشافعي نشأ في المدينة ولم يغادرها إلا نادراً ، وكان يجسد الدين الرسمي للمركز .. جل عمله تركز على تبويب الفقه وفق الاحاديث النبوية ، وجعل الفقه في منطقة يستند إلى الاحاديث الشريفة ، محررا العقل من التمحيص في قراءة النص الأصلي ( القرآن) ، الذي بقيت قراءته وجدانية شعورية تعبدية … فصار القرآن سندا للحديث ومرجعاً له ، بينما صار الحديث هو مصدر الشريعة ونظام الدنيا… وهكذا أعاد رفع المقدس وتنزيهه وأبعده خارج المفكر ودائرة عمل العقل ، واستعمل بدلا عنه الحديث النبوي الذي اختُلِف في صحته ودقته وروايته ، وقصص السيرة النبوية والصحابة ، أي أنتج فقها جديدا يرتبط بالمتعالي بطريقة غير مباشرة عبر شخص الرسول ، فما قاله الرسول في حديثه العادي لا يختلف كثيرا عما نزل إليه ، وكأنه يقر بأن الذي نزل هو الفكر ، وبالتالي لا يهم شكل النص الذي يحتويه ، وهكذا تحول القرآن لنص تعبدي شعري وجداني ، وصار الدين مستمدا من الحديث والسيرة النبوية ، وليس مباشرة من كتاب الله …

أما الحنبلية فقد كانت ردة فعل أخرى متشددة عروبية ضد نزعة عقلانية غير عروبية .. استخدمت الفلسفة اليونانية وشكلت خطراً داهماً حقيقياً على التنزيه والتقديس والوجدان ، في زمن احتدام الصراع العربي مع الشعوب الأخرى وحضاراتها على السيادة في الإسلام وإمبراطوريته الأهم في العالم حينها ..هيجت ردة الفعل هذه الحس العربي في مواجهة الفكر الاعتزالي الذي كاد أن يهيمن على الخلافة العباسية في عصر أولاد الرشيد ، والذي كان يسعى إلى التخلص من مفهوم  حرمانية  العقل و حرمانية ما ينتج عنه أو حرمانية استخدامه … و يدعو إلى عدم استبدال العقل بالنص ، فقامت الحنبلية كثورة ضده ، وفضلت العودة للقراءة الوجدانية التقديسية التعبدية البلاغية أولاً وأخيراً ، بدل القراءة العقلية التي هي إلزامية لمن لا يجيد اللغة ، فحيدت القراءة العقلانية في  قراءة القرآن وصارت حصرا على الحديث فقط ، الذي رفع إلى مرتبة المصدر الفعلي للشريعة، بينما جرى الافراط في تنزيه وتقديس القرآن ورفعه فوق مستوى العقل والفكر ، نحو البلاغة والموسيقى والوجدان الساحر والتجويد اللفظي المتكرر كأنغام وأشعار ومصطلحات تعطي للاسلام فنه وهويته …

لم يكتفى باستبدال القرآن المحفوظ ، بالحديث الذي اختلف فيه وفي سنده وروايته ، ولم تنفع في حسم هذا الخلاف عليه جهود الفقهاء حتى الآن، مما رسخ الانقسام المذهبي، وولد المزيد من الفرقة والضلال، وكرر خطيئة الديانات السابقة التي جهد الرسول لتجنبها عندما أمر بتدوين القرآن فقط ، ونهى عن تدوين غيره عنه …

ولكي تستمر وتترسخ عملية اغتيال العقل وحجاب التفكير الحر في النص المنزل كمفكر فيه ، وليس كنص شعري غنائي وجداني فقط ، لم يعد يؤخذ القرآن بكله ومجازه وروحه وغاياته جملة عند التفكير ، بل صار يقتطع منه أجزاء ذات صلة كل جزء لوحده ، ليستخدم كسند للحديث ، واعتبر الجزء صحيحا لوحده بشرط اكتمال المعنى،  ولا يشترط أن يفهم الجزء بدلالة الآيات الأخرى التي في حال تعارضها معه تصبح منسوخة وملغاة … وهذا ما فتح باب التجزيء وأوصل للانتقائية ، ضمن مسعى عنوانه اعادة رفع النص لمستوى فوق بشري غير قابل للتفكر ، إلا  فقط من قبل الخاصة والعلماء الشرعيين الذين لهم وحدهم حق الاجتزاء والتفسير والسند، مستخدمين ما توافقوا على صحة سنده من الحديث.

هذا العمل تطلب اعتبار القرآن  ليس ما نطق به محمد باسم الله ، ولا ترجمة لإلهام الوحي صاغها بما يعرف من أدوات اللغة ، بل اعتباره كلام الله الذي أنزله كما نراه نحن في كتاب مطابق للكتاب الذي جمعه عثمان ونقرأه نحن بين يدينا. متجاهلين صريح الآية الكريمة :

{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) } (سورة الحاقة 40 – 43)

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } (سورة العلق 1 – 5)

لم يكتف الفقهاء برفع شكل القرآن وقالبه اللغوي لجعله إلهي منزل من السماء بشكله كما هو رغم أنه عربي قرشي ، ورفعه فوق العقل واستبداله بالحديث . بل أمعنوا أيضاً في تبسيط العقل وتسطيحه ، فابتدع الفقهاء مفهوم المترادفات : الكلمات التي تشير لمدلول واحد ، أصبحت متطابقة ومترادفة لا فرق بينها ، فاستخدموا (القضاء أو القدر ) معا ككلمة واحدة ، و(تنزيل ووحي) ، و(كتاب وقرآن) ، وهذا التبسيط والتلخيص أضاع الكثير من الغنى والمجاز ، وقيد المدلولات ، وحرف بعضها ضمن عملية تطويع للمتعالي والتقييد الخانق للمجاز والتأويل ، الذي يصب في خدمة الفهم الأحادي المقيد والتحكم السلطاني الشمولي . ( اقرأ في هذا الصدد كتاب د. محمد شحرور ( الكتاب والقرآن ) )

