يثب

الجبرية والخنوع في الفقه الاسلامي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما سأل أحد الأعراب حديثي الاسلام  هل يَعقلُ ناقتهُ أم يتوكلْ ؟  قِيلَ له : إعقلْ وتوكلْ ( فالمفهومان مختلفان ويحدثان معا ولا ينوب أحدهما عن الآخر ) . وعندما هجر الرسول مكة واختبأ في الغار قال لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فقد عقل وفعل كل ما بوسعه ، وتوكل بما لا سعة ولا وسيلة عليه ، نجاه الله ووصل المدينة فرفض أن يختار هو مكان اقامته فيها تجنبا لتفضيله قوم على قوم ، فتخلى عن القضاء الذي يعقله ويختار منه ، وترك الأمر للقدر عندما قال: خلّوا سبيل الناقة فإنها مأمورة … وحيث استراحت الناقة بملئ ارادتها أقيم منزله ثم مسجده ، بقدر من الله وحده دون تدخل من عقل أو تدبير، وهذا ما أرضى الجميع .

{ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  } (سورة التوبة 40)

وعندما سُئل الخليفة عمر بعدما تجنب المرور بقرية انتشر فيها الوباء: أتهرب من قدر الله ياعمر ؟ قال : أهرب من قدر الله إلى قدر الله (واجبي أن اعقل وأتدبر وأسعى في قضائه الذي أعرف ، أما  قدر الله فنافذ بعد وفوق كل سعي وتدبير ، أنا لا أهرب من القدر الذي لا يمكن الهروب منه ، بل أتدبر في القضاء الذي أتاحه الله لي، وأتوكل في القدر الذي لا طاقة لي عليه ولا أعرفه قبل تمام حدوثه )  فتقبل القدر والتسليم به يتم بعد إحباط السعي ونفاذ الأمر  وليس قبل ذلك، حيث لا علم لنا في الغيب ، بل إن واجبنا التدبر في القضاء والسعي به ، ثم تعزيزه بالدعاء والتوكل. فإذا نفذ الأمر قبلنا وسلمنا ولم نحتج ولا نلوم .

{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) } (سورة الحديد 22 – 23)

استغل معاوية تعقيد هذه المفاهيم وعسرة فهمها على العامة ، واستنتج لهم أن وصوله للحكم إنما هو أمر الله ومشيئته، فهل يعقل أن يأتي للحكم لولا أن شاء الله، وهو الذي يقول : يؤتي الملك من يشاء … فبعد أن حصّل معاوية الملك (بعقل القضاء وأخذ الأسباب واستخدام الحرب والدهاء ) جعل ما فعله بإرادته  قدرا من الله لا راد له … على الناس التسليم به ، فالمسلم هو من يسلّم بقضاء الله وقدره ويحمد ويشكر ، ومن يحتج يعصي ويكفر .

ثم  عَمّم من ورثه هذا المنهج وجعلوا من كل مقتلة يقومون بها دفاعا عن سلطانهم  قدرا إلهيا لم يكونوا سوى منفذين له ، بما في ذلك قتل الحسين وقصف الكعبة وتعليق ابن الزبير ( الذين أصابتهم أقدارهم التي قدرها الله لهم ) … أي أنهم حذفوا مفهوم ( العقل في القضاء) والسعي به والمسؤولية عنه ، ووضعوا مكانه مفهوم القدر الذي لا نقدر عليه ولا راد له ولا مسؤولية لنا عما يفعله ، فلولا المشيئة لما تم تقديره على الناس ولما وقع ، فالله وحده هو المسؤول كونه لا يحدث شيء إلا بإذنه .

