يثب

الاستبداد في الاسلام … من الشورى إلى البيعة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

ابسط يدك لأبايعك … هكذا طبق عمر بن الخطاب نظام الحكم في الاسلام عندما بايع أبي بكر في السقيفة وبشكل طارئ ولما يدفن الرسول بعد، حيث خشيا انقسام المسلمين وتفرقهم، فباشروا البيعة من فورهم . واستمر نظام البيعة  هذا بعد تلك الحادثة  في طول وعرض التاريخ الإسلامي ، وصولا  لبيعة خليفة الرصافة الجديد أبي بكر الأخير أمير داعش خليفة بلاد المسلمين … فهل خالف عمر وأبو بكر نظام الحكم في الاسلام ؟ ( أقصد الشورى ) وهما التقي الورع والصاحب الأمين ؟ أم أن نظام الشورى المزعوم الذي يتم به اختيار الحاكم ، ما هو الا ابتداع قام به الخوارج، ثم حدثه و استخدمه الاسلاميون المعاصرون ولا أصل له ولا سند في الدين ؟  هل كانت الشورى مجرد مشاورات مستحسنة يجريها الحاكم ، ولا علاقة لها باختياره أي بالبيعة التي هي مجرد إعلان ولاء وطاعة وتفويض بالأمر ، كيف طبقت البيعة وكيف طبقت الشورى ؟؟ لنرى في التاريخ ثم نعود للنص :

  • في التاريخ :

عندما أعلن عمر ولاءه وطاعته لأبي بكر اعتقد أنه يمارس حقه وما يراه صحيحا ، وتبعه بقية القوم وتبنوا خياره قناعة أو إحراجا، فهو في ضميره لم يفرض شيئا على أحد ولم يعطل أي شرع أو سنة بل مارس حقا …  مفهومه عن البيعة أنها ترشيح  وتفويض وحق يمارسه أي فرد، ربما تحتاج لنظام يؤدي لبيعة رجل واحد كأن تجري على مراحل . لكن لم يتم تصور هذه الشورى خارج المركز المكاني السيادي ( جماعة الرسول في المدينة )  ،  ولنفترض جدلا أن عمر وأبو بكر قد خالفوا عمدا وعن قصد جوهر الدين في هذا … فهل يعقل أن تستمر هذه المخالفة طوال هذا التاريخ :

أوصى أبي بكر الخليفة الأول وهو على فراش الموت لعمر ( إني قد استخلفت فيكم عمر من بعدي ) طبعا لم يتعمد مخالفة الشرع وهو ذاهب للقاء وجه ربه ، بل مارس واجبه وما يراه كذلك في زمن حروب الردة والفتوحات والمعارك المصيرية ، كذلك عمر وبعد مكوثه سنوات طويلة في الحكم ، ومباشرته بتأسيس دولة مترامية الأطراف ، لم يفكر بتأسيس نظام لاختيار الحاكم ، ولم يكن عنده أي فكرة عن مثل هكذا نظام (غير التعارف والتفاهم في الدائرة الضيقة لكبار القوم من قريش ، وهذا بحد ذاته متقدم  في زمانه ، حيث يسود التوريث ) ، وبدل أن يورث أو يختار من يخلفه ، أبدع ووسع دائرة الاختيار ، وجعلها شورى (بين قلة اختارهم هو بسرعة بعد أن أصيب في طعنة قاتلة) ، وألزمهم بيعة خليفة منهم بالأكثرية ، ومن لا يقبل بالنتيجة يقتل، لقد كان هذا أكثر ما يمكن المجازفة فيه في زمنه وظرفه ، فاختاروا عثمان بن عفان الذي لم يضع هو أيضا نظاما للحكم في الاسلام  رغم سنوات الرخاء والدعة ، فقتل هو الآخر على يد الرعية والرعاع دون أن يوصي أو يورث .