و ابتدعوا أيضا في ذات السياق مفهوم  الناسخ والمنسوخ … فهناك عادة عدد من الآيات في مواضع مختلفة من النص تتناول موضوعا معينا مثل: ( الخمر ، الجهاد ، حرية العقيدة … )  فكيف نأخذ بأحكامها جميعا ؟ ببساطة اعتبر الأكثر تشددا ، والذي نزل آخرا  هو ناسخ لما قبله … مع أن القرآن عندما دوّن عن الرسول لم يأمر هو بحذف المنسوخ في حال افتراض نسخه ، ولم يحذفه عثمان ، ولم يجمع هذا الكتاب على ترتيب زمن النزول ، ولم يبوب على حسب المواضيع … وهو كوحي محفوظ  يفترض أنه منزّل عن أم الكتاب حيث لا يختلف أول الوحي عن آخره ، ولا سابقه عن لاحقه خلال فترة نزوله … وإلا لكان خبرة حياتية تتبع الظروف وحكمة يتم اصلاحها وتطويرها وليس رسالة منزلة خالدة سابقة التصميم … وهذا ما نفاه القرآن ذاته ، فهو إن طابق أحداث الواقع فهو يقاربها كمثل ومتشابه ، لكنه بمحكمه سابق عليها ومتجاوز لها ( وهذا أيضا تم اغفاله ) فاعتبرت القصص كتاريخ صحيح الحدث ، وليس قصصا ذات عبرة ( مع أنه قال أحسن القصص ولم يقل أصدقها ، فالقصة اختلاق وليس تاريخ ولا علم ، هدفها الحكمة وليس تأريخ الأحداث ) .

وبالتالي ليس من الصحيح نسخ شيء مما نزل في الوحي، ولا تقييد مجازه باقحام مفهوم المترادفات ، النص يؤخذ كله جملة بكل وأوسع معانيه على ذات القدر من الاهتمام والاحترام ، ويتم التعامل معه باعتماد منهج آخر مختلف تماما عن منهج  الترادف والنسخ هذا ، منهج يقوم على تطبيق مبدأ تعدد القراءات وتغير الأحكام بتغير الظروف، الثابت فيها هو المحكم والغايات والمقاصد وليس الشكل والحرف ، وهذا يتطلب حكمةً وتدبيراً وابداعاً وتقدير الظروف وتفكر وعقل ، وتفصيل الأحكام تبعا لها … فهو مبدأ ابداعي تفكري تهرب منه الفقهاء بعد اندلاع الانقسامات والنزاعات ، و تخوف منه السلاطين ، في زمن التأسيس والاضطرابات … لذلك تعاونوا معا على تكريس هذا التحديد الجامد الصارم المستبد ، المكرس بمنهج الاتباع الذي طبع الفقه الديني به وما يزال ، وقيد العقل بمقدار ما حدد الشريعة وقدس السلطان .

من بلاء هذه الدنيا أنها دار شك وحيرة وجهد وشقاء، فيها يتعارض التفكير والتقديس ( فالمقدس ليس من محتوى المفكر ، بل فوقه، وفوق كل شبهة أو شك يحرك التفكير ) ، وفيها تتعارض القداسة و الحرية أو ما يتضمنها من نظم كالديمقراطية : فالقداسة سلطة لا تُنازع ولا تُناقش ولا تُستبدل ، والسلطة أيضا شيء بعكس الحرية ، يجب عليها أن تكون منزهة فوق البشري لكي تقدس ، والديمقراطية بهذا المعنى هي بمثابة تدنيس للسلطة والتقديس معا ، والعقل مثلها يعمل بمقدار الشك الذي هو ضد الإيمان ، وتضافرهما معا ( أي الحرية والعقل ) يضعهما غالبا في مواجهة السلطة والمقدس مجتمعين ، أو السلطة المطلقة المقدسة المتحدة ، مع أنها تتوحد على خديعة ، فلا السلطان المطلق يحترم المقدس فعلا كونه بشر ، خاصة  إذا انعدم وجود محاسب ورقيب عليه ،  ولا  ضمير المقدس سيكون راضٍ بسلوك السلطان الفاسق الذي يشاركه الوجود والاحترام والسيادة ، ومع ذلك يتعايش الإثنان ( التقديس والاستبداد ) فضياع أحدهما يودي بالثاني، وتشاركهما هو الذي يعطيهم القوة المطلقة المقدسة، فلا يبقى التقديس بدون سلطة تنفيذية ، ولا تبقى السلطة المطلقة من دون شرعية وتقديس ، إنه حلف الضرورة،  لكنه شراكة نصفها يقوم على باطل …

في هذه الدنيا المحيرة يتشكل حلفين غير نزيهين الأول بين التقديس والسلطة المطلقة ، والثاني بين نقيضهما أي العقل والحرية، بما فيهما من تدنيس للتابو ، وفوضى في السلوك … وبين هذا وذاك يراوح الفقه الاسلامي ويتوزع منتجوه … لكنه في كل حال يبقى فقها وجهدا بشريا قابل للمراجعة ، ولا يجوز رفعه فوق التفكير ولا تقديسه مهما كانت المبررات ومهما استخدمت الحيل ، إنه جهد بشري ، ليس من سبقنا أذكى ولا أقدر منا عليه بعد هذا التطور في العلوم والمعارف ، فلماذا نتبع ولا نبدع ؟… هل نحتاج لثورة عقلية ثقافية تحررنا !.

يتبع …  الجبرية والخنوع في الفقه الإسلامي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.