{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) } (سورة التغابن 11)

ماذا لو كان إذن الله لا يلغي حريتنا ومسؤوليتنا كمسببين واعين ، ولنفترض أننا اخترنا أن لا نشارك ولم نفعل ، ربما لم يقع ذات القدر لأن القدر تشاركي ومبدع وليس منفصلا عن عما نقدره نحن،  أو على الأقل لحدث ذات القدر لكن ليس بأيدينا نحن ، بمثل هذا المنطق المعوج تتحول الحياة لمجرد عرض لبرنامج معد ومصور مسبقا ، لا قيمة ولا مسؤولية للمشاركين فيه ، ويحولهم لأدوات وآلات،  يستخدم مفهوم المشيئة للتهرب من المسؤولية . ( مع أن المبدع من اسماء الله الحسنى )

القدر ليس برنامجا معد مسبقا يعيد الله عرضه بلحم ودم وألم ودموع ، و ننفذه نحن كآلات نشعر به ولا نؤثر فيه ، القدر ابداع  لا يلغي القضاء الذي نعقله ونقدر فيه ، ولا يتحمل القدير المسؤولية عن افعالنا لمجرد أنه قهار ( إلا من باب قدرته على منع الشر والكفر والجريمة وامتناعه عن ذلك لغرض في نفسه )  ، وتوفر المشيئة التي لا تعترض حدث ما لا يلغي دور ولا مسؤولية من يفعل عن أفعاله ، فوجود قوة قاهرة لا يلغي مسؤولية من هو حر حتى لو كان أضعف ، ( وجودها لا يعني انعدام قيمة فعله ) صحيح أن الله يستطيع منع أي فعل فهو فعال لما يريد ، لكنه سبحانه هو الذي أعطى الانسان الحرية والمسؤولية وحمله الأمانة ليحاسبه عليها ، ولا يتدخل لكسر ارادته ، فيصبح هو المسؤول ، بل فطر الحياة الدنيا على الجهد والعمل الواعي الحر الذي نختار فيه ، فهو لا يجبرنا على الفعل وبالتالي لا تلغى مسؤوليتنا عن أفعالنا التي لا يجبرنا عليها ، وهو لم يتعهد بذاته عمل الخير فقط ، بل أمرنا به بعدما خلق الخير والشر ويسرهم لنا . الدنيا ليست آخرة ونهاية المطاف بل هي بوابة لها .

{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (سورة التوبة 39)

سمح الله وأذن بوقوع الظلم والجريمة وترك الشر والخير كامتحان ، أما وعده بالعدالة فلن يتحقق الا في الدار الآخرة . ومشيئته أن نكون أحرارا ومسؤولين عن أفعالنا منذ أن استخلفنا وأرسلنا للامتحان ولا شيء يلغي ارادته تلك وكل تفسير مخالف هو تفسير خاطئ . فالمشيئة الإلهية لا تلغي المشاركة ولا المسؤولية الإنسانية، والقدر لا يلغي القضاء بل يحققه . والله لن يتدخل عابثا مخربا قضاءه بل من ضمنه وبه ، فيفعل ما يريد كفاعل قادر هو من خلق القضاء وارتضاه ، قدرته لا تلغي قدرة ومسؤولية من استخلفهم للفعل من مخلوقاته … وقدرته على حدّها لا تجعل منه مرتكبا للشر ، وتغاضيه عن الشر والخطيئة هي ارادته وحريته ومشيئته في هذا الخلق .

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) } (سورة البقرة 30)

هذا لا يعطي الشرعية لأعداء بني أمية الذين ادعوا أن عصيانهم وتمردهم هو تكليف إلهي من أجل اعلاء كلمة الله ، وأن سعيهم للسلطة ينبع من واجب ديني ، وأنهم لا يقاتلون من أجل السلطة بل من أجل الدين ( لأنهم على حق ومن يقاتلهم على باطل) ، في حين اعتبر الخوارج أن حكمهم فقط هو حكم الله ، ومن دونهم الله حكم الله غير قائم وكأنه ليس عنده ملائكة يحكم بها ، وكل من يخالفهم يحل دمه كعاصي لله …

هكذا استخدمت مفاهيم الدين والعقيدة كأداة حرب في الصراعات القبلية والسياسية،  وما تزال هذه المفاهيم القاصرة تحكم النزاعات السياسية والفقهية في الوعي والتاريخ الاسلامي وصولا لليوم . حيث يدعي كل طرف أنه يقاتل لإعلاء كلمة الله وتنفيذ أمره ، حتى لو نقل المعركة لساحة الحرم المكي الشريف وسفك الدماء فيه ، وداس كل القيم الانسانية والاسلامية في صراعاته الدنيوية . لكن في مثل هذه الصراعات من ينتصر في النهاية هو العقل في القضاء الذي يقضي أن السلطة تستمد من الادارة والقدرة والسياسة وحسن التدبير والعزم والحزم ، ولا تحصل بالتقوى ، فالتقوى ليست قانونا لقيام واستقرار الدول …