ثم طلب علي البيعة لنفسه وهو من كان مقتنعا بحقه في الخلافة وفقا لنظام الوراثة المعروف والذي لم ينص الاسلام على غيره، وسن سنة جديدة بقبول البيعة من قتلةِ الخليفة السابق ، واشراك الذين جاؤوا من البعيد من خارج دائرة القرار و صاروا من أهل الحل والعقد الذين يحيطون بالنظام الوراثي، مما أثار الاعتراضات من أقرب الناس وأبعدهم ، ولم يحكم علي سوى جزء من الديار الاسلامية ، وعندما أصيب هو أيضا بطعنة قاتلة على يد الخوارج (دواعش ذاك العصر ) عجل في توريث الخلافه وهو ينازع الموت لابنه الحسن ، وطلب البيعة لابنه وهو لا يرى في ذلك أي مخالفة للدين ، فبايعه البعض ممن لم يقتنع بوجود نظام آخر غير التوريث ، ومن هؤلاء من استمر بالتشيع لآل البيت ايمانا بوجود روح مقدسة مستمرة فيه دون غيره ، كما لم يبايعه البعض الآخر لعدم قناعتهم به ، وخذل الحسن اتباعه وشيعته عندما تنازل لمعاوية أملا في توحيد المسلمين تكرما منه وزهدا بالسلطة ،  بينما جدد الحسين آملالهم عندما تمرد على يزيد وريث معاوية الذي نقل الوراثة لبيته ولم يقدم عليها صالح المسلمين ، وهكذا انقسم المسلمون لوجهات نظر ونظم حكم مختلفة حتى اختلف الأخوة ، وصار عندهم أكثر من خليفة مبايع وما يزالون، وكل منهم يدعي احترام الدين (وهو كذلك) لأنهم خلفاء : من بني هاشم ، و بني أمية وغيرهم من العرب كأبناء الزبير، وكما ترون جلهم من خيار المسلمين ومن صحبة الرسول الكريم ، لذلك نعتقد أنه لو وجد نظام للحكم في الاسلام لاحتكموا إليه ولما تنازعوا .

منذ علي ومعاوية والأمويين والعباسيين اعتمد بشكل نهائي نظام التوريث وبيعة الوارث، و قتال كل من يطلب البيعة غيره ، بل قتل معظم المنافسين المحتملين وبينهم الأخوة والمقربين ، ومع ذلك ما كان أحد ليقول أنهم خالفوا الشرع ، فشرع الحكم هو ذاك ، أما شرع الدين فلا علاقة له بهذا الأمر المستحدث …

في صفين … هناك من خرجوا عن هذا النظام ، واعترضوا على التحكيم ، واصطفوا ضد معاوية وعلي كلاهما ، وضد هذه القسمة الضيزى ، وضد هذا المنطق الذي لا يتناسب مع قيم الاسلام كما فهموه ، فرفعوا في مواجهةِ نظام التوريث  شعارا حماسيا جدا لكنه غامض جدا ( لا حكم إلا لله ) ، نقول غامض لأن الله يحكم بملائكته ولا ينتظرهم ، فماذا يقصدون من هذا الشعار غير نزع شرعية الحكام ، و اعتبار كل من يقبل بهم جاهل بالدين جاهلي السلوك ، أي أنهم كفّروا الحاكم والمحكوم معا ونظام البيعة المعتمد كله ، واشترطوا في الحاكم أن يتصف بصفات محددة وبمعايير خاصة ، فثاروا كمتدينين مجاهدين ، وحاربوا باسم الاسلام ، وحوربوا وكُفّروا ، تماما كما كَفّروا العامة الذين لا يخرجون على الحاكم ، ومع ذلك انتهوا لأخذ البيعة لأنفسهم بالقوة وبحد السيف كغيرهم ، من دون آلية معقولة للاختيار والعزل ، ولم يتحفونا بنظام جديد اسلامي لاختيار الحاكم غير بيعة أميرهم هم  ( الخليفة قطري بن الفجاءه ) لأنه يحقق شروط الخلافة بنظرهم ، فمواصفاة الشخص هي فقط المقياس لكن لا طريقة للاختيار تمر عبر ارادة الناس ، فالموضوع هو موضوع معايير ومواصفات الحاكم من دون تحديد من يقرر ذلك ، وليس موضوع حق بالتفويض يمارسه المحكوم الذي يختار ما يريد ومن يريد من دون اشتراط عليه … وعليه فالبيعة كانت وما تزال إلى يومنا هذا  تؤخذ للحاكم الفاسق أو التقي من دون ارادة الناس ، بالقوة والجبر والاكراه أو بالحيلة والمكر كأي  عقد اذعان،  منذ يزيد الأول الذي أخذها بحد السيف من أهل المدينة على أن يبايعوه ( خولا له ) … وصارت بعده سنة متبعة … وصولا لبيعة يزيد الأخير (القائد الأسد)  الذي استعاد نظام البيعة وضرب عرض الحائط بنظام الانتخاب ، مستكملا تاريخ التسلط بعد التمكين ، ومطبقا ما سار عليه سلفه من المتجبرين والطواغيت … وكل هذا لا علاقة له ولم ينص عليه الدين .

