أبناء السجون وأبناء الجواري

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

قُدّر لي منذ شبابي أن أعارض النظام البعثي المستبد محاولا نشر ثقافة الديمقراطية ، ثم تحولت للثورة عليه عندما أصبح نظاما وراثيا يسعى لتخليد ذاته ، فلوحقت حتى لم أعرف يوما كنت فيه غير مهدد بالاعتقال ، وسجنت طويلا عدة مرات ، وعرفت في سجني نوعية الرجال الذين خرقوا قانون ونظام الاستبداد ، لا أقصد بهم القلة من السجناء السياسيين ( المثقفين )، بل أيضا وأهم منهم السجناء العاديين ( الجنائيين ) الذين فاقوهم رجولة وتحديا ، في زمن لم يك للفكر والثقافة دورا أساسيا ، فالكل يعرف لكنه جبان وخانع ، ما كنا نحتاجه يومها ليس الفكر بل الشجاعة ، وهؤلاء الجنائيون امتلكوا الجرأة وفكروا في خرق النظام والقانون ، ليس حبا في الجريمة بل رجولة وتحديا وفق منطق يقول : طالما أن الحاكم الظالم وحاشيته فوق القانون يسرق ويهرب ويرتشي ويخطف ويغتصب ويسلب ، فلنا أيضا الحق في فعل ذلك ( فالناس على دين ملوكهم ) ، وإذا كان هو قد اغتصب السلطة التي تحميه من القانون فنحن أيضا لدينا من الشجاعة و الذكاء الذي يجعلنا نخرقه ونغتصب حصتنا وحقنا … وإذا كان الموظف لدى النظام يقدم الولاء والخنوع مقابل تهريبه من مواجهة القانون فيرتشي ويختلس وهو صاغر لأنه بحماية الأمن ، فنحن نسلب عنوة ونهرب جهارا ونسترد ما سرق منا بأيدينا ومراجلنا ضاربين عرض الحائط بالنظام المجرم ، حتى لو سمينا باسمه ، نحن نتحدى نظاما قضائيا القاضي فيه أوسخ من المتهم ، نظاما فاسدا مفسدا لا يطيعه الا الجبناء والأغبياء… إنها ديمقراطية الفساد التي سبقت الثورة عليه …

شهدت في السجن الرجال الذين يقل نظيرهم في الخارج (ذكاء وشجاعة وتدبيرا )، ولكل منهم أسبابه ومنطقه الخاص الذي يبرر فيه فعلته الجنائية، ولديهم ذات السوية الأخلاقية التي تسود في المجتمع  حيث لا فرق بين الكسب الحلال والحرام ، لكنهم يتفوقون عليه بالرجولة والذكاء ، وكنت أقدر أنهم أكثر شرفا من الحكام و معظم القضاة والمحامين والشيوخ المنافقين ومن معظم رجال الدولة ، وأكثر رجولة وذكاء من العامة الخانعة المصفقة التي تظن أنها تخدع الحاكم وتضحك عليه الذي يرتضون لأنفسهم سرقة القشور … وراهنت عليهم لاشعال الثورة ، وحاولت معهم أن أحول نزعتهم الفردية للتمرد ، لثورة مبدئية ضد الظلم والفساد وليس تمرد داخله وفيه … وبعد  اشتعال الثورة كان أبناء السجون في طليعتها ، ومعظم من يخرج من السجن ينضم مباشرة لصفوفها، ويرسل لي أخبار ما فعله وأبلى به من بطولات … فلا تستغربوا أن يكون القادة في الثورة من أبناء السجون ومن الجنائيين وأصحاب السوابق ، فهم أشجع وأذكى وأكثر تمردا وخبرة وحقدا وهم بغالبهم مسلحون اعتادوا مقاومة النظام وعرفوا نقاط ضعفه …

في السجون تلغى الانتماءات الأسرية والأهلية فينتظم الناس تبعا لظروف مدنية مصطنعة ، فالبيت هو المعزبة ، والأسرة هم من يجتمعون حول سفرة الطعام المشترك فأخي هو ابن سفرتي ، وابن غرفتي وابن جناحي ، وابن دعوتي ، وشريكي في الجنزير الذي نكبل به عند سوقنا … نعم تنشأ هناك علاقات مدنية ما قبل أيديولوجية مادتها الشخص بذاته وبقدراته وحدها ، لا محسوبيات ولا مال ولا سلطات ولا مراتب ، عليك أن تنتزع مكانك بقدراتك فقط ، تمتحن في هذا المناخ القاس الموحش خبرات تنظيمية وقيادية ، وسط جمهور مشوه عنيف شديد العوز والتعقيد وقليل بل معدوم الانضباط ، أناس يجيدون كل أنواع وفنون التمرد ولا ينقصهم الذكاء ولا الوقت ولا الشجاعة لفعل أي شيء يحلو لهم بما فيه العصيان أو القتل …

هذا عن أبناء السجونفماذا عن أبناء الجواري

أبناء الجواري هم الحكام الذين يصلون للسلطة بالوراثة،  يولودون من نساء محظيات ،لا تربطهن بالحاكم سوى علاقة الجواري بسيدها حتى لو كانوا زوجات ( لافرق ) ، جواري مترفات يعيشون الرفاه والتبذير وقلة الذوق والأدب، ووضاعة القيم والخلق ، وظيفتهن تجميل بلاط الحكام وحماماته بالأنوثة المزخرفة ( الحرملك ) ، حيث لا يمكنهم أن يكونوا أمهات ، بينما يتربى أولادهن في أحضان الخادمات والحجاب والخصيان والجند والسائقين وعلى أكتاف التبع والمتملقين ، يفعلون ما يريدون … ليس هناك في حياتهم نقص ولا منع ولا عقوبة ولا حرمان ، يتربون وكأن كل شيء خلق لهم وحدهم … مشوهون تكوينيا واجتماعيا ونفسيا ومعدمون خلقيا ، لا يمكن توقع ولادة الخير فيهم مهما درسوا أو أرسلوا للكليات والجامعات ( حيث لا فائدة من التعليم إذا فقدت التربية ) … يفتقدون للحياة الاجتماعية الطبيعية التي تتكون فيها الشخصية وتتعلم معنى الحق والظلم ، والحاجة والغنى والصداقة والغدر والنصر والرحمة ….