ما انتصر به الأمويون ثم العباسيون لم يكن قدرا من الله حدث عفوا ومن دون جهد منهم ، بل هو قضاء سعوا فيه أذن به الله ولم يحبطه ربما لعدم توفر البديل الأفضل منه الذي يقوم به قوم آخرون ، لم ينصر الله المتقي الذي لا يفقه كيف يدير الناس ( فيجعل قدره عكس قضائه ) ، لأن نتيجة تراخيه وعجزه عن فهم مبادئ السياسة هي اندلاع النزاعات والانقسامات المهلكة ، لم يتدخل القدر لاحباط القضاء ، ولم يلحق الهزيمة بالذي يوحد وينظم ويديم الدولة ويفتح البلدان بسبب نجاحه الإداري والسياسي حتى لو لم يتق … فالخير والعمران هي أيضا مشيئة الله في الأرض ، بينما التقوى يجزي بها يوم الحساب . وصول المتقي المتعبد للسلطة ليس قضاءً ، بل هو جهد وعمل وسعي ودعاء واستجابة . إنه عملٌ بقدر نفعله نحن واجب إذا قصرنا فيه استبدلنا الله بقوم غيرنا بعد أن يعذبنا بتراخينا ويسلط علينا من لا يرحمنا، فكم قتل من المسلمين على يد المسلمين بسبب العنصرية القبلية الجاهلية ونزاعاتها التي فشل في احتوائها الخلفاء المتقون ، حتى أذن الله واستبدلهم بالمستبد القادر …فمن حيث النتيجة المستبد القادر أقل ضررا من المتقي العادل إذا عجز عن اقامة الدولة ، وإذا كان المستبد هو الوحيد القادر على وقف الفتن والنزاعات ، يكون ظلم القلة سببا في خلاص الكثرة .

كثيرا بل غالبا ما يجري الخلط بين مفهوم القضاء ومفهوم القدر و يؤدي التلاعب في استخدام المفهومين لتوليد الجبرية وتهريب المسؤولية وترسيخ التواكل والجبرية والخنوع … عن طريق جعل قدر الله قضاء مكتوبا له نتيجة محددة مسبقا لا يفيد معها السعي ولا التفكر ولا حتى الدعاء … واعتبار أن قدرة الله على كل شيء هو إلغاء لقدرة البشر على فعل أي شيء ، وهذا يتناقض مع جوهر العقيدة التي تأمر بالسعي وتستجيب للدعاء … فإذا لم يكن القدر مبدعا وتاليا للقضاء ، ومقرر مسبقا فلم السعي ولم الدعاء، ومن دون الحرية لم الحساب … وما فائدة السعي طالما أنه لكل أجل كتاب ، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون…

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) } (سورة الرعد 38 – 39)

{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) } (سورة يونس 49)

من دون اعادة تقييم معنى كلمات مثل أجل وكتاب وقضاء وقدر …  كما وردت في القرآن وتحديد مجاز معانيها لا يمكننا الوصول لتفسير لهذه الآيات ينسجم مع المحكم من اركان العقيدة ، فأي تحديد أو تلاعب في هذا المجاز الدلالي سوف يتولد عنه تناقضات مع العقيدة وعيوب فيها .