نحن هناك لا نشك في نية وإخلاص الخلفاء الراشدين ولا حتى من جاء بعدهم ، ولا نتهمهم بمخالفة الدين ، لكننا نشير إلى حقيقة يجري توريتها عمدا على يد الاسلاميين المعاصرين ، وهي أنه لا يوجد نظام حكم إسلامي ، إنها كذبة اخترعوها ليسرقوا الحكم بواسطتها ، استمدوها  من بدعة افترضها الخوارج واتبعهم بها حزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير ، حتى انتزعها منهم من هو أولى بها أقصد خوارج هذا الزمان ، وكل ما يُدّعى عن وجود نظام للحكم في الإسلام اسمه الشورى والبيعة ، هو غير صحيح ، وغير موجود لا في الممارسة والتاريخ ولا في النص ، بل هو مجرد تصور تخيلي قام به أواخر المسلمين لمقارعة الديمقراطية ومعارضتها بما هو مقدس ومنزل ، يسلبون به لب الشعوب ويجعلونهم مطية سهلة (تبايع الله وزعيم التنظيم الإسلامي ببيعة واحدة ) … بعد أن قلدوا الخوارج في انكار أي سلطة غير سلطتهم هم ( لا حكم إلا لله ) . راجع في هذا الشأن كتاب الشيخ الأزهري علي عبد الرازق ( الاسلام وأصول الحكم ) 1925 المثير للجدل بعد أن خالف به المسلمات السابقة التقليدية ، مما حرك الأزهر لمحاكمته.

  • في النص :

لم يظهر الاسلام كثورة ضمن دولة مستقرة ، بل بعث في مجتمع قبلي جاهلي يعيش مرحلة ما قبل الدولة ، وانقطع الوحي قبل أن يتحول المسلمون من حلف يدار بطريقة اداره القبيلة (حلف محمد – المسلمين ، مقابل حلف قريش – الكفار ) إلى دولة تدار بنظام بطريركي مؤسسي ، فلم يكن في هذا الدين المنزل نظاما لدولة غير موجودة بعد ، بل دعوة أخلاقية قيمية فلسفية عقيدية دينية لكل البشر ، تتجاوز القوميات والدول ، دعوة فوق السياسة و قبل الدولة وبعدها ، لذلك لا يجب البحث في النصوص عن نظام للحكم والدولة الاسلامية ، فهي شأن غير ديني بل دنيوي ، متأخر لم يكن مطروحا في زمن البعثة ، ما يمكن البحث عنه هو القيم الاسلامية التي هي مكارم الأخلاق والحقوق … لذلك لم يوجد لا في القرآن ولا في سنة الرسول ولا في سلوك الخلفاء ولا من تبعهم نظام لاختيار الحاكم عبر مبدأ الشورى المذكور ، حتى أن الحديث والقرآن لم يذكرا نظام الحكم ولا طريقة اختيار الحاكم من أساسها ، مع أنهما  فصّلا في أدق تفاصيل الشريعة والقانون الجزائي والإرث والتعامل مع الزوجة ودخول المنازل وكتابة العقود والإرث ، و لا يوجد في القرآن  سوى نص وحيد يتيم مباشر ، مع ذلك يتحدث عن الأمر بمعنى الشأن وليس الأمر بمعنى الإمارة :

{ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) } (سورة الشورى 36 – 39)

أما فعل التشاور الذي تكرر عدة مرات فهو ما يقوم به النبي تكرما منه ولينا ، مع بقاء القرار بيده  هو كنبي ، وبحسب سنته هذه نستنتج  أن عملية التشاور لا تُنتج الحاكم ، بل إن الحاكم هو من يستخدم هذا التشاور غير الملزم كتكرم وتعطف منه ، لكن القرار في النهاية له وحده.