إنهم حكام الوراثة  أبناء الجواري الذين حكموا تاريخنا السلطاني وطبعوه بطبعهم وما يزالون … ليسوا بشرا أسوياء بل كائنات يحملون من التشويه و الاعتلال النفسي والخلقي ما يبرر وضعهم من فورهم جملة  في المصحات الاحترازية … ومع ذلك يصبحون حكاما مطلقي السلطة ونصفق لهم ونتعلم من مدرستهم .

 لذلك تحولت من المعارضة للثورة (مباشرة بعد توريث النظام في سوريا ) ، وتوقعت أن يكون عهد الولد أسوأ كثيراً من عهد ابيه ، بعكس ما أشاعه المتزلفة الذين أحاطوا به ، وبعضهم اليوم بتزلفهم ذاته أصبح في قيادات المعارضة ويتحدث باسمها … الأب الحاقد فقرا وجهلا والذي استولى على نظام جمهوري اشتراكي بالانقلاب والتآمر والخيانة ، لشدة وفائه لمبادئه وأصدقائه وضعهم في السجون وحول الجمهورية الاشتراكية  لنظام سلطاني وراثي والوطن لمزرعة ريعية لأسرته وحدها … كل ذلك بمباركة وتسهيل من التبع المتزلفين والمتحزبين والمنتفعين الراقصين والمطبلين والمخبرين ، ودعم جدي من القوى الرجعية (الاقتصادية والدينية الرسمية)  التي ألفت مثل ذلك النظام واعتادت عليه وانتفعت منه وبه تاريخيا ، وتضررت مصالحها كثيرا من الجمهورية والحرية والنضال الطبقي ضد الاستغلال … نعم لم يك الأسد ولا ولده ولا طائفته كلهم بقادرين على البقاء في السلطة،  لولا هذا المناخ العام الذي ساعدهم ، ولولا وجود طبقة واسعة ليس فقط من الجبناء ، بل من المنتفعين السفلة ، الذين يعملون وراءهم وفي خدمتهم … تسلق بعضهم من جديد لقيادة المعارضة والثورة وأفسدوها وفسقوا فيها …

الثورة على أبناء الجواري يتقاسم قيادتها اليوم كل من التبع المنتفعين من الفساد الذين غيروا ولاءهم ( الائتلاف ) و أبناء السجون المتمردون ( أمراء الحرب ) ، قامت بينهما علاقة غير مقدسة ، بل شراكة ارتكاب وخطيئة مبررة فقط بالتمرد على أبناء الجواري، وتسعى لأن تكون مكانها وهي مثل حلفهم هذا (هيئة الرياض) ذات التركيبة الغريبة العجيبة التي لا تشبه سوى تركيبة النظاموتذكرنا فيه …  وحدهم المخلصون للفكر والقيم وأصحاب التجربة هم من أدرك المعادلة لكنهم سقطوا أو استبعدوا ، فناب عنهم الجهاديون الحقيقيون الذين يشكلون شوكة هذه الثورة اليوم ، لكنهم لفرط صرامتهم وتشددهم لم يستطيعوا تعميم نموذجهم الذي (أكثر وأثقل على الناس)  وفاق طاقتهم على اتباعه …

لن تصلح البلاد بالإبقاء على أبناء الجواري ، ولا باستبدالهم بغيرهم ، أو بمشاركتهم مع منتفعين من الفساد وجواري جدد رشحهن دي مستورا لسوق النخاسة ( جنيف والسلطة الانتقالية أو الوطنية )  ، ولا حتى بأبناء السجون ( أمراء الحرب ، مع سباياهم ) . بل لا بد من انتاج حالة اجتماعية سياسية مختلفة خارج هذه الدائرة المعيبة كلها … من يتوقع نصراً قريباً وسهلاً لهذه الثورة فهو واهم ، حتى لو انتصر فريق عسكري منها ، لقد احتاج قوم موسى أربعين سنة من التيه ( جيلين كاملين ) حتى تغيرت ثقافة العبودية التي خرجوا بها من مصر ، ونحن نحتاج إلى قدر من الوقت كاف لانجاز التغيير النوعي المطلوب في الثقافة السياسية التي لا بد أن تختلف  عما توارثناه وثرنا عليه ، والتي لابد أن تقوم على شراكة جدية بين القيم والسلطة ، السلطة التي لا تأتي بمال أجنبي أو نفوذ دول ولا دعمها ، والتي لا تقبل فسادا ولا اختلاسا ولا تعد على النظام ، السلطة التي تحاسب كل مرتكب حتى لو كان رئيسها ، السلطة التي تقام بقوة الشعب وتكون تحت رقابته ، وتحترم قيمه وأخلاقه … وهذا يحتاج لثورة ثقافية داخل ثورتنا السياسية تخرجنا من دائرة (أبناء الجواري والسجون)…

… لكن لنستعد لمعركة حلب أولا .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.