الفارق كما ذكرنا في مقال سابق بين القضاء والقدر أن القضاء هو نظام الكون ونواميسه الثابتة التي نعقلها ونعمل فيها ، وهي من مهام الملائكة التي سجدت لآدم وخضعت له ، بينما القدر هو الجزء المتمم المحدث للقضاء المعقول أي التحريك في الزمان والمكان التي تحول الوجود بالقوة ( قانون ) لوجود بالفعل ( تجسيد ) ( كما تقول الفلسفة ) وبالعكس ، القانون الرياضي والفيزيائي والكيميائي الذي نستخرجه هو تجريد بعد اشتقاق حركة المكان والزمان ، يعبر فقط عن المعادلة الملزمة اللازمانية اللامكانية ، لكن من يحرك العناصر بكموم محددة في المكان والزمان هو الفاعل الذي يقوم بفعل ضروري لتحقيق وتجسيد القضاء ( الوجود بالقوة ) وجعله بالفعل (وجودا مجسدا ) ، يختار القدر الفاعل من هذا الوجود بالقوة ما يريد ، وتظهر ارادته فقط عند اكتمال الفعل ، وهو القدر الذي نملك فيه حصة تتناسب مع امكاناتنا ، بينما تملك الآلهة بواسطة ملائكة القدير ما يفوق كثيرا أفعالنا فيه وما يحبطها أو ييسرها . وعلى ذلك فالقضاء ثابت لا يتغير كنظام وامكانيات ، لكن ما يحدث منه ويصبح واقعا متجسد بالفعل يحتاج لفاعل يفعل له طاقة وارادة نسميه القدر ، وهو مبدع قادر مشترك معنا ، نتفاعل معه وندعوه فيقدر علينا ما يتناسب مع سلوكنا وبحسب ما نقدر لأنفسنا يسهل الله لنا أو يعسر ، يحبط أو يمد ، نعيش حضرته الدائمة معنا في كل مكان وزمان وظرف وهو ما نلمسه من الخالق في تديينا … لكنه أبدا ليس الزاما محدد  مسبقا ، بل ابداع مستمر تفاعلي  يتعلق بما نختار وبما نسعى ، وما نأمل ونرجو ، وبوجوده يصبح الدعاء مهم كالعمل ويصبح الأصل في قبول الدعاء هو صدق النية التي يصدقها العمل . وما فائدة الدعاء والعمل إذا كان كل شيء محكوم مسبقا في كتاب ، بل إن المحكوم في كتاب هو القضاء ( الوجود بالقوة ) وليس القدر ( الوجود بالفعل ) الذي هو مبدع ومتفاعل حي لا يموت  ، فالله يطيل العمر ويقصره ، ويزيد الرزق ويقبضه ، ونحن أيضا نصدق دعاءنا بالسعي والوقاية والاعتناء . وكل ذلك فعال ومفيد ولا يناقض تسليمنا بالقضاء والقدر، بل إن تسليمنا بهم بالشكل الذي نفهمهما به يجعل من عملنا وجهدنا ودعائنا عاملا أساسيا في حصوله، وهو ما يشعرنا حقيقة الصلة بيننا وبين الحي القدير  .