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } (سورة آل عمران 159)

كذلك فهِم الفقهاء كلمة شاورهم في الأمر كفعل يقوم به الحاكم ، وليس كفعل ينتجه ، وما استطاعوه فعلا وبشكل مؤقت واستثنائي هو فرض مجلس شورى يضمهم للحاكم أملا في تلطيف جبروته،  وهذا أقصى ما وصلوا إليه وما ابتغوه . وهو في أحسن حالاته مجلس لا يتخذ قرارات ملزمة للحاكم وليس فيه تصويت ، بل هو ساحة حرية وحيدة للخاصة المختارين الذين يحق لهم إبداء الرأي بحدود ضيقة ، أما غيرهم فمحروم كليا من ابداء الرأي السياسي ، وكذلك محروم بشكل مطلق من حق الاختيار في هذا الشأن، فالحقوق السياسية للمواطنين مصادرة تماما وغير معترف بها في الفقه الاسلامي، الذي يلزمهم بالطاعة والدعاء بصلاح الحاكم الذي آتاه الله الملك، وكل صلاح واصلاح مرهون فقط بتدين وأخلاقية الحاكم الطوعية من دون أي ضمانات ولا وسائل تكفل ذلك .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } (سورة النساء 59)

لا يوجد في الاسلام شورى لاختيار الحاكم ، أو محاسبته وعزله ، ولا فكرة عن مبدأ لترشيحه واستفتاء الناس فيه وتجديد ذلك دوريا…  على الدوام كانت الشورى حول تعيين ولي الأمر ،إن وجدت،  محصورة بعصبة أو بيت أو أسرة ، وفي معظم الأحيان تخضع للوراثة ، وعندما خلّف لنا الاستعمار نظام الدولة الحديث الجمهوري، بقي هذا النظام الطارئ يتعامل مع شعبه ويتعاملون معه كنظام احتلال غريب عنهم ، فاختار هذا النظام الغريب لنفسه تلقائيا نظام السيد المطلق ، عبر الحزب الواحد الستاليني الذي له قائد إله ، و سرعان ما انقلب على نفسه من نظام عميل غريب مستورد لنظام أصيل تراثي، عندما اعتمد التوريث التقليدي بدلا من الانتخاب من دون استنكار ولا استهجان ، وطلب البيعة بالقهر والتزوير والدساتير التي تديم ملكه إلى الأبد ، وسط تصفيق الشعوب ورضاهم التملقي التقليدي … فالتجربة الديمقراطية المشوهة القصيرة الوحيدة التي مررنا بها كانت امتدادا لفترة الاستعمار فقط .

أما البيعة فهي إقرار وإذعان وعهد على الطاعة يقدمه الناس للحاكم، وليست أبدا طريقة لاختياره ، فبعد تسمية الحاكم بالوراثة  أو في حلقة ضيقة جدا ، يبقى أمام المحكوم فقط ممارسة طقوس الخنوع والقبول والتذلل وتقديم البيعة صاغرا وعن ذل، كتوقيع واقرار لعقد الإذعان … لذلك أصر يزيد على أهل المدينة أن يباعوه ليس كإمام ديني وليس فقط كولي الأمر ، بل كخول له ، فهو يعتبر هذا العقد هو بمثابة عقد عبودية المحكوم للحاكم  وعقد نكاح أيضا ، وهو  بذات الوقت خليفة المسلمين الذين مبدأهم عبادة الله الذي لا شريك له والحرب على الطواغيت !!.

هذا هو التاريخ ، وهذا هو النص ، لا يمكن استبدال كل هذا التاريخ ، ولا الإضافة للنصوص المقدسة ، ولا يمكن القفز فوقهم إلى تصورات مثالية لا وجود لها إلا كمدونات في كتب ودراسات مستحدثة عن نظام حكم اسلامي خيالي نظري مفترض وليس واقعي ، انطلق هذا التخيل ليس من نصوص ثابتة محكمة ، بل من تأويل واستنتاج ، اعتمد على محاربة القرآن للظلم والطواغيت ، فاستنتج منها أن هذا النظام يجب أن يكون عادلا ، لكن كيف؟  لا طريقة واضحة ، فقط يركز على فكرة واحدة تعتمد بيعة حاكم مطلق لكنه تقي وعادل ، من دون آليات وضمانات … لذلك ما يزال البحث عنه جاريا حتى هذه الساعة من دون جدوى ، فالشخص التقي العادل لا يصل للسلطة بتقيته وورعه ، أما الذي يتمكن من الوصول للسلطة فهو سيضطر في طريقه لها لارتكاب كل أنواع الجرائم، فالطريق للسلطة هو فقط التمرد والقوة والعصبية ( مقدمة ابن خلدون )  ، لذلك عمليا يستمر الفساد في انتاج الاستبداد الذي يولد المزيد من الفساد ويديم نفسه بالمزيد من الاستبداد والبطش ….   وطالما توفرت القوة والغلبة استمر السلطان ، وعند زوالها يستبدل بالقوة أيضا بنظام مثله … لذلك تبقى هذه الدراسات والنظريات غير قادرة على كسر هذه الحلقة المعيبة ، بما تفتقره من إمكانية للتطبيق العملي القابل للحياة ، كان آخر هذه المحاولات وأكثرها استدامة هو نظام الحكم الحالي في ايران الإسلامية … فهل هذا نموذج الحكم الاسلامي الموعود ؟ وهل هذا ما تتوقعونه منه … هناك تجربة أخرى أقصر هي نظام طالبان ؟ وبعدها داعش ؟. اقترحوا علينا أيهم نظام الحكم الاسلامي الذي تعدون ؟؟؟؟

