يثب

الثورة السورية .. واللغز الأميركي

أين صارت سوريا بعد ثورة شعبية دخلت عامها الرابع قبل أيّام؟ الاكيد أن سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة. كلّ ما يحقّقه النظام من «انتصارات» في يبرود وغير يبرود لا قيمة فعلية له ما دام هذا النظام في حال حرب مع شعبه. هل يمكن لنظام أن ينتصر على شعبه وأن يعتبر ذلك انتصارا يستمدّ منه شرعية لم يتمكن يوما من الحصول عليها؟

هناك بكل بساطة نظام انتهى، لكنّه يصر على أن تعني نهايته نهاية سوريا. هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الشعب السوري الذي يبدو أن عليه في الوقت ذاته مواجهة مجموعة من التحديات الاخرى على جبهات عدة.

لم تعد مشكلة الشعب السوري مع نظام يريد اذلاله ولا يؤمن سوى بالقمع فحسب، عليه أيضا خوض حرب مع ايران وروسيا، فضلا عن ادارة أميركية تعتقد أن الانتهاء من البلد هدف في حدّ ذاته.

في كلّ الاحوال، يبدو أن النظام السوري قرأ جيّدا الرسالة الاميركية التي تلت التراجع عن توجيه ضربة قويّة له، حتى لو كانت محدودة، بعد استخدامه السلاح الكيميائي في حربه على شعبه.

انتقل فورا الى ارتكاب مزيد من المجازر متكلا على الدعم الايراني غير المحدود وعلى السلاح الروسي. حلّت البراميل المتفجرة مكان السلاح الكيميائي، فيما تبيّن أن مؤتمر جنيف-2 لم يكن أكثر من مناورة استهدفت كسب الوقت لا أكثر والاستفادة من السذاجة الاميركية، التي يبدو أن لا حدود لها.

ما سمح به فشل مؤتمر جنيف-2 يتمثّل في أن النظام قرّر التقاط أنفاسه من جهة ومتابعة سياساته القديمة من جهة أخرى. لم يفهم الاميركيون، أو على الأصح رجال ادارة أوباما، وعلى رأسهم أوباما نفسه، أن هذا النظام لا يمكن أن يتغيّر الّا تحت الضغط. لم يسلّم السلاح الكيميائي الّا تحت الضغط. لم يسلّم عبدالله أوجلان في أواخر التسعينات الّا بعد تهديد تركيا باجتياح الاراضي السورية. لم ينسحب من لبنان الّا بعد تأكده من أن اللبنانيين عموما لن يقبلوا بعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه باستمرار الوجود العسكري والأمني السوري في بلدهم الصغير… مهما بلغت التضحيات التي سيقدمونها.

صدر القرار الرقم 1559 في خريف العام 2004 عن مجلس الأمن التابع للامم المتحدة. رفض النظام السوري التزام القرار الذي كان يعني بين ما يعني مباشرة النظام سحب قواته من لبنان وعدم التمديد لاميل لحود الرئيس اللبناني وقتذاك، الذي لم يكن سوى رمز للوصاية على البلد وللخضوع لـ«حزب الله» ومن خلفه ايران. اعتبر النظام نفسه «غير معني» بالقرار. أكثر من ذلك، مدّد النظام مستخدما الوعيد والتهديد ولاية اميل لحود. وباشر عبر من يستطيع الاعتماد عليهم، تنفيذ عمليات ذات طابع ارهابي بدأت بمحاولة اغتيال الوزير مروان حماده وصولا الى اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى التي تلتها. لم يوجد ما يردع النظام السوري ومنفذي الجرائم الموجودين على الأرض اللبنانية في غياب الضغط المباشر والفعلي.

مثل هذا الضغط المباشر، وليس التهديدات اللفظية الفارغة من كلّ مضمون، هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تضع حدا لمسلسل آخر من الجرائم يتعرّض لها الشعب السوري منذ أربعة عقود وحتى قبل ذلك، أي منذ قيام النظام الامني السوري في عهد الوحدة مع مصر ثم انقلاب البعث في الثامن من آذار- مارس 1963 ثم بدء وضع الضباط العلويين يدهم على السلطة في 1966 وصولا الى استفراد حافظ الاسد بالسلطة في 1970.