كما هي مسألة السلطة والشرعية والملك كذلك مسألة الصحة والرزق وغيرها وغيرها … إنها قضاء أساسا يحققه القدر وما يظهر فيه كاستثناء هو ضمن القضاء لكنه نادر، عرفناه أو جهلناه ، وبمقدار جهلنا بمقدار ايماننا بالمعجزات، المعجزات حصول أشياء نجهل امكانية حدوثها ونجهل قضاءها ( ولادة عيسى ، انتقال قصر بلقيس ، كلام يونس مع الحيوان ، المكوث في الكهف … معجزات سنعود للتفصيل فيها ) ، فنظن أنها آتية من خارج وجودنا ، فيصبح ما نجهل من القضاء هو عالم الفعل الإلهي ، وليس عالمه ما نعرف ، ويصبح البرهان على وجوده يستدعي حصول المعجزات ، مع أن برهان وجوده هو استمرار الوجود الواقعي ذاته ، ومعرفتنا به تبطل المعجزات وتزيد من ايماننا ، والمعجز فعلا لا نراه ولا يجوز أن نقبل به كشيء خارج القضاء ، بل هو حتما من ضمن القضاء ، لكنه في القدر الذي يتعمد ويتقصد اختيار ما يندر جدا حدوثه ،ويكرر ذلك الندرة بحيث يحصل معنا ما هو جد نادر الحدوث لكنه عقلاني ومفسر بأسباب معقولة ، وهو في النهاية هي صدفة نادرة معجزة في ندرتها ، تدل على من اختارها وعلى ارادته وقدرته وتجاوبه …  فالمعجزة التي تدل على وجود الحي القيوم القادر المهيمن القريب المجيب ، ليست في فوضاه وخرقه لنظام الكون ونظام العقل والسببية الذي أوجده هو ، بل في خلق واحترام واستمرار هذا النظام ، ومع ذلك التحكم فيه والفعل فيه وضمنه بحيث تتحقق إدارته ومشيئته الحرة التي نتصل بها ونرجو منها فتستجيب وتمن علينا بما يعجز عنا ولا نتوقع حصوله بقدراتنا ( وهذا هو الإيمان العاقل ، وليس إيمان الجهل والمعجزات ) ، يجب مشاهدة الله في المعلوم والظاهر والمعقول وتلمس قدرته فيه، لا البحث عنه فيما نجهل ويبعد عن عقلنا واحساسنا … ( مصطفى محمود يعتمد على اثبات وجود الله حيث يتوقف العلم وتعجز أدوات المعرفة ) في حين أن الحس بوجوده يتطلب فقط ليس النظر في البعيد وأعماق المجرات والمحيطات ، بل النظر في مخلوقاته وتسييره للكون ( العلم وليس الجهل هو ما يجب أن يبنى عليه الإيمان ) فالجهل يتراجع وعندها ينقص الإيمان وهذا هو سبب تراجع قيمة العقائد التي اعتمد ايمانها بالله على الجهل والخوف والمعجزات ، فتراجعت مع تقدم المعارف . إن معرفة الوجود ومعرفة القضاء والقدر هي من يجب أن يدلنا بل يشعرنا بوجود الله لمسا وحدسا وتجريبا ، ويشعرنا بعبوديتنا له حيث ارادة الله الحرة تنفذ … والتي لا تنتظر ولا تؤجل بل تتحقق ابداعا مستمرا أزليا من آنها :

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) } (سورة القمر 49 – 51)

إذا أطحنا بمفهوم المترادفات ، عندها لا تعني كلمة كتاب تحديد وقت الأجل ، بل تحديد الأسباب القضاء ، بل يصبح هذا الوقت مرتبطا بالقدر الفاعل  الحر المنفتح ، و ما إن تجتمع أسباب القضاء بفعل القدر يتحقق من دون تقديم أو تأخير ، وما اجتماعها إلا قدر وسعي وهذا ما يحدد وقتها … فالعمر والرزق ليس محدودا بشيء أهم من السعي والجهد والتدبير ، كتابه هو ذلك ، والقدر يحدثه ويسهل أو يعسر ، ويتدخل عندما يشاء لكن ليس بغض النظر دوما عن مشيئتنا وسعينا ودعائنا الذي أحيانا يفوق العمل .

قضاء الله مثلا أن يعقل (الحجاج بن يوسف ) أن استقرار الدولة ، والقضاء على الفتن يمر بالحزم والصرامة فكان بسبب ذلك سيف الدولة الأموية ( وهذا قضاء وتدبر ) ، بينما توزعت أقدار الناس بين من وقع تحت سيف الطاعة ، ومن حمل سيف الفتح محبا أو خائفا من سيف الحجاج ، ومن قتل بسيفه ظلما دخل الجنة كمظلوم ، ومن فتح بسيفه خوفا دخل الجنة كمجاهد ، ربما لو تخلى الحجاج عن عقله هذا ، لقتل من الناس أعدادا أكبر على سيف الخوارج الذي سلط على رقاب المسلمين ، لأن الحاكم العادل المتقي قد فشل في الوقوف في وجههم ، فالحجاج يدفع شرا بشرا أكبر منه ، وما تؤدي له الفتنة من اقتتال وخراب هو  أشد وأدهى من القتل ، وظلم القلة أحيانا يحمي من ظلم الكثرة … فبعقل الحجاج ومنطقه صلحت الدولة وتمت الفتوحات ، بينما ظلم الكثير من الأفراد ، وهذا ما اعترض عليه سعيد ابن جبير الذي شاهد الموضوع من منطق جزئي مختلف عن هذا المنطق الكلي ، لكن نتيجته لو قدر له أن يسود ما كانت لتكون غير الفوضى وخراب الدولة الاسلامية ، وهذا ما جعل الحجاج يتردد ويتأخر ثم يندم على قتله ، وهكذا وبما فعله الحجاج استقرت الدولة وأنجزت الفتوحات التي وصلت الصين والأندلس …

{ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) } (سورة الكهف 67 – 72)

القضاء جعل السيف الأكثر غلظة على الناس هو الأكثر فتحا ، هذا هو القضاء الذي فيه الخير والشر في تفاعل وتداخل يتوالدون من بعضهم ، ومن تصارع الشر بالشر يولد الخير ، ويندر أن لا يكون الخير ممزوجا بالشر ، منه نختار وفيه نعقل ونقدر ونعمل … هذا هو بلاء الدنيا وحالها . ولو لم يوجد الحجاج ويعقل هذا لربما تفككت الدولة الاسلامية أو تحكم بها ظلم أشد هو الخوارج ، ولما حصلت الفتوحات … فالخليفة التقي الرحيم على قوم عصاة ذو عصبيات وتتنازعهم الخلافات ، كما الشورى في شعوب متنازعة ذات عصبيات لن تنتج إلا الفتن والحروب الأهلية ولن تحقن الدماء وتمنع الشر . أيهما أفضل انتظار وجود مسلمين جديرين بالشورى ، أم الغاء الشورى بانتظار وفي سبيل جودهم ؟؟؟

{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) } (سورة الحج 40)

الذي يحدث في الدنيا ليس الخير والحق فقط فقضاؤها قائم على الصراع بين الأضاد وابليس والشر باق ليوم يبعثون ، بينما نحن نعقل هذا ونقدر لأنفسنا ما سنحاسب عليه ، وما يتم ويحدث هو قضاء الله المنفذُ بقدره الفاعل المحرك القريب المجيب .

{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (سورة البقرة 33 – 34)

فهم كلمة كتاب الواردة في القرآن بمعنى قرار مسبق محتوم بزمان ومكان (قدر) لا أمل ولا وسيلة لتغييره ، يختلف عن فهم كتاب بمعنى نظام وقانون ينفذه ملاك هو جزء من (قضاء) ، يخضع ويسجد لنا بسبب معرفتنا وامتلاكنا للعقل الذي جعل الله الملائكة تسجد لنا بسببه، لنعقل فيه ونستخدم سلطتنا على هذه الملائكة ( القوانين التي قضاها الله ) … فيصبح أي حدث قادم ليس محتوما بل حصيلة مشاركتنا في ملكوت الله الذي استخلفنا فيه ،

{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) } (سورة الشورى 30 – 31)

الخلق فعل ابداع مستمر يتشارك فيه المقدرون إن كانوا عبيدا مستخلفين أو ملائكة ساجدين أو عاصين … و رفض ابليس السجود يعني أن الشر ليس قانونا يمكن عقله والسيطرة عليه ، لكنه احتمال وقوة خراب وافساد لكل قانون وكل حكمة وانتظام يمكن أن يتسرب من أي خلل ومن أي ثغرة نحدثها في سلوكنا غير العارف وغير المسؤول . لذلك هو ملعون في الخلق ومطرود منه لأنه ضده وقوة هدم فيه ، ومع ذلك فالخلق الفاني لا بد يحمل في داخله عناصر فنائه ، وابليس هو شرط حريتنا ومسؤوليتنا ونتيجة سوء أفعالنا . ولكنه ضمن مشيئة الله فإذا أطعنا وسوساته في افعالنا فهذه مسؤوليتنا نحن وليس مسؤولية من شاء هذا الوجود بما فيه وما عليه، وليس لنا مهرب منه ولا منفذ لغيره . أما التسليم فيتم بعد نفاذ الأمر وليس قبله ، ولا يعني أبدا أن نتكاسل أو نفعل بأمر ابليس .

كما ترون المنهج العقلي يفتح آفاقا مختلفة كثيرا في قراءة القرآن واستخلاص العقيدة والشريعة قد يكون فيه خيرا كثيرا …. وقد لا يكون ،  لكنه يبقى اجتهادا مشروعا  يطلب الحق … لنتابع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.