يجب الاعتراف أن بعض الثقافات لم تنضج بعد لانتاج نظام حكم العدالة والحق والحرية الذي دعا إليه الاسلام ، وأنه ليس فيها نظام للحكم غير التسلط والتوريث والمزرعة ، ولم تصل بعد مرحلة النضوج المدني الحضري التعاقدي ، الذي ينتج دولة لا تقوم على مفاهيم قبلية كالزعامة والعصبية والشمولية والاستبداد والغلبة ، بل على الحق المتساوي والتفويض الحر المراقب والمتجدد دوريا.  ولهذا السبب عندما قامت الثورات العربية ضد الاستبداد والفساد المجرم تاهت ولم تصل لبديل عنه ، بل أعادت انتاج الاستبداد والمزرعة والمحسوبيات والفساد ، فسارت هذه الثورات بدولها ونظمها نحو الفشل والحرب الأهلية ، ولم تستطع الخروج منهما ، لغياب المفاهيم التي يمكنها أن تعيد بناءها كدول ونظم سياسية تنظم الاختلاف وتحتويه ضمن أطر شرعية وسلمية ، تتيح ادامة الحياة الاجتماعية، وتجديد الحالة السياسية…  بل أصبح انقاذ هذه الشعوب من حالة التوحش والجاهلية هذه يتطلب ثورة في المفاهيم لا تكرار ما أوصلها لهذا الحال .

و مع ذلك عندما نتحدث عن النظام السياسي  الديمقراطي المستورد على علاته وعيوبه الكثيرة ، يقارعنا من يتنكر له حفاظا على الهوية والخصوصية  أو من يتهمه بالكفر ، فنحن بحسب ادعائهم نملك ما هو أرقى منه بكثير ( نظام الاسلام كدين ودولة ) … فنسأل بالله عليكم أين هذا الأرقى ، بل أين نظام الشورى الاسلامي ؟ … أرونا نموذجا واحدا لنتعلم منه … كل الذين يدْعُون لنظام حكم اسلامي بديل عن الديمقراطي ، هل لهم أن يفصلوا لنا أكثر ماذا يريدون ؟ هل يريدون تكرار ما سبق أن شاهدناه في التاريخ  ، أم أنهم سيبتدعون ، وفي حال حدّثوا وابدعوا … هل يتوجب أن يكون هذا خارج خبرات الشعوب والحضارات الأخرى ، هل سيبدعون ويخرجون عن سنن السلف الصالح السابق الذكر ، ويخالفوا منهجهم السلفي ذاته ، وهم من يقول (كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) هل سيكررون الماضي ، أم سيحدثون ويضلون ويكبون على وجوههم في النار بسبب مخالفتهم ؟ … أي منطق يستخدمون ؟ أين يذهبون بهذه الشعوب على غير هدى ولا بينة !… ألا يكفينا حكامنا القتلة ، هل يريدوا أن يزيدوا  في ضياعنا وتصعلكنا في دول العالم ، باسم الدين وبه وهو الذي بعث رحمة للعالمين …

والآن .. وبعد كل ما جرى لنا وبنا ، ألم يحن الوقت لقول الحق، ألا يكفينا فشلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، حتى شمل هذا الفشل الثورات التي قامت عليها وفيها كنظم للسجون وليس للدول … وكأن هذه الثورات قامت ضد أشخاص ولم تقم ضد نظم ، ولم تحمل فكرا غير فكر العصبة والقبيلة والغلبة والاحتكار والفساد … لذلك لم تنتج المناطق المحررة في أي من اصقاع العالم العربي والاسلامي غير نماذج للعصبوية والاستبداد والوحشية، أقصد نظام الحكم الاسلامي  ممثلا بالخليفة البغدادي يقلده  مئات الأمراء الاسلاميين الذين ينتظرون أن يصبحوا خلفاء  يقيمون حكم الله في الأرض ، لتستريح الملائكة عنهم  ….