في غياب الضغط المباشر الذي يمكن أن يتمثل في اقامة مناطق آمنة تحمي السوريين من القتل، وفي ظلّ المساعدات الايرانية بالمال والرجال وفي ظلّ تدفق السلاح الروسي الذي تدفع طهران ثمنه، كان طبيعيا أن يسعى بشّار الاسد الى ولاية رئيسية جديدة.

لو اعطب الاميركيون مدرّجات مطار واحد تنطلق منه الطائرات التي تلقي البراميل المتفجّرة على السوريين، لباتت حسابات النظام من نوع آخر. لو سمح الاميركيون بفتح جبهة دمشق مستعينين بالحدود مع الاردن، لكان الوضع انقلب رأسا على عقب.

في ظلّ التخاذل الاميركي الذي لا يتمثّل في التغاضي عن جرائم النظام فحسب، بل يشمل أيضا التفاوض مع ايران في شأن ملفها النووي بدل التركيز على ما تفعله في سوريا ولبنان وأماكن أخرى، لم يعد ما يمنع النظام السوري من التأكيد أنّه لا يتقن سوى لعبة واحدة. انها لعبة التهديد والابتزاز التي يدفع ثمنها هذه الايّام الشعب السوري نفسه بعدما دفع اللبنانيون في الماضي ثمنا غاليا.

بالنسبة الى النظام، لم يتغيّر شيء. كان يبحث منذ البداية عن شرعية. الى اليوم لا يزال يبحث عن هذه الشرعية التي يعتقد أن القتل يمكن أن يوفرّها له. منذ متى يمكن للقتل أن يوفّر شرعية لنظام ما. هل كان هذا النظام وصل يوما الى السلطة من دون القتل ومن دون الانقلاب العسكري الذي نُفّذ تحت غطاء البعث؟

أن يلجأ بشّار الأسد الى مجلس الشعب السوري لمنع أي شخص من الترشح ضده في الانتخابات الرئاسية المقبلة يندرج في سياق البحث عن الشرعية. تكمن المشكلة بكلّ بساطة في أن لا وجود لادارة أميركية تقول له ان كفى تعني كفى وأن مجرّد التفكير في ترشيح نفسه للرئاسة ضرب من الجنون؟

بعد مرور ثلاث سنوات كاملة على الثورة السورية، لا يزال الموقف الأميركي لغزا. ما الذي يريده باراك أوباما؟ كيف يمكن لرئيس أميركا التأكيد المرّة تلو الأخرى أن لا مكان لبشار الأسد في سوريا الجديدة من جهة وأن يغض الطرف عن البراميل المتفجرة وعن سلسلة المجازر التي يتعرّض لها السوريون يوميا من جهة أخرى؟

كيف يمكن لاميركا أن تتفرّج على ما يمكن اعتباره التطور الأخطر في الشرق الاوسط في السنوات العشر الماضية. يتمثّل هذا التطوّر بقرار «حزب الله» القاضي بزجّ نفسه، بناء على طلب ايراني، في الحرب على الشعب السوري؟ كيف يمكن لادارة أميركية، أي ادارة أميركية، تجاهل أنّ هناك حزبا لبنانيا بات يضع الانتماء المذهبي فوق الانتماء الوطني. لم يعد هذا الحزب، وهو ليس أكثر من لواء في «الحرس الثوري» الايراني، يقيم أي اعتبار للحدود الدولية للبنان. فهمنا أن الادارة الاميركية ليست مهتمة بالشعب السوري ودماء أبنائه. هل باتت قلة الاهتمام هذه تنسحب على لبنان أيضا؟

انّه بالفعل لغز أميركي يسمح لنظام لا يمتلك أي شرعية من أي نوع كان بمتابعة مجازره… والبحث في الوقت ذاته عن شرعية. هل من شرعية يمكن أن توفّرها المجازر وآخرها ما ارتكبه النظام بدعم ايراني في يبرود؟!

المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.