أم علينا أن نقلد الغرب ونتخلى عن تراثنا وديننا كما يزعمون  … هل التمكين شيء يختلف عن ايجاد الأرضية لتطبيق نظام محدد وعملي للشورى … أم أن هذه الشورى تختصر بقرار شخص أو عصبة لتمتد له أيدي الرعاع فتبايع حيث لا خيار غير البيعة أو السيف ، فإذا بويع أمير أخر قامت الحرب ولم تتوقف حتى يهلك أحدهما أو كلاهما ويهلك المجتمع معهما ، أليس تاريخ العيش الحضري في العالم الاسلامي هو تاريخ للحروب الأهلية التي تتراوح بين فصلين أحدهما ساخن دموي عندما يتنازع ويتصارع الخلفاء المسلمون ، وآخر شديد قاسي لكنه بارد عندما يسود مستبد واحد ويحول دولته لسجن …

من هم أهل الحل والعقد ؟ كيف نختارهم ومن يختارهم ؟  هل لجميع المواطنين الحق في المشاركة على السواء وكيف ؟ … اليس النظام الديمقراطي البرلماني هو التطبيق الوحيد المعروف الذي يحقق أهداف الشورى والقيم الاسلامية ، ويقدم طريقة عملية للوصول للبيعة عن طريق انتخاب مجلس للحل والعقد ، فلماذا نكفّره وبماذا نقارنه ونستبدله …

لا يوجد حتى الآن في خبرات الشعوب والحضارات نظام للشورى أفضل من النظام المدني الديمقراطي المعروف على عيوبه وعلاته ، والذي هو نتاج أوروبي غربي لا جذور له في التاريخ الديني للسلف ، فهل هو كفر ؟ هل تحكيم الشريعة الاسلامية يكفي من دون آلية للشورى والبيعة … انتبهوا هنا من اللبس بين الشريعة والشورى ، حيث يعتبر كل نظام يطبق الشريعة في القضاء هو نظام سياسي اسلامي ، وهذا غير صحيح لأن  الشريعة نظام قضائي وليس سياسي ، وهي أيضا بكل أسف أصبحت غير صالحة بشكلها القديم في هذا الزمان ، بل إن حدودها لو طبقت ستوصف بالهمجية والوحشية ، لذلك هي معطلة عمليا دون تصريح ( كم سارق يدان وكم يد تقطع ؟ ، كم زانية يقبض عليها متلبسة وكم زانية ترجم؟  ) . فما هو يا ترى نظام الحكم في الاسلام؟؟  …. أين الفقهاء ؟ ما يمنعهم عن الخوض في مثل هذا الموضوع خصوصا في زمن الثورات السياسية … أليس هو جمود وتعطيل العقل ومنعه … ؟  ألا نحتاج  إذن لثورة في العقل وثورة ضد محتكريه وقاتليه … كيف نطبق ديننا من دون ذلك . أليس البديل عن إعادة قراءة الدين هو العلمانية، التي ترميه خارج الحياة وتضعه بجوار المقابر،

ألم تلاحظوا أن الديمقراطية لم تكن ممكنة في الدول الاسلامية من دون العلمانية، ولن تكون طالما أن الدين ينتج مباشرة ودوما حكم الاستبداد … هل ستحافظون على دينكم بدعم الاستبداد وشرعنته ، أم تسمحوا بتطوير قراءاته وتطبيقاته وتبدعوا فيها لينتج عنه نظاما آخر غير البيعة، أم ستخنقوه بتكراره ومنع تطويره  وتخرجوا معه خارج التاريخ ، ألم تفهموا بعد : أن منهج السفلية غير صالح لإدامة الدين بل هو قاتل له … ألم يخطر ببالكم أن القديم ليس الأصل … وأن الأصل هو الجوهر ، أما الشكل فقدره أن يبلى ويهترئ مع مرور الأيام وتغير الأزمان ، ولا بد له أن يتجدد ويتطور تبعا لتطور الحياة ، التي تستمر بالولادة والموت ، الأصولية ليست أن تعيش في الماضي ، بل هي تطوير الشكل وتحديثه حفاظا على الأصل الذي سار عليه السلف ، وحفظا للجوهر والمحكم في الفلسفة والعقيدة التي تركوها لنا … يتبع …         الإسلام  والسيف .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.